عندما اندلع العنف لأول مرة في السودان الشهر الماضي ، أعرب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين، عن قلق بلاده من أن الصراع على السلطة سيقوض “الجهود المبذولة لاستعادة الانتقال الديمقراطي في السودان”.
وفي الواقع، حتى الآن، لا تبدو الوساطة السعودية الجارية بين طرفي الصراع في الخرطوم أنها تستطيع تعالج مخاوف بلينكن بشأن الديمقراطية. لأنها حتى لو كانت ديمقراطية نموذجية، سيكون للمملكة أولويات أكثر إلحاحًا، بما في ذلك منع الحرب الأهلية السودانية. وبشكل أعم، تحقيق الاستقرار في منطقة البحر الأحمر.
حول المدى الذي يمكن أن تشارك به الوساطات الدولية لشركاء السودان، خاصة الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات، تشير الباحثة زينب ربوة، مديرة البرامج في مركز السلام والأمن في الشرق الأوسط التابع لمعهد هدسون، في تحليلها المنشور في فورين بوليسي/ Foreign Policy، إلى أنه يجب منع السودان من الانزلاق إلى الهوة التي وقع في الليبيون.
تقول: لا يمكن لأحد أن يتهم إدارة بايدن بالسخاء أو الإفراط في الثناء على المملكة العربية السعودية. لذلك، أثار ذلك بعض الدهشة عندما غرّد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين في 5 مايو/ أيار: “ترحب الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ببدء محادثات ما قبل المفاوضات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في جدة”.
وأشارت ربوة إلى أنه “من جانبه، من الحكمة أن يتحقق فريق بايدن من اندفاعه لتعزيز الديمقراطية في الوقت الحالي ودعم جهود الرياض لمنع جارتها البحرية من الانزلاق إلى الفوضى”. مشيرة إلى أن الحقيقة المؤسفة هي أنه لا يوجد ديمقراطيون أو دعاة سلام في السودان “فمنذ الاستقلال في عام 1956، عانى السودان من الحكم المطلق والحروب الأهلية، ولا يزال يتعافى من دكتاتورية وحشية”.
وتلفت إلى أن البلاد منقسمة بين قائدين متنافسين: عبد الفتاح البرهان قائد القوات المسلحة السودانية ومحمد حمدان دقلو -المعروف باسم “حميدتي”- وهو جنرال قوي من غرب السودان وزعيم قوات الدعم السريع. وكلاهما من المتحدثين باللغة العربية “كما أن الجهات الخارجية الرئيسية -مصر والسعودية والإمارات- هي دول عربية. لكن، من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن السياق السياسي الإقليمي -والتداعيات الناجمة عن المزيد من عدم الاستقرار- تمتد بعيدًا إلى الشرق الأوسط.
اقرأ أيضا: المونيتور: حرب البرهان وحميدتي تطيح بأحلام روسيا في بورت سودان
ما هي الرهانات؟
ترى ربوة أن المصريون أقرب إلى البرهان -الذي تقع قاعدة قوته في الشمال- والذي يساعد القاهرة في إدارة نزاع النيل مع إثيوبيا، ويسيطر على بورتسودان، وهي جائزة استراتيجية في الصراع.
على النقيض من ذلك، يميل الإماراتيون نحو حميدتي، الذي ينحدر من دارفور في الغرب ويسيطر على مناجم الذهب في البلاد. التي تكمن أرباحها -بشكل شبه حصري- في البنوك الإماراتية.
في الكابيتول هيل -مقر الكونجرس الأمريكي- يؤيد الرأي السائد معاقبة السودان على أمل فرض انتقال ديمقراطي. على سبيل المثال، دعا السناتور الأمريكي جيم ريش الإدارة مؤخرًا إلى “معاقبة الجنرالات برهان وحميدتي” و “الحد من تأثير الجهات الخارجية التي تقدم المساعدة للمجلس العسكري”.
لكن -والكلام للباحثة- علاقات واشنطن مع مصر والسعودية والإمارات متوترة بالفعل “إن تهديدهم بالعقوبات -كما يلمح بيان ريش- سيزيد من نفور الحلفاء أنفسهم اللازمين للتعامل مع الأزمة وتقليل التوترات”.
تقول ربوة: الرهانات عالية. يخاطر السودان بأن يصبح ليبيا أخرى، حيث تندلع حرب أهلية لا نهاية لها -على ما يبدو- بين الفصائل المدعومة من الخارج.
