في اتفاق غالبية المتحدثين في الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني الأربعاء الماضي، على ضرورة أن يكون هذا الحوار مقدمة للدولة المدنية الديمقراطية بادرة إيجابية تستحق التحية، فقد أجمع المتحدثون تقريبًا، بمن فيهم رئيس الجمهورية في كلمته، على أن مصر تستحق التحول لدولة مدنية ديمقراطية، وأن شعبها في أحوج ما يكون لهذا الأمر، والأهم أن الجميع كان لديه إيمان بأن مصر تستطيع التحول للدولة المدنية التي طال انتظارها وتأخرت كثيرًا.

في الأدبيات السياسية العربية تحل الدولة المدنية بديلًا لهؤلاء الذين يرفعون شعارات الحكم باسم الدين والحق الإلهي، أو باسم الوطن والوطنية.

الدولة المدنية هي دولة القانون والحرية والعدل والمساواة بين جميع المواطنين، لا فرق بينهم بسبب الدين أو الأصل أو الجنس أو المركز الاجتماعي أو الآراء السياسية، ثم أنها الدولة التي تحترم الإنسان وكرامته وحقه في العيش الكريم منزهًا عن الخوف والاحتياج.

في الرغبة المعلنة التي أجمعت عليها النخب السياسية تقريبًا للانتقال إلى الدولة المدنية يلزمنا الكثير جدًا مما هو غائب، وينقصنا الكثير جدًا مما هو غير موجود.

سياسيًا: في الدولة المدنية الديمقراطية لا قيود تفرضها السلطة على المجال العام أو العمل السياسي أو الصحافة والإعلام، وهي الملاحظة الأولى التي ينبغي الالتفات إليها لإعداد البلد للانتقال إلى حكم ديمقراطي، يضمن مجالاً عامًا حرًا ومفتوحًا للجميع، ويكفل الحريات التي نص عليها الدستور لجميع المواطنين، ويحترم التعددية والمشاركة من كل أبناء البلد، ويتحول فيها الناس إلى مواطنين لا رعايا، وتمنح فيها الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات والمراكز حقها في العمل بحرية وبعيدًا عن الحصار، ثم قبل هذا وبعده لا مجال في الدولة المدنية الديمقراطية لقيود تفرضها السلطة وأجهزتها على الصحافة والإعلام، أو منع الصحفيين والإعلاميين من ممارسة عملهم في كشف الحقائق وتقديمها للمجتمع الذي يجب- إذا أردناها دولة مدنية- أن يكون عالمًا بكل تفاصيل واقعه، ومشاركًا بالتقييم والمساءلة في كل ما تتخذه السلطة الحاكمة من قرارات وسياسات تؤثر على البلد ومستقبله، عبر حق تداول المعلومات ونشرها، فلا مجال للحكم الفردي المطلق، ولا لقواعد الاستبداد والتسلط على المجتمع ومؤسساته وأفكار أبنائه، ولا مجال للصوت الواحد والفكر الواحد، أو الملاحقات الأمنية للنشطاء والمعارضين وأسرهم وإيداعهم في السجون لشهور وسنوات باتهامات باطلة وشاذة وغير حقيقية.

في كل الدول التي بدأت طريق تحولها نحو الديمقراطية كانت البداية بأن يكون المجتمع بمؤسساته حرًا وفاعلًا ومؤثرًا وبعيدًا عن كل صور الحصار، ففي الدولة المدنية الديمقراطية صوت المجتمع يجب أن يكون أقوى من صوت السلطة- أي سلطة- فالحكومة التي تحتكر القوة- بالقانون والدستور- يوازيها المجتمع بمؤسساته وهو الذي يملك رصيدًا معنويًا وتأثيرًا شعبيًا يحد من انفلات القوة التي تملكها السلطة، ويخفف من كل صور الاستبداد والتسلط، وقوة المجتمع هنا تتمثل في أحزابه ونقاباته ومراكز الفكر والرأي والجمعيات الأهلية ووسائل الإعلام وغيرها من مؤسسات تضمن التوازن بين أهل الحكم وبين المجتمع، هذا التوازن الذي لا تتغول فيه السلطة السياسية على الدولة، ولا تبتلع مؤسساته، ويكون دورها الأبرز والأهم هو تطبيق القانون على الجميع بنزاهة وعدالة وشفافية.

شفافية العمل الاقتصادي، وعدم احتكار “الحقيقة” هي المبادئ التي بنت عليها الدول طريقها نحو النجاح والتقدم، ففي الدولة المدنية الديمقراطية يجب أن تخضع السياسات الاقتصادية للمساءلة والمحاسبة الشعبية والبرلمانية، فأولويات العمل الاقتصادي لا تنفرد به الحكومة، ولا تتسلط عليه وحدها، ويكون من حق المجتمع أن يتابع ويحاسب، ويكون من حق البرلمان الرقابة الجادة والحقيقية على الحكومة ومدى ما حققته من نجاح أو فشل، ومدى قدرتها على انتشال البلد وأهله من أزماته، ومساءلتها عن كل المشكلات الاقتصادية، بداية بمعدلات الفقر والبطالة، مرورًا بالديون الخارجية والداخلية، ووصولًا للغلاء ومستوى المعيشة ومكافحة الفساد والخدمات التي هي حق طبيعي للمواطن، ثم أن الإعلام من حقه أن يكشف ويسأل ويواجه الحكومة بكل فشل أو تراجع أو تردٍ في ملفات الصحة والتعليم والبحث العلمي والتصدير ودرجة الرفاهية التي ينشدها المواطنون.

في الدولة المدنية الديمقراطية تمثل الانتخابات العامة العنصر الرئيسي في صعود الرئيس إلى موقعه، والطريق الوحيد لعزله وخروجه من المنصب، فأصوات المواطنين في الانتخابات هي الحاسمة، وهي الأعلى، وهي التي تختار الرئيس، وهي التي تحكم على أدائه بالثواب والعقاب وقت التصويت، ثم إن الانتخابات نفسها يجب أن تكون حرة ونزيهة، وبعيدة كل البعد عن التدخلات الأمنية والإدارية، فهي التعبير عن احترام إرادة المواطن، والتأكيد على أن صوت الشعب هو الأقوى وأنه “صاحب السيادة” الوحيد، وأنه هو الذي يختار من يحكمه في انتخابات يتوفر لها كل ضمانات الشفافية والحياد.

في الطريق إلى الدولة المدنية الديمقراطية “مطبات” متعددة ما زالت مصر تعاني منها، وما زال الدرب غير ممهد لها، ولكنها “مطبات” يمكن تجاوزها بسهولة إذا صدقت النوايا، ثم إذا شفعنا القول بالفعل وبدأنا في السير، واحترمنا حق الناس في الاختيار والعدل والحرية، وآمنا بأن المصريين قادرون على النجاح في بناء دولتهم المدنية، وأننا لسنا أقل من دول كثيرة، في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، سبقتنا على نفس الطريق، ورسخت قواعد الحكم الديمقراطي الرشيد، وحققت طفرات مهمة على طريق التقدم، وكلها مؤشرات تمنحنا الأمل، وتؤكد أننا نستطيع بناء الدولة التي نحلم بها جميعاً عبر عقد اجتماعي جديد، يكون فيه صوت الشعب وإرادته هما الأقوى، هذا العقد الاجتماعي الذي يضمن أن تنصاع السلطة للقانون والدستور، وأن يختار الشعب حاكمه بإرادته الحرة، وأن تكون الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة هم الأسس التي ينبني عليها سيرنا نحو مستقبل أفضل بكثير تنتظره مصر وتستحقه.