حين جلست إلى شاشة التليفزيون التي تنقل الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني، كنت أسأل نفسي صادقًا: ما الذي ينقص هذا الحوار؟ ولماذا تتشكك أغلبية المتابعين لمجرياته منذ الدعوة إليه وحتى جلسته الافتتاحية؟ ما الهدف من وراء الحوار؟ ولماذا فقدت أغلبية الناس الأمل في أن يكون هذا الحوار منتجًا ومفيدًا؟
هذه الأسئلة وجدت صداها في القاعة التي شهدت الجلسة الافتتاحية حين طلب المنسق العام من المواطنين خارج القاعة أن يتابعوا الحوار، وأن يراقبوا المتحاورين، وناشدهم أن يصبروا على الحوار.
المواطنون الذين ـ حسب كلمة السيد عمرو موسى ـ يتحاورون في منتدياتهم العامة، وعلى مقاهيهم، وفي كل لقاء لمجموعة منهم، وهم يشعرون بالكثير من القلق، ويخافون على مصير البلد، ويطرحون على أنفسهم الأسئلة التي نقل بعضها إلى قاعة الحوار، ويعبرون عن مخاوفهم على مستقبل بلدهم التي وجد البعض منها طريقه إلى المتحاورين، وجرى التعبير عما يشعرون به من قلق وخوف من القادم، وعن افتقادهم للبوصلة التي تقودهم للخروج من كل هذه التساؤلات، وطمأنتهم من كل هذه التخوفات، وتفتح أمامهم أبواب الأمل المغلقة منذ حين.
**
مرة أخرى: ما الذي ينقص هذا الحوار؟
بلغة الأحكام القضائية، يمكنك أن تقول إن القضية المطروحة على الرأي العام مقبولة من حيث الشكل.
فليس من أحدٍ يمكنه أن يرفض دعوة إلى الحوار الوطني، جرت على مدار 12 شهرًا كاملة عمليات إعداد وتهيئة، وترتيب وإقناع لأطرافه بالاستمرار فيه، والمشاركة الفعالة في فعالياته، وانتهى الأمر بعد عام كامل إلى أن يتوافد كل هؤلاء إلى قاعة فخيمة؛ ليفتتحوا حوارهم المرتقب.
تنظر في قاعة الافتتاح فتجد بقايا ثورتين، لم يعد متبقيًا منهما غير تلك البقايا، يناير وبعض رموزها، ويونيو وكثيرٌ من ممثليها، وآخرون لا هم من هؤلاء ولا من هؤلاء، ولكن الثورتين مغيبتان، حتى يونيو نفسها لم تكن حاضرة بالمعنى الذي عبرت عنه فيما سمي وقتها «تحالف 30 يونيو»، بل إن حوارات وأحاديث وكلمات المنسق العام تحاول أن تؤكد طول الوقت على أن هذا الحوار ـ في جوهره ـ هو إعادة إحياء لهذا التحالف الذي سقط بالسكتة الأمنية منذ سبع سنوات على الأقل.
**
هذا من حيث الشكل، أما من حيث الموضوع فإن هذا الحوار ينقصه الكثير.
يفتقد ـ أولًا: الروح التي كان يجب أن تبعثها الدعوة إلى حوار وطني جامع وشامل، ففقد قدرته على صناعة مناخ عام في البلد يستبشر بالحوار، ويأمل فيه خيرًا، ويتوقع منه أن يكون منتجًا ومفيدًا.
وينتقص منه ـ أيضًا ـ الكثير من الإجراءات الأمنية التي صاحبت الدعوة إلى الحوار، وواكبت مسيرة الإعداد له، ولم تغب حتى عن يوم افتتاحه، وما تزال مستمرة رغم دوران عجلات الحوار، حيث صاحبت أخبار التحضيرات النهائية؛ لانعقاد الحوار أخبارٌ أخرى عن القبض على المزيد من المواطنين، والعديد من النشطاء المنتمين إلى الأحزاب المشاركة في الحوار، وصدرت ضدهم قرارات بالحبس احتياطيًا بتهم صارت معلبة ومكررة ومستهجنة.
والغريب أن بعض المقبوض عليهم ـ مؤخرًا ـ ينتمون إلى أحزابٍ لها دور بارز ومشهود في إبقاء لغة الحوار قائمة، والحفاظ على عجلة الحوار دائرة، شهد لهم بذلك ـ علانية ـ المنسق العام للحوار.
