لدى الرئيس خيارات عديدة، لكنها جميعًا سيئة. الخيار الوحيد الذي لن يؤدي إلى وقوع الضرر على الاقتصاد الأمريكي هو رفع سقف الدين. يحتاج الكونجرس للموافقة على رفع هذا السقف مرة أخرى ونحتاج نحن لمناقشات وتسويات لخفض الإنفاق يحرص الرئيس على تأسيس مسارٍ مقبولٍ لها، لكنه لا يريد المُضى في هذا المسار، والمسدس مُصَوَبًا ليس إلى رأسه فقط ولكن إلى رؤوس المواطنين والاقتصاد الأمريكي. سيكون لإجراء أي تخفيضات شديدة القسوة (Draconian Cuts) في الإنفاق ضرر بالغ على العائلات الأمريكية من ناحية فقدان عائليها لوظائفهم”.
هكذا تحدثت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين لسارة إيسين مذيعة قناة “سي إن بي سي” الأمريكية يوم الاثنين الماضي، تعليقًا على الأزمة السرمدية التي تطل برأسها كل بضعة أشهر كأفعى سامة لتدفع بالاقتصاد الأمريكي والعالمي للوقوف على أطراف أصابع القدم على حافة الهاوية… إنها أزمة “سقف الدين العام الأمريكي”.
قالت جانيت يلين كلامًا بالغ الخطورة عن الأزمة التي يؤدي الإخفاق في التعاطي معها إلى تخلف الولايات المتحدة الأمريكية عن سداد ديونها لأول مرة في التاريخ إن فشلت مفاوضات الديمقراطيين والجمهوريين ومضت الخمسة عشر يومًا الحرجة القادمة دون إقرار رفع سقف الدين، لكن اللافت -على الرغم من ذلك- أنها أقرت لأول مرة بحاجة إدارة الرئيس بايدن لخفض نفقاتها، وهو أمر كان الجمهوريون ينادون به خلال الثلاث سنوات الماضية إلا أن إرادة الديمقراطيين كانت دومًا ما تحول دون ذلك خصوصًا مع تصاعد شعبية الخطاب الاجتماعي لبيرني ساندرز الرئيس الديمقراطي للجنة الخطة والموزانة بالكونجرس.
في المعتاد، كانت الحكومات الأمريكية تقوم بالإنفاق من خلال ما هو متاح لديها من متحصلات ضريبية وأموال ناتجة عن استخدامها لمواردها، لكن احتياجات اجتماعية وتنموية وبالأخص في مجال تطوير البِنى التحتية واحتياجات أخرى تتعلق بالإنفاق على الهيمنة والسيطرة لضمان التفوق العسكري والتكنولوجي، كانت تدفع تلك الحكومات باستمرار إلى الاقتراض، وهو ما تزايدت وتيرته مؤخرًا نتيجة للركود الاقتصادي وإجراءات مكافحة كورونا وزيادة الضمان الاجتماعي وإسقاط ديون الطلبة وغيرها من الإجراءات الاجتماعية ثم تبعات الأزمة الأوكرانية وتكلفة المنافسة مع الصين.
كان حجم الدين العام الأمريكي حين تسلم الرئيس بايدن الحكم عند حدود 30 تريليون دولار ليصل حتى تاريخ كتابة هذه السطور إلى31.7 تريليون دولار، بينما يقف سقف الدين المُعتمد عند مستوى 31.4 تريليون دولار.
من الجدير بالملاحظة أن الناتج المحلي الأمريكي قد وصل إلى 26.4 تريليون دولار، أي أن حجم الدين العام يعادل نحو 121% من الناتج المحلي، وهي نسبة بالغة الخطورة تنذر بعواقب وخيمة إن فشلت مفاوضات الرئيس بايدن لرفع سقف الدين مجددًا، حيث ستتوقف أمريكا عن سداد ديونها بما سيدفع بوكالات التقييم الدولية التي أذلت دول العالم الفقيرة (يالسخرية القدر!) إلى خفض التصنيف الائتماني لأمريكا، وهو ما سيؤدي حتمًا إلى كارثة اقتصادية عالمية خانقة، إذ ستضطر السلطات النقدية الأمريكية لأجل جذب المستثمرين في أدوات الدين إلى رفع سعر الفائدة، الأمر الذي سينتقل (رفع سعر الفائدة) عبر المحيطات على جناح العولمة الغاربة شمسها إلى مجتمعات أخرى سيدفع أصحابها ثمنًا باهظًا لطموحات الهيمنة في سباق التنافس المحموم بين أمريكا والصين.
تاريخيًا، في عام 2011 وعندما لَوَح الجمهوريون بالتخلف عن سداد الدين العام، قامت وكالة ستاندرد آند بوورز بخفض التصنيف الائتماني لأمريكا من AAA إلى AA+ ما ترتب عليه تراجع في الناتج المحلي وفقدان عدد كبير من الأمريكيين لوظائفهم، وهو أمر يُخشى من تكراره في الأزمة الحالية.
