شهد العقد الأخير بثوراته، وحروبه، وجوائحه الصحية، مُضافًا إلى ذلك التطور التكنولوجي الكبير، نقاشات موسعة حول إيجاد الوظائف، ناهيك عن استدامتها، لضمان الحصول على الغذاء، الذي تؤكد المؤشرات على تراجع معدلات الوصول إليه من قبل الملايين حول العالم،
مؤخرًا. وقديمًا كان حلم أغلب الطامحين إلى العمل، هو العمل بالقطاع الحكومي، والالتحاق بـ”تراب الميري”، نظرًا لما يحققه من أمان واستقرار وظيفي يضمن نوعا من الحماية الاجتماعية والتأمينية للعامل، والدوام والاستمرار في العمل. لكن ومنذ السبعينيات، ومع سعي الدولة إلى جذب رأس المال الأجنبي والخاص للاستثمار، بدأت سياسة الحد من تعيين خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس الفنية في الجهاز الحكومي، ومع التوسع في بيع شركات القطاع العام -لاحقا- فيما عرف بنظام “الخصخصة” تقلصت فرص التوظيف، وارتفعت معدلات البطالة.
أضافت سياسات الخصخصة تلك التي انتهجتها الحكومة، إلى العاطلين من خريجي الجامعات الجدد، فئة جديدة من الخارجين على نظام المعاش المبكر؛ نتيجة تصفية الشركات وهم في سن العمل قبل سن الستين عامًا. وتدريجيًا تحولت معظم علاقات العمل من دائم إلى مؤقت، بعقود محددة المدة، ذلك في القطاعين، العام الذي اتجه نحو مزيد من خفض عدد العاملين في الدولة، وفي القطاع الخاص الأكثر استيعابًا للعمالة.
القطاع الخاص حاليًا، يعتمد على 40% من حجم العمالة بعقود مؤقتة، وفقًا للدكتور راجي أسعد أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية. ويشير إلى العمل غير المنتظم دون عقود، والذي أصبح الطابع الأساسي لسوق العمل المصري.
وتحايلًا على القوانين، يسرح أرباب العمل العمالة المنتظمة ويستبدلون بها عمالة جديدة، للتهرب من تثبيت العمال بعقود دائمة، حتى لا يحمّلون أنفسهم أعباء دفع تأمينات اجتماعية، أو أجور عالية وعلاوات كلما ترقى العامل وتقدم به العمر في العمل.
الأمان الوظيفي
يعرف التخوف من فقدان الوظيفة والتهديد بالفصل، والقلق من تغيير الصفة المهنية، بأنه انعدام الأمان الوظيفي النوعي.
كذلك، فإن ظروف العمل المجهدة والتمييز داخل بيئات العمل يؤديان إلى ضعف الإنتاجية في النهاية، ومع ذلك، فإن عددًا كبيرًا من أصحاب الأعمال يعتقدون أن شعور الموظفين في مؤسستهم بانعدام الأمان الوظيفي، يكون حافزًا لإثبات جدارتهم أمام الإدارة.
في كتابه الجديد عن سوق العمل في مصر، والذي ألفه بالمشاركة مع كارولين كرافت أستاذة الاقتصاد والعلوم السياسية، يرى الدكتور راجي أسعد أستاذ السياسات العامة، وأستاذ زائر بقسم الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن إحدى أهم أزمات الاقتصاد المصري هي ضعف إنتاج فرص عمل بالشكل والجودة الكافية. وهو يقدم تحليلًا ديناميكيًا لسوق العمل في مصر، معتبرًا أن معظم فرص العمل الجديدة تخلقها منشآت صغيرة لديها الطابع غير الرسمي.
القيادي العمالي صلاح الأنصاري يقول إن العمالة غير المنتظمة تعمل في بيئات العمل دون أي حماية، لذا “نحتاج إلى قانون عمل موحد لكل العاملين بأجر يضمن مبدأ الضمان الاجتماعي ويحقق الأمان الوظيفي”.
ويشير الأنصاري إلى أن “أكثر من نصف قوة العمل في مصر بالقطاع غير الرسمي حوالي 14 مليون عامل وموظف، مهدر حقهم في الأمان الوظيفي، والاجتماعي”. وبحسب الأنصاري يحقق ذلك مستوى معيشة أدنى من الذين لديهم فرص عمل في القطاع الحكومي، وهي مخالفة لمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة في الدستور.
يبين الأنصاري، أنه منذ اتباع سياسة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، ومع إصدار قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي رقم 43 لسنة 1974، أصبح سوق العمل متعددا وتحول من قطاع منظم خاص وحكومي، إلى قطاع استثماري وقطاع غير منظم.
يقول الأنصاري لمصر 360: “إن العقود المؤقتة، تدفع بجيش من البطالة يستغلها أرباب العمل في الضغط على الراغبين في العمل بالقبول بأجور ضعيفة، وشروط مجحفة بلا حماية، لأن السوق مليء بالعاطلين”.
