لا جدال في أن أسبوعا واحدا، أو علي وجه الدقة لا جدال في أن ثلاثة أيام عمل في اللجان المنبثقة عن المحاور الثلاثة للحوار الوطني لا تكفي لإصدار أحكام، أو حتى ملاحظات مكتملة على أعمال تلك اللجان التسع عشرة “19”.

ومن باب أولى يصعب استشراف مؤشرات على طبيعة المخرجات المتوقعة، ولكن يصعب أيضا تجاهل ردود الفعل الغزيرة -سلبا وإيجابا -على انطلاق الحوار الفعلي في الأسبوع الماضي.

لم تتمثل ردود الفعل هذه فقط في عودة اهتمام الرأي العام والاعلام بمشروع الحوار ومجرياته، بل وعودة الاهتمام من جانب الشخصيات والأطراف السياسية المتحفظة والمتشككة والرافضة، ولكن أيضا فقد تجدد الزخم السياسي لدي المشاركين فيه، أفرادا وكيانات، واتخذ هذا الزخم أشكالا عديدة، منها ما هو خلافي، ومنها ما هو قلق وتوجس، ومنها ما يفهم علي أنه اصطفاف استقطابي بين موالاة ومعارضة، ومنها أخيرا ما يعد مراجعات داخلية ونقدا ذاتيا.

إذا استبعدنا من حديثنا من وصفناهم في الفقرة السابقة بالمتحفظين والمتشككين والرافضين، وإذا استبعدنا أيضا الفريق الذي يري أن الحوار منحة من النظام للمعارضة، و ليس انعكاسا لأزمة كبري في المجتمع والدولة، ووسيلة ديمقراطية سلمية للخروج الآمن من هذه الأزمة، فسيتبقى أمامنا بالطبع الذين يأملون في نتائج إيجابية، مع اختلاف واضح في تقدير مداها، والذين يشفقون من فشل يرونه محدقا بالمشروع، سيزيد من حدة الاحباط العام.

لكل من هؤلاء وأولئك أسبابهم وشواهدهم.

الفريق الذي يحدوه الأمل يري أن انطلاق الجلسات أخيرا -بعد أن طالت أو تعثرت عملية الاعداد كثيرا- إنما يعكس إرادة مشتركة بين السلطة والمعارضة لتجنب الفشل، و أنه في حالة الفشل فستتحمل السلطة النصيب الأكبر من المسئولية عنه، بحكم أنها هي الداعية، وبحكم أنها الممسكة بكل الخيوط، وأخيرا بحكم أن النجاح من عدمه مرتبط بما سيقدمه النظام، أو بما سيقبل به من “تنازلات“ لإعادة بناء مجال سياسي له مصداقية ، بالإضافة طبعا لما هو معلوم بالضرورة أن المعارضة ليس لديها ما تخسره، إذا لم تكسب شيئا.

فوق كل ذلك فإذا كانت المعارضة قد اعتادت علي الضغوط والحصار بل والإنكار (وأحيانا التخوين) في السنوات السابقة، عندما كان النظام في ذروة شعبيته، فإن هذا النظام نفسه هو الذي يمر حاليا بما لم يعتده من قبل من ضغوط الأزمة الاقتصادية شديدة الوطأة، بما لها من سلبيات علي شعبيته، وبما لها من مضاعفات اجتماعية وسياسية، في لحظة شديدة الحساسية ، وهي اقتراب موعد انتخابات الفترة الرئاسية التالية، والتي لا ظل من شك في أن الرئيس عبد الفتاح السيسي سيترشح لها ، سواء نافسه مرشحون جادون، أم أحجم بعض هؤلاء المرشحين الجادين، أو كلهم في اللحظة الأخيرة، وعليه فإن نجاح الحوار الوطني (مع اختلاف في تقدير مدي النجاح المأمول) يوفر فرصة ملائمة لإخراج أكثر مصداقية، أو أقل حرجا لهذه الانتخابات في الداخل وفي الخارج .

