عندما اندلع الصراع العسكري في السودان، كان التركيز على الروابط الاقتصادية الخارجية والداخلية لقوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي، حاضرًا وبقوة، لفهم الدوافع والتداعيات المحتملة لهذا الصراع. لكن في المقابل، لم تحظ الروابط الاقتصادية للقوات المسلحة السودانية بنصيب مماثل من تسليط الأضواء.
وفي هذا الإطار، فإن فهم المصالح الاقتصادية للجيش للسوداني وتشابكها مع قوى من أنصار النظام السابق لعمر البشير -أو ما يعرف بـ “الدولة العميقة”- يصبح ضروريًا للتعرف على جذور الخلافات السياسية، وأسباب إصرار المؤسسة العسكرية على منع التحول الديمقراطي منذ الإطاحة بالبشير عام 2019.
“الصراع متجذر في الاقتصاد السياسي لعملية انتقال فاشلة لم تمنح الإدارة المدنية الأدوات للتعامل مع الأزمة الاقتصادية في البلاد، وتفكيك المجمع العسكري التجاري”، يشير إلى جوهر الأزمة أليكس دوفال، الخبير البارز في الشأن السوداني، في مذكرته المنشورة على “مصر 360”.
ويقول إن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان هو وريث نظام الكليبتوقراطية المركزية (حيث استخدام السلطة للاستيلاء على ثروات الشعوب) للمجمع العسكري التجاري، وحزب المؤتمر الوطني المنحل. “هذا هو تجمع الأوليجارشية (حكم الأقلية التي تستأثر بالموارد).. حيث كثير من الإسلاميين الذين احتفظوا بأعمالهم أو علاقاتهم متحالفون معهم. وتأتي أموالهم السياسية من أعمالهم حيث رأسمالية المحاسيب، بما في ذلك قطاعي النفط والاتصالات”.
اقرأ أيضا: “أليكس دوفال” الخبير البارز في الشأن السوداني يشرح جذور الأزمة ويفكك طبقات الصراع
ماذا نعرف عن شركات الجيش السوداني؟
بلغ عدد الشركات التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية، التي تخضع بدورها إلى وزارة الدفاع السودانية، أكثر من 200 شركة بحلول مايو/أيار 2020، بمعدّل إيرادات بلغ 110 مليار جنيه سوداني سنويًا (ما كان يعادل 2 مليار دولار أمريكي آنذاك).
ويبلغ العدد الإجمالي للشركات العسكرية حوالي 250 شركة، بإضافة تلك التابعة لقوات الدعم السريع. وقد دلّ تبرّع الجيش السوداني بمليار دولار إلى بنك السودان المركزي لدعم استيراد السلع الحيوية في عام 2019 على حجم الاحتياطي المالي الذي تحتفظ به، بحسب ما يشير “مركز كارنيجي للشرق الأوسط“.
وتنخرط تلك الشركات في إنتاج وبيع الذهب والمعادن الأخرى والرخام والجلود والمواشي، والصمغ العربي. وهي منخرطة في تجارة الاستيراد -ويُعتقد أنها تسيطر على 60% من سوق القمح- والاتصالات والمصارف وتوزيع المياه، والإنشاءات والتطوير العقاري والطيران والنقل والمنشآت السياحية وإنتاج الأجهزة المنزلية والأدوية والمساحيق والنسيج.
وقد استفادت تلك الشركات -بطبيعة الحال- من إعفاءات الرسوم الجمركية ورسوم المواني ودفع الضرائب، ولم تكن خاضعة للرقابة. إذ وفي إطار ترضيات البشير للجيش في خضم الأزمة الاقتصادية التي عانى منها السودان، أقر البرلمان السوداني في 2017 مرسومًا قضى بتغيير مسمى “هيئة التصنيع الحربي” إلى منظومة “الصناعات الدفاعية” مع إجراء عدد من التعديلات القانونية.