لم يوفر الحوار المناخ الذي يدفع إلى الأمل فيه، وبدا الأمر أمام المتابعين وكأننا أمام جهتين، واحدة تمُد يدها للحوار مع معارضيها، والأخرى تمتد أيديها للقبض عليهم، وزجهم في سجون الحبس الاحتياطي الذي لا ينتهي.
أخيرًا: ينقص هذا الحوار وضوح الهدف منه، بعبارة أدق: ينقصه التوافق على هدف واحد، وموحد فلكلٍ هدفه منه، الداعون إليه والمتحمسون له لهم أهدافهم، والمشاركون فيه ـ بحماس أو على مضض ـ لكلٍ منهم أهدافه.
وقد تعجبت أشد العجب حين وجدت المنسق العام للحوار يعتبر أن أهم مميزات هذا الحوار التي تجعله مختلفًا عن الحوارات الوطنية السابقة عليه أنه حوار بدون أهداف (!)، قال بالنص: «هذه هي المرة الأولى التي تشهد مصر حوارًا وطنيًا بلا أهداف محددة مسبقًا، سوى هدف واحد عام يتسع لنا جميعًا، وهو أن نتوافق حول أولويات العمل الوطني».
**
الصديق والزميل الكاتب والباحث المرموق ضياء رشوان وقع تحت حماسه للحوار الذي هو منسقه العام في خطأ، المقارنة المتسرعة بين تجارب مصر مع الحوار الوطني بعد ثورة يوليو 1952.
في الكلمة الافتتاحية التي ألقاها مع دقات طبول افتتاح الحوار الوطني، قال المنسق العام للحوار: «إن أول شيء أود الإشارة إليه أن الدعوة للحوار الوطني الذي دعا إليه رئيس الجمهورية في 26 إبريل من العام الماضي ، (وهذه ليست مجاملة للرئيس عبد الفتاح السيسي، وإنما هو واقع شهدناه منذ 1952)، أن هذا البلد لم يعرف حوارًا من هذا النوع، بعد ثورة 23 يوليو شهدنا حوارات أخرى سابقة، شهدنا حوار المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وشهدنا حوارًا حول ورقة أكتوبر عام 1974 و1975 في عهد الرئيس محمد أنور السادات، وشهدنا حوارات أخرى في عهد الرئيس محمد حسني مبارك».
وأشار رشوان ـ وهو يغمْز مِنْ قَنَاةِ الرؤساء السابقين كلهم ـ إلى أن الفارق بين هذه التجارب يكمن في أن «الرئيس عبد الفتاح السيسي ليس له حزب، أو اتحاد اشتراكي، كما كان في الحوارات السابقة»، وأن الرئيس السيسي دعا المصريين جميعًا إلى حوار مفتوح حول أهداف يحددها المصريون، وأكد: «هذا اختلاف جدي وجذري عن الحوارات السابقة».
لم ينفرد الزميل الأستاذ ضياء رشوان بهذه المقارنة الخاطئة، بين حالات وظروف شديدة الاختلاف، كان قد سبقه إليها أستاذة الدكتور عليّ الدين هلال المسند إليه موقع مقرر المحور السياسي بالحوار الوطني، إلى القول: «إن تجربة الحوار الوطني ليس لها سابقة في تاريخنا السياسي، ولم يحدث من قبل هذا الحوار على هذا المستوى، وبقدر هذا الاتساع وبهذا الحجم من دقة الإجراءات، مشيرًا إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي حريص على الاستفادة من كل الآراء».
**
الحقيقة التاريخية التي لا يشكك فيها أي مؤرخ منصف، أو يمكن أن ينكرها أي باحث مدقق، أن تجارب الحوار السابقة ـ خاصة في عهدي الرئيسين عبد الناصر والسادات ـ انطلقتا بالأساس تعبيرًا عن رغبة حقيقية في إشراك القوى الاجتماعية والسياسية في وضع «دليل للعمل الوطني»، في مرحلة جديدة من العمل السياسي، وقد شهدت كل مرحلة منهما تحولات كبرى على الصعيد الوطني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
المؤكد ـ عندي ـ أن الصديق ضياء رشوان يعلم أن المشاركين في الحوار الوطني أوائل الستينيات قد جرى انتخابهم، على مراحل تبعًا للفئات المختلفة، وأسفرت هذه الانتخابات عن تشكيل المؤتمر الذي ضم 1500 عضو، منهم 379 يمثلون الفلاحين، 310 يمثلون العمال، 150 من الرأسمالية الوطنية، 293 من النقابات المهنية، 135 موظفًا، 23 سيدة، 105 من أساتذة الجامعات، 105 طلاب من القسم الثانوي والجامعات، يضاف إليهم أعضاء اللجنة التحضيرية، وهؤلاء وحدهم الذين اختارهم رئيس الجمهورية.