أما أسباب وشواهد الفريق الذي يشفق من فشل الحوار، ويخشى من تضاعف الإحباط العام نتيجة لهذا الفشل، فهي أيضا عديدة، وفي مقدمتها الافتراضات غير الواقعية، وإن كانت صحيحة نظريا، مثل وجوب اعتراف النظام الحاكم بأخطاء سياساته حيث أخطأ، بما أن هذا الاعتراف هو المقدمة الضرورية للمراجعة والتصحيح، ومنها أيضا دخول الحوار وإدارته على أساس الندية الكاملة بين الحكم وبين المعارضة، بمعني عدم توظيف أوراق القوة السياسية والاعلامية (وطبعا الأمنية) المملوكة حكرا للسلطة في توجيه مجريات الحوار، وضبط مخرجاته٠

ومع أن ذلك هو الصحيح نظريا ومن حيث المبدأ، فإنه غير ممكن من الناحية العملية، لأنه لو كان ممكنا لما كانت هناك حاجة أصلا لمثل هذا الحوار، إذ كان يكفي تطبيق النصوص الدستورية المسطرة بالفعل، حول التعددية السياسية، ونزاهة الانتخابات والحريات العامة وحقوق الانسان، من خلال قوانين ولوائح وإجراءات تتفق مع روح تلك النصوص، علي عكس المعمول به حاليا سواء في قوانين الانتخابات أو قانون الاجراءات الجنائية فيما يتعلق بفترات الحبس الاحتياطي تحديدا، فضلا عن التوسع الإداري في الاشتباه السياسي، والتدخل في نزاهة الانتخابات، ومحاصرة الأحزاب، والقيود المفروضة علي الصحافة والإعلام ،بدءا من الرقابة الذاتية من المنبع، وحتي حجب المواقع، وبالمناسبة فهذه بالضبط هي موضوعات الحوار في لجان المحور السياسي، والتي سيتوقف على إحراز تقدم فيها، أو بقاء الحال علي ما هو عليه الحكم بنجاح أو فشل الحوار، ومن ثم تحسن الحالة السياسية العامة، أو استمرار الجمود حتى أي إشعار آخر، لا يعلم أحد طبيعته، ولا توقيته.

ومن الشواهد المقلقة للمشفقين من الفشل، نمط التغطية الاعلامية لجلسات الحوار، التي يُلمس تحيزها لممثلي السلطة، وكذلك إغراق الجلسات بعدد أكبر من اللازم من المتحدثين، غير أن أكبر دواعي القلق لدى هذا الفريق هو عدم حسم ملف الإفراجات والعفو في قضايا الرأي السياسي، التي لا تتضمن استعمالا للعنف أو التحريض عليه، طبقا لما اتُفِق عليه من ضمانات -قبل تشكيل مجلس أمناء الحوار،- بين الجهات الراعية، وبين ممثلي الحركة المدنية الديمقراطية، وهو الاتفاق الذي أُعيد تأكيده أكثر من مرة، والذي كان التأخر أو التباطؤ في تنفيذه من أسباب استطالة فترة التحضير لانطلاق الحوار الفعلي.

لهذه الأسباب وغيرها مما يماثلها، فلا لوم ولا تثريب على من يشعر بالقلق أو بالإشفاق من فشل الحوار الوطني، فهو في قرارة نفسه يتمنى النجاح، وإن كان لا يتوقعه بنسبة كبيرة، ولكن يبقي لي بصفة شخصية مأخذ محدد علي هؤلاء، وهو أنهم مستعدون دائما لتوجيه اللوم صراحة أو ضمنا الي المعارضة، وخاصة الى الحركة المدنية الديمقراطية، علي قبولها الانخراط في الحوار دون توافر ضمانات الندية، ودون تنفيذ تعهدات الإفراج عن سجناء ومحبوسي الرأي بالكامل، ويعتبرون ذلك استسلاما، لكن ألسنا في البداية فقط؟ وأليس الوقت متاحا لاختبار إرادة النجاح لدى بقية الأطراف، كما هو متاح للمراجعة والتصحيح؟ وبعد كل شيء أليس آخر الدواء الكي؟