مكّنت هذه التعديلات المؤسسة العسكرية من التوسع في النشاطات الاقتصادية المدنية. والأهم أن تكون فوق القانون “بشكل مقنن” على أن تتبع مباشرةً رئيس الجمهورية. وبذلك أصبح للمؤسسة الحق في استثمار أموالها دون مراجعة من أي جهة، على أن يُعيّن رئيس الجمهورية مراجعًا خاصًا لها ويكون هو فقط من يحق له إنهاء خدمته.
توسعت المؤسسة العسكرية في أنشطتها وزاد حجمها، فشملت شركات عدة، منها: شيكان للتأمين، والخرطوم للتجارة والملاحة، وبنك أم درمان الوطني، ومجموعة جِياد الصناعيّة (تعمل في صناعة السيارات والشاحنات والدراجات النارية)، وتوباز للصناعات المعدنية. كما تمتلك شركات كبرى وصغرى تنشط في مجالات شتى كتجارة اللحوم وتربية الدواجن.
بالإضافة إلى شركات في الطباعة والنشر والإسكان والاستثمار والإنتاج الإعلامي والنقل والكيماويات والتقنية الطبية وإدارة المنتزهات السياحية وصناعة التكييفات وأدوات التنظيف وغيرها. كما استحوذ صندوق التقاعد العسكري على 37800 كلم من المناطق النائية، وبدأ عمال المزارع في العمل باتفاق مع بعض الدول الخليجية.
باختصار سيطرة شبه كاملة على السوق من تجارة دقيق الخبز حتى الصناعات الثقيلة.
وفي دراسة صادرة عن مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة (C4ADS)، ركز الباحثون على بنكين رئيسيين، وهما بنك أم درمان الوطني وبنك الخليج، اللذين يستخدمهما الجيش وقوات الأمن للوصول إلى الشبكات المالية العالمية.
وبحسب الدراسة، امتلك الجيش -من خلال شبكة من المؤسسات الخيرية كواجهة- 86% من الأسهم في بنك أم درمان، التي اشتراها بالاستحواذ على أسهم البنك المركزي. في غضون ذلك، كان بنك الخليج تحت سيطرة المشاريع المشتركة التابعة لدولة الإمارات وقوات الدعم السريع.
ووفقًا لمسئولين سابقين خدموا في حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، فقد تم استصدار رسائل ائتمان للقوات المسلحة السودانية من البنوك التي كانت تسيطر عليها للتهرب من ضرائب الاستيراد، الأمر الذي سمح لها ببيع السلع بأسعار أقل من المنافسين المدنيين.
وذهبت الدراسة إلى أن حجم الشركات التي تسيطر عليها النخب الأمنية كافة يصل إلى أكثر من 400 كيان، بما في ذلك التكتلات الزراعية والبنوك وشركات الاستيراد الطبية. فيما يسيطر الجيش بشكل مباشر على قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية والإنترنت.
الصراع على الكعكة
بعد الثورة السودانية والإطاحة بحكم البشير، تغيرت المعادلة وخرج الحديث عن إمبراطورية الجنرالات المالية إلى الملأ. لكن في خضم هذه التحولات كان التنافس بين الجيش والدعم السريع مشتعلًا للظفر بكبرى شركات حزب المؤتمر الوطني المنحل.
يقول “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” في دراسة له إن الشركات المملوكة لجهازي الأمن والمخابرات وأقارب البشير وشخصيات حزب المؤتمر الوطني هي “جوائز مرغوبة للبرهان وحميدتي، اللذين يتنافسان على السيطرة على موارد تلك الشركات”.
إذ جعل البرهان مؤسسة الصناعة الدفاعية مسئولة عن العديد من الشركات التي كانت مملوكة من قبل لقادة حزب المؤتمر الوطني وعائلة البشير. في حين سيطرت “الدعم السريع” على العديد من الشركات التي كان يديرها سابقًا جهاز الأمن والمخابرات الوطني. بالإضافة لذلك، احتفظ الجيش الآن بأرباح شركاته التي كانت، في ظل النظام السابق، موجهة إلى حد كبير إلى حزب المؤتمر الوطني.