تحديدًا، يقول الأنصاري إن ما يحدث في سوق العمل يخلق ما يعرف بالبطالة الدوارة خاصة في “عمالة النساء”، ففي مصانع الغزل والنسيج، على سبيل المثال، يتم اختيار الفتيات غير المتزوجات لمدد محددة؛ للاستفادة من قدراتهن حتى الزواج، ثم تُدفع لترك العمل بلا حقوق أو مكافآت.
ووفقا للأنصاري، فإن الذين يعملون بالنظام المؤقت لا يستطيعون الشكوى في حالة حدوث أي انتهاكات أو في حالة حدوث إصابات عمل أو المرض أو مشكلات الحمل والرضاعة بالنسبة للنساء
سياسة لا تثبيت ولا تأمينات
وفقا لجهاز التعبئة العامة والإحصاء، تبلغ نسبة العاملين بأجر والمؤمن عليهم 43،4 % من إجمالي المشتغلين بشكل دائم لأكثر من 15 عامًا خلال 2022، تصل فيهم نسبة الذكور إلى 38،8 % بينما نسبة النساء 70،7 % مشتركين في التأمينات الاجتماعية، ويتوزعون على القطاعين العام والخاص، يعمل منهم بالقطاع الحكومي 97 %.
ورسميًا، منذ سنة 2016 لم تقم الدولة بتثبيت العاملين المؤقتين بالقطاع الحكومي، وفي آخر إعلان له في يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلن جهاز التنظيم والإدارة عن تثبيت العاملين بالدولة وفقًا لقانون الخدمة المدنية لمن التحقوا بالعمل بعد سنة 2016، وحتى الآن لم يتم تنفيذ القرار.
غياب معايير العمل
هذه البيئة من العمل لا تخلق أو تحقق أمانًا وظيفيًا لما يقرب من نصف قوة العمل في مصر منهم 45 % من العمالة غير الرسمية بحسب كمال عباس المدير التنفيذي لدار الخدمات النقابية.
ويشير عباس إلى أن قانون العمل الحالي لا يتوفر فيه معياران هامان، حد أدنى للأجور يتدرج وفقًا لمعدلات التضخم، بحيث يستطيع العامل العيش بكرامة، ولا يحقق الأمان الوظيفي بأن يكون العمل بعقد دائم يضمن الحماية للعامل، حيث يمكن تسريح العاملين في أي وقت.
وقال عباس لــمصر 360: “إن سوق العمل في مصر خاصة بين الشباب الخريجين يغلب عليه الأعمال الخدمية في المقاهي، الدلفري، والكول سنتر، وهي أعمال لا يتوافر فيها أمان ولا حماية، أعمال موسمية وبعضهم يعمل في هذه المهن مقابل (التيبس/البقشيش) دون أجر، وعند التعرض لأي أزمة مثل كورونا يتوقفون عن العمل”.
يقول الواقع أن هناك أزمة عجز في قطاعات حيوية مثل، الصحة والتعليم، ولا تقوم الدولة بتعويض هذا العجز، لأنها تريد تقليص عدد العاملين في القطاع العام، ففي قطاع التعليم، هناك عجز يقارب 400 ألف وظيفة بين معلمين ووظائف إدارية. وهو ما يعتبره عباس توجهًا سيئا من الدولة.
سد العجز بالتطوع
يشترط صندوق النقد تقليص العاملين بالدولة؛ لتقليل إنفاق الموازنة وفق حسن أحمد رئيس النقابة المستقلة للمعلمين، ويقول على سبيل المثال، إن هناك عجزا صارخا في المعلمين والإداريين والعمال، التعيين متوقف رغم إعلان وزارة التربية والتعليم عن سد العجز بتعيين 30 ألف معلم كل عام.
لم يتم التعيين رغم إعلان أسماء الفائزين في المسابقة الأخيرة، واجتيازهم الاختبارات، ولجأت الوزارة للاستعانة بالشباب ممن يؤدون الخدمة العامة، وبعض المتطوعين لسد العجز. وفي حال التعيين فلا يمكن تحقق شرط الأمان الوظيفي، لأنهم سيعينون على عقود مؤقتة لمدة عامين.
وقال حسن لـمصر 360: “إن نقابة المعلمين الوحيدة التي تقف مع الدولة ضد أعضائها، ولا تقوم بأي تدريبات لهم وليس لها علاقة بالمهنة، وتقوم الوزارة بكل ما يخص المعلمين من تدريب.
وأشار إلى أن ضعف الأجور دفع المعلمين إلى الاعتماد على الدروس الخصوصية؛ لتحقيق الاكتفاء الاقتصادي الذي لا تحققه له وظيفته حتى أضحى مرض عضال لا يمكن علاجه.
مطالبا الحوار الوطني بإصلاح المسار النقابي، وإعادة الأمان الوظيفي في إطار إصلاح الأجور، وإصلاح مسار النقابات بحيث تكون حقيقية مشكلة بإرادة المنتمين إليها.