ليست أول مرة، وليس شيئا نادرا على العموم، أن يتحول شيء أنتجه العلم من أجل الخير أو التنمية، أو حتى من أجل مزيد من المعرفة بأنفسنا وعالمنا، إلى شيء آخر يُستخدم في الشر، في الحرب والدمار، وفي الأفكار العنصرية.

قبل عدة سنوات، أجرى باحثان دنماركيان تجربة لافتة وخاصة من نوعها، على 67 متطوعا من أنحاء العالم وأعراقه المختلفة، وصوّرا النتيجة تلفزيونيا لتصبح واحدة من أشهر مقاطع الفيديو على الإنترنت. في التجربة المقصودة أجرى الباحثان تحليلا لشريط الحمض النووي (دي إن إيه) لجميع المشاركين، ثم سألوهم كلا على حدة، عن إحساسهم بانتماءاتهم الوطنية والعرقية، عن مدى فخرهم بها، عن مشاعر الحب والكراهية التي قد يكنوها ضد بلدان أخرى.

أتت الإجابات متفاوتة لكن جمعها عنصران رئيسيان، الأول هو الفخر الوطني (على الرغم من أن جورج كارلين، الكوميدي الأميركي، يقول إن المرء يمكن أن يكون “سعيدا بجنسيته” ولكن كيف يكون “فخورا” بها وهو شيء جرى بمحض صدفة الميلاد؟). تنوعت أساليب التعبير بين المشاركين، فهذا “أبيض” يقول إنه أيسلندي 100% وأنه أهم وأقوى من معظم المشاركين. وهذا إنجليزي فخور بالانتماء إلى “بريطانيا العظمى” وأنه لا يحب الألمان. آخرون لا يحبون الفرنسيين، وفتاة كردية فخورة بتراثها ولا تحب تركيا (تصحح قائلة إنها تقصد الحكومة لا الشعب)، بينما هذا الشاب من بنجلاديش، يقول إن لديه مشكلات مع الهند وباكستان (رغم أنهما وبنجلاديش كانا يوما ما بلدا واحدا) بسبب كثرة نزاعاتهما وحروبهما.

لو أنك اطلعت على التجربة فإنك تعرف النتيجة وتتوقع ما كشف عنه تحليل الحمض النووي للمشاركين. فلم يتضح فقط أن النقاء العرقي مجرد وهم وأن الجميع – بلا استثناء – لديهم أصول جينية متنوعة من كافة أنحاء العالم، أي أن لهم أسلافا/ أجدادا من كل مكان ومن كل الألوان. ولكن المفارقة الأكبر، أن معظم من أعلنوا عدم حبهم لبلد معين، كان هذا البلد موجودا في جيناتهم بنسب متفاوتة، فها هو الإنجليزي الفخور يحمل دماءً ألمانية في عروقه، وها هي الشابة الكردية تكتشف في تحليلها جينات تركية، وهلم جرا.

إنها، في واقع الأمر ليست مفاجأة كبرى، على الرغم من أننا كثيرا ما ننسى هذه الحقائق، فمن الناحية العلمية، خرج جميع أبناء نوعنا البشري (هوموسابيان/ الإنسان العاقل) من مكان ما في قارتنا الأفريقية.  ومن الناحية الدينية يؤمن مليارات البشر أن جميع بني الإنسان هم أبناء آدم وحواء، ولكن البشر، رغم ذلك، طالما عرفوا العنصرية والقبلية والعصبية، ربما لأسباب تاريخية تعلقت بالصراع على الموارد وضرورة اتحاد الجماعات البشرية لقتال الإعداء.

غير أننا لم نعد في العصر الحجري ولا في القرون الوسطى، ومن المثير، والمؤسف، أن رأينا البعض، في سياق الخلاف مع حركة الأفروسنتريك وأعمالها الدرامية الموجهة على غرار مسلسل كليوباترا الذي أنتجته شبكة نتفليكس، أو حتى في سياق نظرة وطنية متحمسة، يلجؤون إلى مسألة الحمض النووي والنقاء الجيني في سبيل الدفاع عن التاريخ المصري ضد محاولات الانتحال والسرقة الثقافية، إنها محاولات بائسة ليس فقط لأن – مجددا – النقاء الجيني مجرد خرافة، ولكن لأن المفهوم الحضاري أكبر بكثير من الجينات والألوان، وقد أنشأ الحضارة المصرية القديمة الشعب الذي عاش على ضفتي النيل، بغض النظر عن أصوله وألوانه وهجراته الوافدة إليه وحتى النازحة منه.

الأكثر غرابة، هو إعادة إحياء شعار “مصر للمصريين” في غير مكانه، أي استخدامه في مواجهة اللاجئين لمصر! (ضع قدر ما تريد من علامات التعجب). ليس فقط لأن استضافة اللاجئين شأن إنساني، وهو جزء من القانون الدولي إن لم تكفك المسألة الإنسانية، ولكن لأن هذا الشعار، حين استخدمه المصريون في بدايات القرن العشرين في مواجهة الاستعمار الأجنبي، لم يكن مسألة نقاء عرقي، فـ “المصريون” آنذاك كانوا يضمون كافة الملل والنحل والأصول والألوان، كان منهم المسلمون والمسيحيون واليهود والبهائيون، البيض والسود والشركس والترك والعرب والبدو والغجر، والطليان واليونانيين والأرمن. وما صنع “فكرة مصر” منذ قدم التاريخ، هو انصهار الكل على ضفتي النهر، هو هضم الثقافات المتنوعة والفنون والألسنة والعقائد، إنها نجيب الريحاني العراقي ووردة الجزائرية وبيرم التونسي وحتى أحمد مكي ذا الأب الجزائري. إنها فلكلور النوبة كما هي لهجة الإسكندرية، وهl الشوام الذين أنشأوا الصحافة والمسرح والسينما وصناعة الترفيه، هذا هو “مفهوم” مصر وفكرتها، ويوم أن تكف مصر عن هذا الدمج وهذا الانصهار، فهي تكف في اللحظة نفسها عن أن تكون مصر.