وتشير الدراسة -التي أعدها الباحث جان بابتيست جالوبين– إلى أنه منذ تولي البرهان رئاسة المجلس السيادي الانتقالي عيّن موالين لإدارة العديد من الشركات التي يسيطر عليها الجيش. فقد تولى اللواء الميرغني إدريس، صديق البرهان المقرب، رئاسة مؤسسة الصناعات الدفاعية.
وكذلك الجنرال عباس عبد العزيز -أول قائد لقوات الدعم السريع وهو أيضًا صديق مقرب من البرهان- الذي بات مسئولًا عن شركة الساطي القابضة. وانضم زميل سابق آخر، اللواء مهلب حسن أحمد، الذي أصبح رئيسًا لمنظمة الشهداء، وهي شركة قابضة مولت سابقًا حزب المؤتمر الوطني، ولديها استثمارات في تعدين الذهب وأماكن الترفيه.
وبحسب مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة، تتكون الدولة العميقة السودانية من مسئولين من المستويات المتوسطة إلى العليا من الأجهزة الأمنية والمدنية الذين يسيئون استخدام نظام الحكم للحفاظ على شبكاتهم من السلطات الاقتصادية والسياسية.
والدولة العميقة “ليست متجانسة فهي تتكون من فصائل مختلفة تتنافس على الموارد. وكلما تتحول التحالفات، تدخل هذه الفصائل ساحة اللعب وتخرج منها بموجب اتفاقيات تقاسم السلطة الجديدة”. ولكنها تتكون بشكل أساسي من القوات المسلحة والدعم السريع وحركات التمرد المسلحة.
وتضيف أنه تم إنشاء بُنى مؤسساتية معقدة للحفاظ على الدولة السودانية العميقة في عهد البشير للاستمرار في حمايته من المساءلة والعدالة الدولية. “تمتلك دولة السودان العميقة بعضًا من أكبر الشركات في البلاد، الأمر الذي يمنحها إمكانية الوصول إلى تدفقات مالية خارجة عن الميزانية ومواقف اقتصادية قوية تمكنها من تعيين القادة السياسيين الرئيسيين”.
“الدولة العميقة” تعوق التحول الديمقراطي
خلال فترة التحول الديمقراطي بالقيادة المدنية بقيت شبكات الدولة العميقة سليمة وتقاوم الإصلاح الديمقراطي. وشكّلت مسألة نزع الصفة العسكرية عن الشركات التجارية نقطة خلافية في العلاقة العسكرية المدنية.
ظهر الصراع القوي وشديد الحساسية حول تركة منظومة الصناعات الدفاعية إلى العلن مع بداية عام 2020، عندما صرح المتحدث باسم الجيش السوداني حينها، عما أسماه إعادة هيكلة المؤسسة، في إشارة لإنهاء خدمة 25 قائدًا يدينون بالولاء للرئيس المخلوع، بالإضافة لتسريح مئات العاملين المحسوبين على تنظيم الإخوان المسلمين. مع وعد لاحق بإخضاع حسابات منظومة الدفاعات للمراجعة الحكومية. لكن ذلك لم يتحقق.
وفي أغسطس/آب 2020 أعطى عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء والشريك المدني في الحكم، إشارة البدء في تفكيك المصالح الاقتصادية للجيش قائلاً: “قضية استعادة الشركات الاقتصادية التابعة للقطاعين الأمني والعسكري، هي محط اهتمام الحكومة وقد بدأت فيها خطوات عملية لمعالجتها”.
وشكا حمدوك من أن 80% من الشركات العسكرية هي “خارج ولاية وزارة المالية”، وأن الوزارة لا تطّلع سوى على 18% من مداخيلها.