وفقا لمنظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، تضاعف عدد الأشخاص النازحين بسبب القتال في أسبوع واحد إلى حوالي 700000، اعتبارًا من 9 مايو/ أيار.
وبينما بورتسودان هي مركز 90% من تجارة السودان مع العالم، وجهة العديد من الطرق البرية الإقليمية، ونقطة الهبوط لأحد أنظمة الكابلات البحرية الرئيسية في إفريقيا. فقد ترك الحصار المفروض على الميناء في عام 2021 950 حاوية شحن عالقة وخلق عوائق كبيرة.
ومنذ اندلاع القتال بين الفصائل في 15 أبريل/ نيسان، قتل أكثر من 600 شخص وجرح 5000.
وتؤكد مديرة البرامج في مركز السلام والأمن بمعهد هدسون أن الحرب الأهلية في السودان “لا تخاطر بتعطيل الاقتصاد الإقليمي فحسب، بل تهدد أيضًا بعودة البلاد كملاذ للإرهابيين”.
تقول: من هناك، يمكن تقويض الجهود الجارية حاليًا لتحقيق الاستقرار في منطقة الساحل. ويمكن أن يهددوا مناطق أبعد. مُذكِّرة بأن أسامة بن لادن -قبل طرده في عام 1996- أمضى خمس سنوات في السودان لتطوير تنظيم القاعدة.
الاستغلال الروسي
تشير ربوة إلى أنه “كما هو الحال في ليبيا، يقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضًا على استعداد لاستغلال الصراع”.
تقول: من المؤكد أن حرب أوكرانيا كشفت نقاط ضعف مروعة في الجيش الروسي. لكن تدخلات بوتين في ليبيا وسوريا، وأماكن أخرى، علمته أنه عندما يتعلق الأمر بالدول الضعيفة والفاشلة، يمكن حتى لعمليات الانتشار العسكرية الصغيرة أن تولد مكافآت جيوسياسية ضخمة. خاصة عندما تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها في أغراض متعارضة.
ولفتت إلى أن الرئيس الروسي يتمتع أيضًا بميزة، كونه يتمتع بشعبية كبيرة حاليًا في العديد من الدول الأفريقية بسبب أنشطة مجموعة فاجنر “وهي شركة المقاولات العسكرية الروسية التي ملأت الكثير من الفراغ الذي تركه الفرنسيون المنسحبون في جميع أنحاء القارة”.
وتضيف: يمكننا أن نرى الآن، بوضوح، أن بوتين يعمل بالتوازي مع الرئيس الصيني شي جين بينج في إفريقيا لتقويض النظام الذي تقوده الولايات المتحدة. يسعون معًا، من بين أهداف أخرى، إلى تشويه مكانة الولايات المتحدة باعتبارها الفاعل الاستراتيجي الرئيسي في المنطقة، والسيطرة على التجارة العالمية في السلع الثمينة والموارد الأخرى.
وتُذكِّر بأنه في فبراير/ شباط، قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بجولة في إفريقيا “حيث شجب الإمبريالية الأوروبية، وذكّر مضيفيه بأن الاتحاد السوفيتي كان نصيرًا لاستقلال الشعوب المستعمرة”.
وقد تضمنت رحلة لافروف توقفًا في الخرطوم، حيث شدد على الحاجة إلى التعددية القطبية في الشؤون الدولية مع وضع روسيا أيضًا كبديل للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
وأوضحت: يدرك الكرملين أن الوجود الروسي القوي في السودان من شأنه أن يمنحه مزيدًا من النفوذ على مصر والسعودية والإمارات، التي أصبحت بالفعل -كل على طريقتها الخاصة- تتحوط بعيدًا عن واشنطن، وتجاه موسكو وبكين.
وتشير ربوة إلى التقارير التي زعمت أن النظام المصري يتفاوض بشأن خطة لإنتاج 40 ألف صاروخ سرا للجيش الروسي “وهي حقيقة أنكرتها القاهرة لاحقا بشكل غير مقنع”. مشيرة إلى أن الدرس يجب أن يكون واضحا أمام واشنطن: موسكو تغازل مصر، والقاهرة مستعدة للتودد.
