كيف يتم تعزيز الدور السياسي لهذه الأحزاب؟ سؤال مهم يمكن أن يساعد في تعزيز كفاءتها وتوفير بدائل مختلفة لها، خاصة في ضوء “الحوار” الجاري، والذي اتسع ليأخذ الطابع المجتمعي ويضم فئات مختلفة لتتعدد وجهات النظر بشأن الوصول إلى الأهداف المرجوة منه.

يرتبط أداء الأحزاب عمومًا بمدى ما تحققه من شعبية وتواجد جماهيري، وتعبيرها عن أوسع القطاعات الاجتماعية وتمثيلها لها، فهل حققت الأحزاب هذا التواجد المطلوب؟ وهل نجحت في ضم كتل جماهيرية كبيرة إلى صفوفها؛ لتكون عونا سياسيا وانتخابيا لها؟

قد يشير البعض إلى العوامل الخاصة بنشأة النظام الحزبي، بما فرضه من قيود على الأحزاب، والتي تمنعها من النشاط  السياسي والجماهيري وتحاصرها داخل مقارها، إلا أنه حتى في الأوقات التي اتسعت فيها هذه المساحة، فشلت تلك الأحزاب في تحقيق هذا التواجد، بما يشير إلى أسباب أخرى تخص الأحزاب نفسها.

في البداية، نعرض لنشأة التعددية الحزبية، حيث ظهرت التجربة الأولى بين عامي 1907 ـ 1952. ظهرت أحزاب متعددة منها الحزب الوطني القديم، وحزب الوفد، ومصر الفتاة، والاشتراكي المصري، والحزب الشيوعي، بالإضافة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأحزاب أخرى عبرت عن كبار الملاك مثل حزب الأمة، والأحرار الدستوريين. كما نشأت بعض الأحزاب من الانشقاق على حزب الوفد بسبب خلافات بين قياداته. 

وانتهت تلك التجربة بدعوة مجلس قيادة الثورة لتلك الأحزاب لتطهير نفسها، ثم حلها عام 1953، مستثنية جماعة الإخوان من هذا القرار باعتبارها جماعة دينية. 

ثم بدأت التجربة الثانية عام 1976، في ظل رغبة الرئيس السادات بتحقيق انقطاع سياسي مع المرحلة الناصرية، وإضعاف خصومه ومغازلة الغرب، حيث ألغى الاتحاد الاشتراكي وأقر نظام المنابر التي رفض الكثير من طلبات إنشائها؛ لينتهي الأمر بخروج ثلاثة منابر فقط تمثل اليمين واليسار والوسط، تحولت فيما بعد إلى أحزاب الأحرار الاشتراكيين، والتجمع الوطني، وحزب مصر، الذي انتقل أغلب أعضائه إلى الحزب الوطني فور إنشائه، وظهرت لاحقًا أحزاب الوفد الجديد، والعمل الاشتراكي.

يوصف هذا النظام بأنه تعددية مقيدة من أعلى، ظلت حتى 25 يناير 2011، حيث لم يتجاوز عدد الأحزاب 24 حزبًا، في ظل قيود قانونية وسياسية على إنشائها.

ووصف المؤرخ الراحل يونان لبيب رزق، بعض هذه الأحزاب بأحزاب الديكور وبعضها الآخر بأحزاب الماكياج الديمقراطي. 

وبعد ثورة يناير، وصل عددها لما يقارب الـ 100 حزب، واتسعت ما بين أحزاب خرجت من إطار الحزب الوطني الذي تم حله بحكم قضائي لاحقًا، وأحزاب مقربة من النظام مثل، مستقبل وحماة وطن، وأخرى خرجت من رحم ثورة يناير، ومنها أحزاب الدستور، والكرامة، ومصر القوية، والمصري الديمقراطي، والتحالف الشعبي، والمحافظين، والإصلاح والتنمية، وغيرها. 

والسؤال الرئيسي هنا لماذا لم تحقق تلك الأحزاب جاذبية جماهيرية، وافتقدت في أوقات كثيرة الحاضنة الشعبية المعبرة عنها والتي تستطيع دعمها بقوة؟ 

بعض الأسباب قد تتعلق بثقافة المواطن نفسه، بسبب ما تعرض له عبر عقود من تهميش، وقيود سياسية ومخاوف من الانضمام للأحزاب، والتي قد تودي به لانتقام سياسي أو قانوني، فكان عليه أن ينضم إلى ما يسمى حزب “الكنبة” والسير إلى جانب الحائط وداخله أحيانًا. بالإضافة إلى حظر السياسة عن الجامعات والمواقع العمالية، وبالتالي أصبح العمل السياسي محاصرا بشكل عام ولا يسمح به إلا أثناء الانتخابات حصرا. 

وهناك عدة عناصر لتقييم قوة الحزب، أهمها حجم عضويته وانتشاره السياسي، وتواجده في المجالس البرلمانية والمحلية المنتخبة، وعدد مقاراته، وحجم موارده المالية، ومنابره الإعلامية التي يخاطب منها الرأي العام، وخطابه السياسي، وقدرته على تطوير هذا الخطاب، والتجنيد السياسي للعضويات الجديدة، وتثقيفها ببرنامجه السياسي والأيديولوجي، ومهارات العمل التنظيمي والجماهيري، وكذلك حجم التنسيق الحزبي بما يؤدي إلى تحقيق مكاسب سياسية وجماهيرية.