لكن بعد يومين فقط، رد عليه البرهان: “شركات القوات المسلحة لم تحتكر تصدير المواشي أو الذهب، ولم تحجر على أحد للاستفادة من موارد البلاد. الفاشلون هم من يريدون أن يجدوا شماعة ليعلقوا عليها الفشل ولا أحد يمكنه تعليق فشله على القوات المسلحة”.
وفي مارس/آذار 2021، اتفقت السلطات الانتقالية على نقل مجموعة من الشركات التجارية المملوكة للمؤسسة العسكرية إلى سيطرة الوزارات الحكومية المدنية، تحت ضغط المرسوم الأمريكي، الذي طالب بأن تحقّق السلطات السودانية السيطرة المدنية على أموال وأصول الأجهزة الأمنية والعسكرية، من أجل تعزيز المعونات والقروض الدولية.
لكن بعد عدة أشهر، كان الجيش ينقلب على الشركاء المدنيين. ووفق تعبير الباحث جالوبين فإنه “مع اقتراب القيادة المدنية من التعامل مع النفوذ الاقتصادي للدولة العميقة، اتخذ الجيش إجراءات حاسمة. كانوا على علمٍ بأن قبضتهم على الاقتصاد السوداني ذات أهمية قصوى لقوتهم الدائمة. وهكذا، ورافعين البنادق نفسها التي أطاحت بالبشير، استولوا على السلطة لأنفسهم”.
إذ عُدتا لجنة إزالة التمكين -التي جمّدها البرهان فورًا بعد الانقلاب- وشركة السودان القابضة لاستلام وإدارة الأصول المستردة، بمثابة “ضربة في قلب شبكات المحسوبية للجيش”، وفق مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة.
وقد بدأ التفكير في الانقلاب بعد إزاحة الفريق أول ياسر العطا من رئاسة اللجنة في فبراير/شباط 2021. وبعد الانقلاب شنت حملة أمنية للقبض على المسئولين، وفي مقدمتهم نحو 20 من القيادات المدنية للجنة إزالة التمكين. ثم تم الاستيلاء على الأصول التي استعادتها اللجنة.
يرى مركز الدراسات الدفاعية أن “تكتل احتكاري قمعي” من الجهات الفاعلة التابعة للدولة استخدم سيطرته على الاقتصاد لعرقلة طموحات السودان الديمقراطية. وهو يشكل “دولة عميقة” داخل السودان، ويعمل من خلال مؤسسات الدولة لإثراء أعضائه والنأي بهم عن المساءلة.
ويضيف أن سيطرة هذه الشبكات على البنوك، وشركات الاستيراد والتصدير، ومنشآت المعالجة وغيرها من المؤسسات تسمح لاحتكاراتها “المتكاملة رأسيًا” بتقويض الشركات المدنية المحلية. ولا يوجد ما يحفز الدولة العميقة على التفاوض الهادف مع الجهات المدنية الفاعلة لكونها تمتلك القوة العسكرية والاقتصادية على حد سواء.
بينما يميّز الباحث أليكس دوفال قائلًا إنه على عكس حميدتي أو البشير من قبله، فإن البرهان “ليس لديه مصدر نقدي شخصي خاص به لتيسير الصفقات السياسية. وقد اضطر إلى المساومة مع الرأسماليين العسكريين وأعوانه من الحرس القديم بشأن القرارات الرئيسية”.
في 14 مايو/أيار الجاري، أصدر البرهان قرارًا بتجميد جميع حسابات الدعم السريع في البنوك السودانية سواء الفروع الداخلية أو الخارجية. وفيما “يعرف البرهان أفضل طريقة لكبح جماح أحد أمراء الحرب، فإنه يضع المثال الصحيح للآخرين لاستهداف شبكات القوات المسلحة السودانية وفروعها الإقليمية”، كما تلفت الباحثة في شؤون السودان، أنيت هوفمان.