لحسن الحظ، أن العلاقات الأخوية التاريخية بين الشعبين المصري والسوداني، بالإضافة إلى إدراك مصر أهمية عمقها في الجنوب، هي ما حَكَمَ – بالتعاون والتنسيق مع السلطات السودانية – تسهيل إجراءات دخول عشرات آلاف الأشقاء الذين نزحوا إلى مصر هربا من الحرب المستعرة في الخرطوم بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع.
يدخل الأشقاء السودانيون بدون تأشيرة فيما يخص النساء من جميع الأعمار، وكذلك الأطفال تحت 16 عاما والرجال فوق الخمسين، أما الشبان الذكور بين 16 و49 عاما فيجب عليهم الحصول على تأشيرة من القنصلية المصرية في حلفا، وهما عملية تتأخر لأيام بسبب الزحام، لكنها تتم في النهاية خصوصا لمن يسافرون بصحبة عائلاتهم، وقد تم – وفق التنسيق- الكثير من عمليات التسهيل من قبيل القبول بوثائق السفر وتمديد جوازات السفر لستة أشهر وإضافة الأطفال على جوازات الأهل، من أجل استقبال أكبر أعداد ممكنة هربا من مخاطر الحرب، وهي أعداد عانت وتعاني رحلة برية طويلة ومرهقة ومحاطة بالمخاطر، من أنحاء السودان إلى معبر أرقين، ومن هناك إلى مدينة أسوان، فالاستقرار فيها أو الرحيل إلى القاهرة بالحافلة أو بالقطار.
استمرت عملية الاستقبال – الطبيعية والبديهية – من دون الالتفات إلى بعض الأصوات الهيستيرية التي كانت تصرخ – حتى من قبل حرب السودان – تنديدا باستقبال مصر للاجئين من مختلف الدول العربية، وقد انزعج هؤلاء بشدة من تقرير المنظمة الدولية للهجرة الصادر قبل أشهر، والذي كشف عن أن مصر تستضيف حوالي 9 ملايين مهاجر ومقيم، وأن 80 بالمئة من هؤلاء المقيمين ينتمون إلى دول السودان (4 ملايين) وسوريا (مليون ونصف المليون) واليمن (مليون) وليبيا (مليون)، وكالعادة، وبالطريقة التي “تميز” كارهي الأجانب وأصحاب النزعات الفاشية والوطنية المتطرفة، والتي تزداد حدتها في الأزمات الاقتصادية عبر تحديد الأجانب والأقليات العرقية كهدف سهل للهجوم، فإن احتجاجات هؤلاء تفتقر إلى المعلومات الصحيحة والمنطق العلمي والحجة السليمة، وتكشف عن جهل تحب منشورات مواقع التواصل أن تروجه، فهذا يعتقد أن “الحكومة” تدفع مرتبات للاجئين، وذاك يظن أن اللاجئين يسرقون الوظائف، فضلا عن الخلل التام فيمن يشبّهون بقاء اللاجئين بالمستوطنين الصهاينة في فلسطين، معربين عن خشيتهم من أن “يستوطنوا” بلادنا ويسرقوها!
وعلى الرغم من أن مسألة اللجوء الإنساني حق أساسي ضمن بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ تتيح المادة 14 “لكل إنسان” أن يهرب من البلد الذي يتعرض فيه للاضطهاد أو يشكل خطرا على حياته وأن يطلب اللجوء في مكان آخر. وأن هذا الحق نفسه استخدمه العديد من المصريين لأسباب مختلفة للبقاء في بلدان أخرى عبر العالم الواسع، حتى من دون أن تتعرض مصر – ولله الحمد – للحرب الأهلية أو الغزو الأجنبي أو الكوارث الطبيعية مما تعرض له أشقاؤنا في العالم العربي. حتى بعد ضرورة فهم أن حق اللجوء – كغيره من حقوق الإنسان الأساسية – ليس مجاملة وليس منحة أو مكافأة، بل ضرورة أدركتها البشرية من أجل بقائها ومنعت فيها التمييز بين البشر حسب العرق أو الجنس أو الدين أو اللون، فإننا، بالإضافة إلى كل ما سبق، لا ينبغي أن نغفل عن المعلومات السليمة في سياق اللجوء لمصر، وهو ما يتضح فيه التالي:
فصحيح أن في مصر – كما قالت المنظمة الدولية للهجرة- 9 ملايين مقيم أجنبي من 133 دولة، إلا أن اللاجئين بالمعنى الرسمي، الذين يحصلون على معونات من المفوضية السامية للأمم المتحدة في مصر (وليس من الحكومة المصرية أو دافع الضرائب المصري) هم لا يزيدون حسب أرقام مفوضية اللاجئين عن ٢٨٨ ألف شخص فقط من من ٦٠ دولة مختلفة، غالبيتهم من سوريا تليها السودان وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال. وحسب أرقام العام الحالي ٢٠٢٣، وقبل نشوب الحرب في السودان، كان عدد اللاجئين المسجلين لدى المفوضية يتكون من ١٤٦،٠٤٩ لاجئاً من سوريا و٥٨،٩٩٥ من السودان و٢٤،٧٠١ من جنوب السودان و٢٢،٦٥٤ من إريتريا و١٥،٨٩٨ من إثيوبيا و٧،٦٧١ من اليمن و٦،٤٠٩ من الصومال و٥،٦٣٣ من العراق وأكثر من ٥٠ جنسية أخرى.
ولا يحق لهؤلاء اللاجئين الرسميين، ولا حتى لغيرهم من المقيمين أو أي أجنبي أن يعملوا إلا بعد الحصول على ترخيص خاص بذلك من الوزارة المختصة، وأن يكون مصرحا لهم بدخول البلاد والإقامة بقصد العمل، حسب نص المادة 28 من قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003.
هذا هو السبب، عزيزي الهيستيري، في “مطاعم الشاورمة” و”العطور” العديدة التي تراها حولك، لأن أصحابها افتتحوها بوصفهم مستثمرين، وقد ضخوا المليارات في السوق المصرية، وشغّلوا العمالة، ويدفعون الضرائب، بينما، يحصل ربع المليون لاجئ الرسميين المذكورين على مساعداتهم الإنسانية من الأمم المتحدة وليس منك، هذا من دون التطرق إلى الأهمية الدولية التي تكتسبها بلادك عبر الدور الذي تمارسه في المنطقة باحتضان اللاجئين الفارين من أزماتها المتعاقبة، إن هذا الدور، مرة أخرى، ليس مجاملة، لا بالمعنى السياسي، ولا بالمعنى الإنساني، وتذكر أن الدول تزدهر بتنوعها، لا “بنقائها” المفترض.