فخلال الأسبوع الماضي، أصدرت وكالة “موديز” تقريرًا جاء فيه أنه في حال أعلنت أمريكا تخلفها عن سداد الدين، سيشهد الناتج العام تراجعًا بمقدار 4% وسيفقد سبعة ملايين مواطنًا وظائفهم. في تقديري الشخصي إن إعلانًا مثل هذا -إن حدث- سيدفع السلطات النقدية الأمريكية إلى رفع سعر الفائدة، كما أسلفتُ ذكرًا، بما سيجعل تكلفة الاقتراض عالية جدًا سواء لتمويل مشروعات الحكومة مما سيفاقم من عجز الموازنة، أو لتمويل مشروعات الشركات الخاصة، وهو ما سيزيد من خسائرها بما سيضطر العديد منها إما للإغلاق الكامل أو الجزئي مع تسريح الملايين من العمال والموظفين؛ بغرض وقف نزيف الخسائر لترتفع معدلات البطالة إلى نسب قياسية سترغم عموم المستهلكين على تقليص إنفاقهم؛ لتتعمق حدة الركود التضخمي.
سيتضرر النظام المالي والمصرفي الأمريكي ضررًا بالغًا، حيث ستتأثر المراكز المالية للبنوك وشركات التأمين، وشركات إدارة الاستثمارات والمحافظ وصناديق التحوط؛ لتنهار أسهمها ومن ثم ستشهد أسواق المال المتعددة هزات مالية عنيفة. وأنت إن أخذت بالاعتبار هشاشة تلك الأسواق التي كتبتُ عنها كثيرًا بوحى من تراث النقد الذى قدمه عالم الاقتصاد الأمريكي الراحل هايمان مينسكي، ستدرك أننا أمام أزمة استثنائية تتضاءل أمامها تأثيرات أزمة 2008 الكبرى.
صار المشهد بالغ التعقيد والقتامة للدرجة التي لم تَدَعْ أمام السلطتين التنفيذية، والتشريعية بأمريكا أي خيار سوى رفع سقف الدين إلى مستوى جديد حسب تصريحات الرئيس بايدن بعد اجتماعه بقادة الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونجرس يوم الثلاثاء الماضي.
كانت تصريحات أطراف الاجتماع الأخرى، رئيس مجلس النواب وزعيمي الحزبين بمجلسي النواب والشيوخ، ساخنةً عقب هذا اللقاء الذي لم يتوصلوا فيه إلى اتفاقٍ سوى على الاجتماع ثانيةً لمزيد من النقاش خلال هذا الأسبوع، ثم تقرر تأجيل الاجتماع للأسبوع المُقبل. وكان هذا أمرًا مُتَوَقَعًا.
صرح زعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس النواب عقب اجتماع الثلاثاء، أن جمهوريين مُتطرفين مستعدون للدفع بالبلاد نحو الإخفاق في السداد، واصفًا الأمر بأنه تهور وتطرف وعدم إحساس بالمسئولية، بينما صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض أن الوقت يمضي بسرعة وعلى الجمهوريين الموافقة على رفع سقف الدين دون شروط.
على الجانب الآخر، قال الرئيس الجمهوري لمجلس النواب إن الرئيس بايدن يختطف البلاد كَرَهِينة وأن الجمهوريين لن يقوموا بالتصويت لصالح رفع سقف الدين دون إصلاحات جوهرية في الموازنة بخفض الإنفاق الحكومي. وفي محاولة أخيرة للتنبيه، أصدر مكتب الموازنة بالكونجرس يوم الجمعة الماضي تقريرًا وَرَد فيه نصًا: “إن لم يتم رفع سقف الدين أو تعليقه قبل نفاد أموال الخزانة، وباقي التدابير الاستثنائية، ستضطر الحكومة إلى تأجيل سداد مدفوعات بعض الأنشطة، أو التخلف عن سداد التزامات ديونها، أو كلا الأمرين معًا”.
ستتصاعد حدة تصريحات الطرفين خلال الخمسة عشر يومًا الحرجة الباقية، حتى مطلع الشهر القادم كنوعٍ من الضغط يمارسه كل منهما؛ لتحقيق مكاسب إضافية وإن كانت تلك المكاسب تقبل في حدها الأدنى نتائجًا تُبنى على قاعدة التفاوض الشهرية “لا غالب ولا مغلوب” (Win-Win situation). وأحسب أن اتفاقًا سيجد للنور طَريقَهُ في اللحظة الأخيرة يُقْدِم بموجبه الديمقراطيون على إجراء خفضٍ للنفقات العامة بدرجةٍ ما تُرضى غرور الجمهوريين الذين أتتهم جثة عدوهم، وهم على ضفة النهر جالسين (يُرجى مراجعة مقالي المنشور في 23 يناير الماضي بموقع مصر 360 في ذات الشأن*) مقابل رفع سقف الدين العام، وهو ما سيزيح فوهة المُسدس عن رأس بايدن، لكنه سينتقص دون شك من حظ حزبه في انتخابات 2024، إن لم نشهد معجزة ليست مستبعدةً على مزاج الناخب الأمريكي قد يساهم أداء الجمهوريين في حدوثها.