والمؤكد ـ أيضًا ـ أن المنسق العام للحوار الوطني، يعلم أن المناقشات التي دارت في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية كانت مفتوحة بدون قيد ولا وصاية، وقد شارك الرئيس جمال عبد الناصر في أغلبها منذ لحظة انطلاق المؤتمر، مشاركة جدية، مناقشًا وموافقًا ومختلفًا مع المطروح من الأعضاء في مختلف القضايا، ومحاضر اجتماعات المؤتمر منشورة، ويضمها كتاب مطبوع على نفقة الدولة وقتها، وربما صدر عن «هيئة الاستعلامات»، التابعة لها.
حجم المشاركة الفعلية في التجربتين تختلفان أيضًا، الأستاذ أحمد بهاء الدين (وهو لا يمكن حسابه على نظام عبد الناصر، بل إن علاقته بالرئيس السادات كانت أمتن وأعمق)، يتحدث عن المشاركة في صياغة الميثاق الوطني فيؤكد على أن: «المساهمين في كتابة الميثاق الوطني، ومن صنعوا أفكاره قبل صياغته قرابة خمسمائة مثقف مصري، كل مثقف قال رأيه كتابة أو شفاهية في مجلس عام أو في مكان مغلق، في تقرير مكتوب أو شفاهي، وأن توجه الرئيس عبد الناصر كان واضحًا، حول ضرورة سؤال المثقفين والسياسيين، فتجمعت لديه أفكار وكتابات كثيرة، انتقى منها فيما يبدو ما يريد، ثم دفع بها في نهاية الأمر إلى محمد حسنين هيكل ليكتبها في صياغتها الأخيرة».
**
جاءت الحوارات الوطنية في خضم تحولات كبرى، فكان الحوار الوطني الأول في أوائل الستينيات تمهيدًا وإعدادًا؛ لتحول كبير في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وكذلك كان حوار السادات منعطفًا جديدًا في السياسة المصرية، واتجاهات مستجدة في العمل الوطني.
كان كل من الرئيسين عبد الناصر والسادات يملك تصورات واضحة، وتوجهات سياسية محددة، وانحيازات مختلفة، بنيت على أسسها وفوق أساسها استراتيجية جديدة لمستقبل العمل الوطني.
فجاء المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي انعقد في مايو 1962 وأقر وثيقة «الميثاق الوطني»، التي اعتبرت أول دليل عمل مكتوب تستند إليه السلطة الحاكمة في تحديد موقفها السياسي والاجتماعي، وجاءت تعبيرًا عن التحول إلى الاشتراكية، بما تضمنه هذا التحول من العديد من القرارات والإجراءات والسياسات.
وكان من بينها إجراء انتخابات عامة لمجلس الأمة، ووضع الدستور الدائم سنة 1964، والشروع في تأسيس «الاتحاد الاشتراكي العربي»، كتنظيم سياسي شعبي جديد، وليس كما قال المنسق العام للحوار الجاري من أن عبد الناصر كان يمتلك اتحادًا اشتراكيًا، قاد به الحوار الوطني إلى الغايات التي كان يرجوها من الحوار.
ثم كان الحوار الثاني الذي أطلق الدعوة إليه الرئيس السادات بعد ستة أشهر من انتصار أكتوبر، وبعدما اكتسب بهذا الانتصار الكبير شرعية محققة، وشعبية كبيرة، فبادر إلى طرح «ورقة أكتوبر»، لكي تكون ركيزة للحوار حول «تحولات جوهرية وضرورية لنقل السياستين الاقتصادية والخارجية إلى مسار جديد يلبي تطلعات الأمة المصرية في السلام والاستقرار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية».
عبَّرت «ورقة أكتوبر»، عن توجه جديد، ونهج سياسي مختلف في الداخل والخارج، وكانت بمثابة افتتاحية لمسيرة الانفتاح وفتح الاقتصاد المصري؛ للاستثمار الخاص المباشر من الخارج، في الوقت الذي بدأت فيه إشارات واضحة على الطريق إلى واشنطن، وإعادة رسم خريطة السياسة الخارجية المصرية على هذا الأساس الجديد.