اقرأ أيضا: الدور السعودي في السودان.. نفوذ واستثمارات ومقاربات متضاربة
بين الكرملين وإفريقيا
كان إحياء العلاقات المتلاشية بين الاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط وإفريقيا دائمًا جزءًا من خطة بوتين الاستراتيجية. لذلك، تشير الباحثة الأمريكية إلى أن السودان يوفر للكرملين بوابة لكلا المنطقتين.
تقول: أظهر بوتين اهتماما مباشرا بالسودان عندما أُعلن، في ديسمبر/ كانون الأول 2020 ، أن روسيا ستبني -بموجب عقد إيجار مدته 25 عاما- منشأة بحرية قادرة على إرساء السفن السطحية التي تعمل بالطاقة النووية في بورتسودان. وفي الوقت نفسه، فإن النفوذ المتنامي لمجموعة فاجنر في دارفور يساعد موسكو على إنشاء ممر عبر السودان إلى المواقع الروسية الراسخة في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وأضافت: وفي بداية الحرب الأهلية السودانية، كانت روسيا تدعم كلا الجانبين بذكاء. الجيش الروسي يتعامل مع برهان ، بينما رئيس مجموعة فاجنر، يفجيني بريجوزين، يتحدث إلى حميدتي.
وتشير هنا إلى أن كلا من البرهان وحميتي ينحدر من مناطق متميزة جغرافياً وثقافياً في بلد ضخم.
تقول: جاء البرهان من الشمال، وهو قريب تاريخيًا من المصريين، ويحظى باحترام النخبة في الخرطوم. بينما حميدتي من دارفور، وهي بلد منفصلة، لكنها عالقة داخل حدود السودان الحديث، بفضل حادثة من تاريخ الإمبراطورية البريطانية. كلاهما أسير لما يبدو -في الوقت الحالي- أنه انقسام عرقي لا يمكن جمعه.
وأوضحت أن احتمالية ظهور أحدهما كفائز حاسم في السيطرة الحازمة على البلد بأكمله تقترب من الصفر “وبغض النظر عن الطريقة التي سينتهي بها الصراع، من المرجح أن تحتفظ روسيا بموطئ قدم”.
ماذا تفعل واشنطن؟
يرى التحليل أن الهدف الاستراتيجي الأساسي للولايات المتحدة يتمثل في تقليص حجم موطئ القدم الروسي والقضاء عليه، إن أمكن.
تقول ربوة: لن تكون هذه مهمة بسيطة، لكن فريق بايدن لديه شركاء يمكنهم المساعدة.
ولفتت إلى أنه “مثل الروس، يتعامل الإسرائيليون أيضًا مع كل من البرهان وحميدتي. حيث تسعى تل أبيب للاحتفاظ بالسودان ضمن اتفاقيات إبراهيم“. كما أنه في السودان -كما هو الحال مع العديد من القضايا الأخرى هذه الأيام- تتوافق المصالح السعودية والإسرائيلية. مثل تل أبيب، تجنبت الرياض أيضًا إغراء اختيار فائز”.
يعيدنا هذا إلى ارتباط بلينكن بالرياض. يرى التحليل أنه إذا وضع الرئيس الأمريكي جو بايدن المحادثات التي توسطت فيها السعودية بين البرهان وحميتي في الإطار الاستراتيجي الصحيح، فسوف يراها كوسيلة للمساعدة في التقريب بين شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل.
تضيف: يمكن أن تكون المحادثات أداة ليس فقط لتحقيق الاستقرار في منطقة البحر الأحمر، ولكن لحرمان روسيا والصين من ذلك.
وتابعت: في حين أن خطاب بلينكين يتشدق بالكلام تجاه التحول الديمقراطي في السودان، فإن تصرفات الإدارة تشير إلى أنها تدرك أن الاستراتيجية التي تركز على تعزيز الديمقراطية محكوم عليها بالفشل. تسعى الصين وروسيا وإيران إلى تقويض النظام الذي تقوده الولايات المتحدة عالميًا.
وأوضحت أن الطريقة الوحيدة لرفع مكانة واشنطن في البحر الأحمر هي العمل مباشرة مع الحلفاء الذين يمكنهم، في هذه الحالة، التفاوض على وقف إطلاق النار بين حميدتي والبرهان. وهنا تكمن الفرصة الحقيقية: إعادة العلاقات مع الحلفاء العرب، وتطوير اتفاقيات إبراهيم إلى أداة استراتيجية في التنافس مع موسكو وبكين.