والشاهد أنه حتى في ظل نظام مبارك وعقب ثورة 25 يناير، لم تنجح أحزاب المعارضة في تحقيق المهام الأساسية، وأهمها: جذب العضوية، كما لم تخلق دعاة سياسيين لبرامجها على غرار أحزاب الإسلام السياسي، ولم تطور أدواتها التنظيمية والإعلامية؛ لجذب الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تستغل فترة الانفتاح السياسي التي أعقبت ثورة 25 يناير في زيادة جماهيريتها، وانشغلت في معارك الصراع على السلطة، والانتخابات البرلمانية والرئاسية التي حققت فيها أداء محدودا بسبب سيطرة رأس المال السياسي وتواجد أحزاب الإسلام السياسي على الساحة. 

وهو ما ظهر في انتخابات 2012 البرلمانية، التي أجريت في ظل نظام انتخابي يعزز تقوية الأحزاب بشكل عام، باستثناء أحزاب الوفد والمصري الديمقراطي والمصريين الأحرار، التي نجحت من خلال تحالف الكتلة المصرية، بنسب وصلت إلى 30%، بينما لم تتجاوز مقاعد الأحزاب الأخرى عدد أصابع اليد الواحدة.

وهو ما يذكرنا بنجاح جماعة الإخوان وأحزاب الوفد والعمل والأحرار في برلماني 1984، 1987، بفضل تطبيق نظام التمثيل النسبي، فيما نجحت جماعة الإخوان بـ 88 نائبًا عام 2005؛ بسبب الإشراف القضائي على اللجان كافة. بعكس مجلسي 2015، 2019 اللذين كرسا القائمة المطلقة، فضلًا عن دعم أجهزة الدولة لأحزاب بعينها.

وهناك عدد من الملاحظات في هذا السياق: 

ـ إن ثقل الأحزاب تاريخيا في التجربة الأولى كان مرتبطا بقضيتي العداء للاستعمار والدفاع عن الدستور، وهو الأمر الذي أعطى قوة سياسية وجماهيرية لحزبي الوفد والوطني قبل 1952، و التي لم تخلو من محاولات حصار الأحزاب والقبض على أعضائها وقياداتها العمالية والطلابية، بل وحل بعض الأحزاب، وإلغاء دستور 1923، واستبداله بآخر على مقاس السلطة. ومع ذلك تمتعت أحزاب الوفد والإخوان المسلمين ومصر الفتاة والوطني القديم، والحركة الشيوعية بتواجد قوي داخل الجامعات والنقابات المهنية والعمالية. 

بينما ظهر التواجد الحزبي في ظل نظام مبارك من خلال التنسيق بين أحزاب “الوفد، والتجمع، والعمل، والناصري” بالإضافة إلى ما كانت تتمتع به الصحف الحزبية من شعبية وتوزيع عال. وهو ما ظهر كذلك في تكوين التحالفات السياسية مثل، الجمعية الوطنية وحركة كفاية وغيرها، والتي كللت بتحقيق أهم تغيير سياسي برحيل رأس النظام في 11 فبراير 2011، لكن ظهرت التناقضات لاحقا ومحاولات الاستفراد بالسلطة، ما أدى لاستقطاب سياسي بين القوى المدنية وممثلي الدولة العميقة، وجماعة الإخوان المسلمين؛ لكي تؤدي إلى المسار الحالي. 

ما نؤكد عليه أن العمل الحزبي لا يزال يعاني من عدد من المشاكل البنيوية، أهمها إهمال الوحدات الجغرافية الصغيرة مثل، القرى والمراكز التي تمثل عمود الحزب، في مقابل التركيز على المستويات المركزية مثل، الأمانة العامة والمكتب السياسي، والتي تتمتع بجاذبية أكبر لدى الكوادر المشتغلة بالعمل السياسي، إذ ليس هناك رابط بين هذه المستويات المركزية والدوائر الأصغر، كما تقابل المحافظات بتهميش واضح، ولا تظهر إلا عند الدعوة للمؤتمر العام؛ بسبب بعدها عن المركز وضعف الموارد المالية. 

ـ المشكلة الثانية، تتعلق بتهميش وغموض اللوائح التنظيمية للأحزاب، وبشكل خاص فيما يتعلق بتداول السلطة، والذي يؤدي إلى مزيد من الصراعات والانشقاقات، كما يقوم بعضها بتهميش المستويات المركزية الجماعية مثل، المؤتمر العام أو اللجنة المركزية، والتي تنعقد بين فترات زمنية طويلة نسبيًا، وتقابل قرارتها بالتجاهل من المستوى القيادي. 

الأهم من ذلك، غلبة ما يمكن تسميته هيمنة القيادة الواحدة والتاريخية في عدد من الأحزاب، إذ أن قليل من تلك الأحزاب أفلتت من ذلك التصنيف، ونجحت في الإدارة بشكل جماعي يُؤخذ في الاعتبار تعدد الأراء والمستويات الحزبية، ويحاول خلق توازن بينها. بما يقلل من تحول الخلافات الداخلية إلى انشقاقات عميقة يستحيل علاجها فيما بعد.