**
الفارق كبير بين تجربتي الحوار الكبيرتين في مايو 1962 وفي أكتوبر 1974، وبين تجارب الحوار في عهد مبارك والحوار القائم اليوم، الحواران الأول والثاني واكبا وصنعا تحولات كبرى في المجتمع، والسياسة والاقتصاد وعلاقات مصر الدولية، أما الحوارات الأخرى فكانت في أحسن الأحوال ردود فعل نظام مأزوم، يبحث عن تثبيت شرعيته، أو تجديدها، أكثر مما يهدف إلى صناعة تحولات كبرى في الواقع.
لا أحد يستطيع أن يجادل كثيرًا في أن الداعين إلى الحوار والمشاركين فيه، أعينهم مصوبة على الانتخابات الرئاسية في ربيع العام المقبل، أكثر مما هي متوجهة إلى أن يكون الحوار هو الطريق إلى «الجمهورية الجديدة»، كما هو معلن في أدبيات الحوار وشعاراته.
«الجمهورية الجديدة»، نفسها ما تزال مفهومًا غامضًا، لا توصيف نظري له، ولا تحديد سياسي لمقوماته، ولا تحكمه تصورات واضحة لمدلوله.
بعكس الانتخابات الرئاسية، فهي فضلًا عن كونها هدف قريب، فهي أيضًا هدف ملموس، وواقعي، ومطلوب التحضير له في ظل ظروف تختلف كليًا عن تلك التي كانت موجودة في الانتخابات الأولى، التي جاءت بالرئيس السيسي إلى الاتحادية.
وهي كذلك مختلفة عن مثيلتها التي أعطته ست سنوات أخرى إلى مدته الرئاسية الأولى، والتحديات التي تواجهها مصر بالداخل والخارج تكاد تكون تحديات وجودية، يصغر أمامها تحدي الإرهاب المحدود في سيناء رغم بشاعته، وخسته وتكلفة القضاء عليه والحد من خطره.
مصر اليوم تواجه تحديات بعضها ناتج عن سياسات خاطئة أوصلتنا إليها، وناتج البعض الآخر منها إلى صعوبات متراكمة من عهود سابقة، والبعض الثالث هو نتيجة وقائع وأحداث لا يد للسياسة المصرية في صناعتها مثل وباء الكورونا، والحرب الروسية الأوكرانية واشتعال النيران في محيط مصر الإقليمي، بل وعلى حدودها من الغرب في ليبيا ومن الجنوب بالسودان.
وأسوأ كل هذه التحديات هو التحدي الذي يواجه الاقتصاد المصري في ظل أزمات مركبة أنهكته، وأرهقته وتكاد تكتم أنفاسه.
**
كل هذه التحديات تضع هذا الحوار كفرصة أخيرة.
ويقع على عاتق الداعين له، والمشاركين فيه، إجابة السؤال الإجباري المطروح عليهم:
ـ هل يجعلون من الحوار فرصة حقيقية تفتح المجال واسعًا أمام تصحيح المسارات؟ وتغيير السياسات، وتعديل الأولويات، أم يبقى محصورًا في لعبة استهلاك الوقت حتى انتخابات رئاسية تحوطها الأزمات من كل جانب.
هي آخر فرصة يدخلها النظام الحاكم، ومعه مؤيدوه (من كل المحسوبين عليه، وبعض المعارضين له)، بعد استنفاد كل الفرص التي سبقت دون أن تحقق تغييرًا صار ضروريًا، ومن غير أن تفتح فرجة للأمل في تغييرٍ طال انتظاره.
الأغلبية التي تئن تحت وطأة غلاء الأسعار، وتكدر سبل الحياة، والانخفاض المستمر في قيمة العملة الوطنية، إلى جانب اشتداد القبضة الأمنية على الحياة العامة، والخاصة للمواطنين، هؤلاء جميعًا يتشككون من الأصل في أن يكون هذا الحوار منتجًا، ومفيدًا ومحققًا لبعض آمالهم في التغيير المنشود.
وحده التمسك بالأمل لدى كثير من المشاركين في الحوار، وبعض المتابعين لفاعلياته، هو الذي يجعلهم يأملون في أن تكون السلطة ـ بعد كل ما عانته من أزمات، وما سببته قراراتها من إخفاقات ـ قد وعت دروس السنوات العشر الأخيرة.
والأمل ـ في الله ـ ألا يخيب للناس أملهم الأخير.