لم تكن الأحداث في السودان تمر دون أن يلاحظها أحد في المجتمع الروسي، بما في ذلك من قبل السياسيين ووسائل الإعلام، إلا بعد أن زار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الخرطوم، قبل شهرين من اندلاع القتال بين الجيش السوداني الذي يقوده الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف باسم “حميدتي”.

وكانت زيارة لافروف هي أول تواجد له في البلاد بعد توقف دام تسع سنوات، التقى خلالها كلا الجانبين في المواجهة الحالية.

دأبت روسيا -أو على الأقل وسائل الإعلام المرتبطة بالمخابرات الروسية- على اتهام الولايات المتحدة بزعزعة استقرار السودان

ويشير تقرير حديث للمونيتور/ Al Monitor، إلى تجديد رأس الدبلوماسية الروسية التزام موسكو بالاتفاق على إنشاء منشأة بحرية روسية “قاعدة” في بورتسودان. وهو الأمر الذي ينتظر تصديق المجلس التشريعي المدني السوداني، والذي تم حظره الآن.

وأشار مصدر المونيتور في البرلمان الروسي إلى أن “الكثيرين في موسكو قد فقدوا بالفعل الأمل في وجود رسمي في البحر الأحمر. وسط إعادة تشكيل لوجستيات التجارة بسبب الصراع مع الغرب وأوكرانيا”.

اقرأ أيضا: كييف تتسلم الباتريوت| التزام أمريكي خاطئ قد يطيل مذبحة أوكرانيا

الشك الروسي

يشير تقرير المونيتور إلى أن هذا الشك الروسي يعود -جزئيا- إلى أن الكثيرين لم يعتقدوا ليس فقط أن نشر المنشأة كان ممكنا، أو أن موسكو ستكون قادرة على التفاوض على صفقة بعد الإطاحة بالديكتاتور السوداني السابق عمر البشير في عام 2019. ولكن هناك أيضا قد تبرز عوامل أخرى.

يضيف: أما بالنسبة للوجستيات، فبسبب العقوبات، ظهرت إعادة هيكلة لسلاسل التوريد مع التركيز على التجارة مع إفريقيا وآسيا. مما يجعل الميناء في السودان ذا أهمية كبيرة لروسيا في هذه الظروف كـ “نقطة تجارة ترانزيت”.

بعد زيارة لافروف، بدأت الشائعات تنتشر في الجيش الروسي والسلك الدبلوماسي بأن السودانيين غيروا في مطالبهم، حيث صرح ممثلو البرهان بأن الشروط التي اقترحتها روسيا لا تصب في مصلحة السودان الاقتصادية.

يقول التقرير: كانت “نعم” التي أعطيت للافروف بسبب أن وزير الخارجية الروسي كان قادراً على الاتفاق على إمكانية نشر منشأة تشغيل أمامية في إريتريا في زيارته في يناير/ كانون الثاني 2023. وعما إذا كان هذا صحيحًا، أم مجرد خدعة دبلوماسية خلق من خلالها لافروف مناخًا ملائمًا للمفاوضات، لكن من الواضح أنه حاول تخفيف حدة الأزمة في السودان.

وينقل التقرير عن مصدر روسي مقرب من وزارة الخارجية الروسية قوله “قبل الزيارة، كان من الواضح أن الخرطوم مستعدة لمواصلة لعب دور القاعدة الروسية في العلاقات مع كل من مصر والغرب. ولم تعد وزارة الدفاع الروسية قادرة على حل هذه المشكلة -المنشأة البحرية- بمفردها”.

مكائد غربية وشرط بعيد

أشار المصدر المقرب من وزارة الخارجية ومجموعة فاجنر للمونيتور إلى أن وزارة الدفاع الروسية لم تستطع الاتفاق على هذه المسألة منذ البداية -في عهد الديكتاتور السابق عمر البشير- على الرغم من أعباء هذه الاتصالات “كما نعلم، فإن المفاوضات بشأن المنشأة العسكرية الرسمية أجريت بشكل غير رسمي من قبل أفراد يفجيني بريجوجين، أي زعيم فاجنر”.

ويلفت إلى أنه “على الرغم من أن رحلة لافروف إلى الخرطوم كانت تطورًا إيجابيًا، إلا أن المفاوضات لم تسفر عن أي اختراقات ملموسة”.

وأكد: لا يمكن التصديق على اتفاقية المنشأة البحرية إلا إذا تم نقل السلطة إلى الحكومة المدنية في السودان. لكن هذه في حد ذاتها هي القضية على المحك في الصراع المستمر بين القادة العسكريين في البلاد”.

هكذا، يرى التقرير أنه -على أي حال- بمجرد تحول الصراع بين برهان وحميدتي إلى مرحلة ساخنة، يمكن بكل ثقة اعتبار خطط روسيا لإنشاء منشأة بحرية في بورتسودان “عفا عليها الزمن وستظل غير منفذة لفترة طويلة”، بحسب مصادر المونيتور. حيث يتفق خبراء روس إلى حد كبير مع هذا الرأي.

ومع ذلك، هناك قناعة متنامية بين السياسيين الروس بأن الإخفاقات في القاعدة في السودان لا تتعلق بمبدأ اختيار روسيا للقاعدة، ولكن بمكائد أجهزة المخابرات الغربية، وخاصة الأمريكية والفرنسية.

ويشير التقرير إلى أنه، بشكل غير مباشر، أوضح لافروف نفس الشيء. حيث قال عن الأحداث في السودان في إبريل/ نيسان: “الهندسة الجيو سياسية ليست جيدة لأي شيء”.

