كتبت في مقالات سابقةٍ عن توقعاتي بشأن التغيرات المستقبلية، التي ستشهدها المنطقة العربية في ضوء التقارب الإقليمي السعودي الإيراني، الذي يتطور برعاية صينية روسية. وقد كانت تلك التوقعات مبنية على أساسٍ اقتصاديٍ أمْلاهُ واقع جيوسياسي يتشكل بدافعٍ من المنافسة المستعرة بين الصين، والولايات المتحدة الأمريكية، التي لم يأت الشرق الأوسط على رأس أولوياتها كالمعتاد وفقًا لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي صدرت في أكتوبر الماضي، والمعروفة باسم “استراتيجية بايدن-هاريس للأمن القومي”. كانت التوقعات مرتبطة ببعض الملفات الساخنة: ملف اليمن، وملف لبنان، وملف سوريا.

جاء في تقرير للبنك الدولي عن الاقتصاد السوري الصادر منذ أسابيع (وإن كان قد أُعِد من قبل الزلزال الأخير بسوريا في فبراير 2023)، أن ظروف الاقتصاد الكلي قد تدهورت بشكل كبير منذ بداية الحرب على أوكرانيا. ففي ظل استيراد ما يقرب من نصف الكميات المستهلكة من النفط، وحوالي ثلث الكميات المستهلكة من الحبوب، أدى ارتفاع أسعار السلع الأساسية الناجم عن الحرب على أوكرانيا، إلى إضعاف الوضع المالي مما تسبب في ارتفاع مستويات التضخم الذي على الرغم من توقع انخفاضه، إلا أنه سيظل في مستويات مرتفعة بسبب أثر تدهور أسعار الصرف، واستمرار نقص الغذاء والوقود والمزيد من تقليص الدعم. وقد جاء بالتقرير أيضًا أنه في ظل درجة عالية من عدم اليقين، من المتوقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 3.2 % في العام 2023، بعد انخفاضه بنسبة 3.5 % في العام 2022، مع بقاء المخاطر على توقعات النمو كبيرة وتميل إلى الاتجاه سلبًا.

فيما يتعلق بآثار زلزال فبراير2023 الكارثية على الاقتصاد السوري، أصدر البنك الدولي تقريرًا آخرًا لاحقًا للتقرير المشار إليه أعلاه أُطلق عليه “تقرير التقييم السريع للأضرار، والاحتياجات الناتجة عن الزلزال في سوريا لعام 2023″ جاء فيه أن الأضرار المادية الناجمة عن الزلزال تقدر بنحو 3.7 مليارات دولار أميركي، أمَّا الخسائر فتُقدَّر بنحو 1.5 مليار دولار أميركي، ليبلغ إجمالي قيمة الأضرار والخسائر 5.2 مليارات دولار أميركي. وتُمثِّل الخسائر انخفاض التصنيع في القطاعات الانتاجية، وتقلُص الإيرادات، وارتفاع تكاليف التشغيل في مجال تقديم الخدمات. ويتصدر قطاع الإسكان قائمة القطاعات المتضررة (24% من إجمالي الأضرار)، تليه قطاعات النقل والبيئة (نتيجة التكلفة المرتبطة برفع الأنقاض)، والزراعة. وعلى صعيد الخسائر، تكبَّد قطاع الزراعة أشد الأضرار، إذ انخفضت إمدادات المواد الغذائية بمقدار 1.3 مليار دولار أميركي (83% من إجمالي الخسائر).

في ختام زيارته التاريخية والتي تُعد أول زيارة لرئيس إيراني لسوريا منذ ثلاثة عشر عامًا، قام الرئيس إبراهيم رئيسي، ونظيره السوري بإصدار بيان مشترك يوم الجمعة الماضي تم فيه التأكيد بالعبارات الديبلوماسية التقليدية على أهمية تعزيز العلاقات الثنائية، وضرورة احترام السيادة الوطنية والاستقلال والحفاظ على وحدة أراضي الدولتين، ومكافحة الإرهاب والتطرف.

إلا أن البيان قد تناول في جانب منه، وبوضوح شديد، استعداد الجانبين ورغبتهما باتخاذ كل الإجراءات؛ لتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما من خلال الآليات القائمة بما فيها اللجنة العليا المشتركة، كما أكدا على التعاون القائم بينهما فيما يتعلق بإعادة إعمار سوريا، وهنا نصل إلى مَربط الفَرَس. لا تتعامل إيران في علاقتها مع النظام السوري بنفس نمط التعامل مع لبنان أو اليمن، فعلاقة إيران مع لبنان تقوم على أساس تدعيم مركز حزب الله؛ باعتباره وكيلًا لها في المنطقة المُتاخمة حدوديًا لإسرائيل بما يحقق مصالحها، التي أعيد ترتيب أولوياتها في ضوء العلاقات الجديدة مع السعودية، وهي علاقات تتيح التوصل إلى اتفاقٍ يكون من شأنه تسوية الأزمة السياسية في لبنان، بالانتهاء من تسمية رئيس يملك علاقات طيبة مع وكيل إيران في لبنان، ومع النظام السوري وفي نفس الوقت لا يغضب السعودية باعتبارها مستثمر أساسي، قد يخفف تدخله من وطأة الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان.

من ناحية أخرى، فإن اقتضاء لبنان لحقوقه في غاز المتوسط ذات العوائد الاقتصادية العالية، يستلزم تفاهمًا مع إسرائيل، وهو أمر يترتب عليه ضرورة خفض حدة صوت حزب الله في معاركه الكلامية مع إسرائيل، لكن مع الإبقاء عليه مؤثرًا في القرار اللبناني الداخلي باستمرار تحالفه مع حركة أمل، وباقي قوى 8 آذار لأجل تهيئة مناخ لانفراجة في الأزمة السياسية وتحقيق قدرٍ ملموس من الاستقرار المالي، والاقتصادي بما يسهم في الحيلولة دون تفاقم الأزمة الاجتماعية، وربما إنهاؤها على المدى المتوسط-الطويل حسب الظروف. وهنا يصبح “لسليمان فرنجية”، حظوظًا أكبر، لأن يسكن قصر بعبدا بعد مُضى ما يزيد عن ستة أشهر من المفاوضات والمباحثات، إلا أن كان للبنانيين رأي آخر، وهو أمر ضعيف الاحتمال. (خارج النص قليلًا- دومًا ما أتذكر عبارة الرئيس الراحل المرحوم أنور السادات: “ارفعوا أيديكم عن لبنان”).

على خلاف تعاطيها مع الملف اللبناني، تتعامل إيران مع النظام السوري باعتباره حليف استراتيجي لا يمكن لها أن تتركه في مهب الريح، وحيدًا حتى تظل ممسكةً بأوراق ضغط، تستغلها في المفاوضات النووية مع الغرب بعد التقارب مع السعودية التي سيزورها الرئيس السوري لحضور القمة العربية وهو حدثٌ (الزيارة لا القمة)، ذو دلالات بالغة الأهمية قد تتبعه خطواتٌ أهم في المستقبل القريب. من هنا تأتي ضرورة فحص وتحليل ما يتعلق بالشأن الاقتصادي في البيان الرئاسي السوري-الإيراني المشترك.

فحسب تقرير “التقييم السريع”، المشار إليه أعلاه، تُقَدر احتياجات التمويل لإعادة الإعمار والتعافي في المحافظات السورية الست المتضررة بنحو 7.9 مليارات دولار أميركي، منها 3.7 مليارات دولار أميركي في السنة الأولى بعد الزلزال و4.2 مليارات دولار أميركي في السنتين التاليتين، حيث سجَّل القطاع الزراعي أعلى نسبة من الاحتياجات التمويلية (27% من إجمالي الاحتياجات)، يليه قطاع الإسكان (18%)، والحماية الاجتماعية (16%)، والنقل (12%). يمكن لإيران تدبير تلك الاحتياجات التمويلية بسهولة، كونها استثمارًا ضئيل القيمة نسبيًا في شراكة استراتيجية، تجني من وراءها أرباحًا سياسية واقتصادية أكبر، وأعظم خصوصًا إن أخذنا بالاعتبار الزيادة في حجم التبادل التجاري بين البلدين حسبما اتفق، وخطط المشروعات التنموية المتوقعة.

عَلى هامش زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي لسوريا، قال وزير الطرق والتنمية العمرانية الإيراني مهرداد بذرباش: “تم التوقيع علی مذكرات تعاون كثيرة وغيرمسبوقة بين البلدين في مختلف المجالات، والتي كنا نشعر بأهميتها طوال السنوات السابقة. وتركزت مذكرات التعاون علی تعميق وتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين؛ لتسهيل الظروف الاقتصادية والطريق أمام رجال الأعمال”. وحتى يمكننا فهم تلك العبارات ذات الطبيعة الدبلوماسية بما تستحقه من تطبيقات عملية على الأرض، فإن الإشارة تجدر إلى زيارةٍ أخرى كان الوزير بذرباش قد قام بها لسوريا في نهاية الشهر الماضي، على رأس وفد اقتصادي رفيع المستوى، مهدت الطريق لزيارة الرئيس الإيراني بإبرام تعاقداتٍ مُلزِمَة (لا مجرد مذكرات نوايا)، تم بموجبها الاتفاق على خفض التعريفة الجمركية على واردات السلع بين البلدين، لمستوى وصل في بعض السلع إلى “صفر تعريفة جمركية”، ورفع معدلات زيارات السائحين الإيرانيين للمزارات الدينية بسوريا إلى نسب قياسية.

كما تمت خلال زيارة الوزير بذرباش مناقشة خطط أخرى بالغة الأهمية، تتمثل في الاتفاق على ضخ مزيد من الاستثمارات الإيرانية في حقول النفط السورية، بالإضافة إلى مناقشة مشروعٍ آخر يتعلق بمد خط السكك الحديدية “الشملجة-البصرة”، ليصل إلى اللاذقية وهو المشروع الذي اعتبره الأهم على الإطلاق، إذ تتجاوز آثاره محدوديةُ العلاقات الاقتصادية بين البلدين إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يسهم في دعم وتطوير مشروع الحزام والطريق الصيني الذي ستجد فيه الصين -من خلال علاقاتها المتميزة مع إيران- منفذًا مباشرًا يهدد المصالح الأمريكية السياسية والاقتصادية بشرق المتوسط.

نَال بَشَّارُ نصيب الأسَدِ، حِصةً وحَظًا من التفاهم السعودي الإيراني، فها هو ذا يعود للجامعة العربية في قمة الرياض القادمة، وها هو ذا يحصل على المساعدات المالية، التي يستعيد من خلالها بعضًا مما فقده من شرعيةٍ داخليةٍ نسبيةٍ بإعادة الإعمار وإنعاش وضعه الاقتصادي المتردي، وها هو ذا -وهو الأهم- يرسخ نظام حكمه كجزءٍ من النظام الإقليمي الجديد.

*يمكن للقارئ الكريم الإطلاع على مقالٍ لي بعنوان “لابُد من صَنعا وإن طال السفر” نُشِرَ في السادس من مارس 2023 بموقع مصر 360.