مرتزقة بريجوجين لم تتوقف عن استخدام السودان لتهريب الذهب حيث يتم نقل الموارد جواً من الخرطوم أو بالشاحنات إلى إفريقيا الوسطى

اقرأ أيضا: “مراجعة ذاتية” من أجل تطوير الدور المصري في السودان

فاجنر في السودان

يؤكد التقرير أن الدولة الروسية دأبت دوما على اتهام الولايات المتحدة بزعزعة استقرار الوضع في السودان. أو على الأقل، فإن وسائل الإعلام المرتبطة بالمخابرات الروسية حاولت ذلك، وإن كان ذلك بحجج بعيدة المنال.

يقول: على سبيل المثال، كتب الإعلام الروسي، بكل جدية، أن العمليات العسكرية في الخرطوم لم تكن عرضية، ولكنها متعمدة من أجل منع روسيا من الحصول على موطئ قدم في السودان وإفريقيا ككل.

وكدليل على ذلك، نقلت وسائل إعلام روسية أنباء مفادها أن السلطات السودانية -عشية الأعمال العدائية- اتهمت مواطنًا روسيًا بتهريب 5 كيلوجرامات من الذهب الذي استخرجته شركة الصولج للتعدين المحدودة -شركة تابعة لمجموعة فاجنر PMC- ووفقًا لهذه الوسائل الإعلامية، فقد بدت المحاكمة لصالح الدول الغربية، من أجل الحصول على حجج لمزيد من الضغط على مجموعة فاجنر في مختلف دول القارة.

في المقابل، نفى يفجيني بريجوجين مؤسس فاجنر -بشكل متوقع- جميع الاتهامات بـ “السرقة من الدول الإفريقية” وذكر أنه لم يكن هناك مرتزقا واحدا من فاجنر في السودان منذ عامين.

ومع ذلك، يشكك العديد من الخبراء في هذا التأكيد، مستشهدين كدليل على المنشورات من عام 2022 على قنوات Telegram المرتبطة بالمجموعة، والتي أظهرت لقطات لتدريب المرتزقة الروس للقوات المحلية.

ووفقًا لمصدر في المونيتور من جهاز الأمن التابع لشركة طاقة روسية تعمل في إفريقيا ، توقف مرتزقة فاجنر عن تدريب قوات الدعم السريع مؤخرًا، وتحدث حميدتي نفسه -من بين آخرين- عن ذلك.

وقال المصدر: “هذا يرجع إلى حقيقة أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية بدأت في الاعتراف بهيكل بريجوجين كمنظمة إجرامية. لكن هذا لم يمتد إلى عمليات الظل على الحدود مع جمهورية إفريقيا الوسطى”.

وأكد أحد الخبراء الروس في شؤون إفريقيا، أن حميدتي يسيطر -بشكل مباشر أو غير مباشر- على 250 شركة مملوكة للدولة بما في ذلك شركات تعدين الذهب، التي تفشل بانتظام في دفع ضرائب الميزانية.

حرب الذهب

من المعروف أن الهياكل المرتبطة بمرتزقة بريجوجين لم تتوقف فقط عن استخدام السودان لتهريب الذهب، حيث يتم نقل الموارد جواً من الخرطوم أو نقلها بالشاحنات إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، كجزء من مكافحة العقوبات الدولية.

ولكن أيضًا، وفقًا لتقرير نشرته بوليتيكو/ Polotico، فقد توسعت عمليات التعدين لتمويل العمليات العسكرية في أوكرانيا، على الرغم من أن فاجنر لديها علاقات طويلة الأمد مع البرهان.

لكن، يرجع هذا -تحديدًا- إلى أعمال التهريب التي عملت فيها فاجنر مؤخرًا بشكل وثيق مع قوات الدعم السريع، والتي كفلت الإزالة الآمنة للذهب من السودان من قبل الروس.

أما بالنسبة للمعلومات المتعلقة بتزويد قوات حميدتي بالصواريخ والأسلحة الثقيلة من قبل المرتزقة الروس. فإن مصادر المونيتور تعترف بإمكانية تسليم بعض الأسلحة، لكنها تشير إلى أن مداها قد يكون مبالغًا فيه؛ لأنها ستكون خطوة محفوفة بالمخاطر على بريجوجين، الذي عرض -علانية- وساطته في الصراع بين البرهان وحميدتي.

وينقل التقرير عن كيريل سيمينوف، الخبير غير المقيم في مجلس الشؤون الدولية الروسي، أنه لم يكن هناك سوى القليل من التناقض بين موسكو الرسمية وبريجوجين على المسار السوداني حتى الآن. موافقا أن المعلومات المتعلقة بالدعم المكثف لحميدتي من قبل فاجنر قد تكون مبالغًا فيها إلى حد كبير “خاصة وأن أفراد بريجوجين يدركون جيدًا التوازن الحقيقي للقوى”.

يقول، أولا: لا يملك حميدتي موارد القوة اللازمة لتولي السلطة في البلاد. في أحسن الأحوال، يمكنه المشاركة فقط في تقسيمها، وهذا لن يقرب موسكو من حل مشكلة إنشاء مرفق قوة بحرية هناك.

وثانيا: دعم روسيا الأحادي الجانب لحميدتي سيؤدي إلى مزيد من التدهور في العلاقات مع مصر، وهو الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لموسكو فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي.