من واقع خبرة عريضة ، كونها عبر العديد من المناصب، والمواقع الهامة التي شغلها في المؤسسة الدبلوماسية المصرية العريقة، ينسج وزير الخارجية الأسبق محمد كامل عمرو خلال حديث موسع مع “مصر360” رؤية ممزوجة بالتحليل للمشهد الإقليمي الراهن، وطبيعة الأدوار المصرية، وكذا إمكانية الاستفادة من الفرص المتاحة أمام القاهرة؛ للحفاظ على مصالحها عبر طرح مسارات تخلق البدائل وتنوع الاختيارات أمام صناع القرار.

شغل عمرو مناصب دبلوماسية عديدة، من بينها سفير مصر في السعودية بين 1995 و1997، وقبلها عمل وزيرًا مفوضًا مختصًا بالشؤون السياسية في سفارة مصر بواشنطن، ومساعدًا لوزير الخارجية للمنظمات الإفريقية، ومندوبًا في بعثة مصر في الأمم المتحدة، كما تولى منصب المدير التنفيذي في البنك الدولي، وذلك كله قبل أن يتولى وزارة الخارجية لمدة عامين في واحدة من أصعب الفترات، عاصر خلالها 3 رؤساء وزراء هم، عصام شرف وكمال الجنزوري وهشام قنديل.

الرؤية التي يطرحها الوزير الأسبق، تأتي منسوجة بخلاصة الكثير من المواقف والتجارب التي عاصرها، ليأتي الحديث مفعما بترسانة من الخبرات تمنح وتسمح بالانتقال السلس بين الماضي، والحاضر وما يجب أن يكون عليه المستقبل؛ بما يوفر ارضية ومنطلقا لما يطمح اليه المصريون من مكانة عالية وموقع راسخ بما يتناسب مع قيمة بلدهم الاستراتيجية على المستوى الإقليمي وفي الساحة الدولية.

وفي الحلقة الأولى من الحوار، يتناول الوزير الأسبق كيفية استعادة مصر لدورها الإقليمي في ظل منافسة شرسة من قوى إقليمية وخليجية، كما يتناول أزمة سد النهضة بالشرح الدقيق، والكثير من التفاصيل التي ربما لم يُماط اللثام عنها قبل ذلك.

الدور المصري ومسألة الغياب

مؤخرا، كثر الحديث بشأن تراجع الدور المصري ومحاولة بعض القوى الإقليمية والخليجية الانقضاض على مساحات النفوذ المصري، وهو ما طرح الكثير من التساؤلات بشأن أسباب ذلك، وكيفية استعادة القاهرة أدوارها الإقليمية والعودة إلى الساحة كلاعب رئيسي ومحرك للأحداث.

في هذا الإطار يؤصل وزير الخارجية الأسبق محمد كامل عمرو لقاعدة رئيسية: “السياسة والجغرافيا لا تحب مساحات الفراغ. فأي فراغ لا بد أن يتم ملؤه، ينسحب طرف ويدخل طرف آخر، وعندما يقل نفوذ طرف ما، يحتل مكانه نفوذ آخر”.

ويحدد عمرو، مجموعة من العوامل والأسباب التي قادت إلى خفوت الدور الإقليمي لمصر، هذا الدور الذي كان يدفع الولايات المتحدة الأمريكية، للحرص على معرفة موقف القاهرة قبل التصويت في المناسبات الهامة بالأمم المتحدة.

ويقول الوزير الأسبق: “كان الأمريكان يحرصون على معرفة موقف مصر، لأنهم يعلمون وقتها أن المجموعة الإفريقية كانت خلف القاهرة، وكذلك مجموعة عدم الانحياز، وكانت لاتزال موجودة إلى حد ما. كانت هذه هي القواعد الصلبة لمصر والسياسة الخارجية”.

ويضيف أن “الأمور تغيرت من ناحيتنا ومن ناحية الأطراف الأخرى، بدأت إفريقيا تنمو وتتطور، وبدأنا نحن ننشغل بمشاكلنا الداخلية من أوضاع اقتصادية، وأزمة سكانية، ولم يعد لدينا القدرة الاقتصادية التي تقف خلف تحركاتنا الدبلوماسية، وتعكس قوتنا في الخارج، إلى جانب أنه في وقت من الأوقات حصرنا أنفسنا في إطار معين وبعدنا عن إفريقيا”.

استعادة التأثير إفريقيا

يعتبر الدبلوماسي الذي عمل في أكثر من موقع مهم، أن “استعادة دور مصر الإقليمي يرتبط بدرجة كبيرة بإحياء تأثيرها في الدائرة الإفريقية”، مشيرًا إلى حقبة الخمسينات، حينما كان ينظر إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كأحد آباء القارة، إلى جانب الرئيس الغاني كوامي نكروما.

في ذلك الحين، بحسب عمرو، لم يكن هناك حركة من حركات التحرير في إفريقيا إلا ولها ممثل يتواجد في القاهرة، حيث كانت مصر تستضيف تلك الحركات وتوفر لها الإمكانيات، كما كانت تستضيف الطلاب الأفارقة كذلك وتدعمهم بالإمكانيات، فكانوا يعودون لبلادهم حاملين لمصر مكانة كبيرة.

“القاهرة، كانت منخرطة بشكل أكبر في قضايا القارة الإفريقية، وتعد لاعبًا رئيسيًا ومؤسسًا لمجموعة عدم الانحياز”. ويضيف عمرو:  “رغم أننا دولة ليست كبرى بالمعايير العالمية، إلا أن تحركنا الدبلوماسي كان أكبر من حجمنا الواقعي، فكنا لاعب ملاكمة في منافسة مع لاعب بوزن أكبر من وزنه، كنا باستمرار لنا حضورنا في المنظمات الدولية، وكنا نتواجد في لجان في الأمم المتحدة ربما كان يرى البعض أنه ليس لها علاقة بملفات مصر”.

“كنا طوال الوقت مهتمين بتعميق العمل بملف إفريقيا، كانت لدى مصر القدرة الاقتصادية التي تمكنها من ذلك. في الوقت الراهن، تراجع كل هذا النفوذ”.

لكن في الوقت ذاته، يرى الوزير الأسبق أنه ليست كل التحركات على المستوى الإفريقي تحتاج لقوة اقتصادية، ففي وقت من الأوقات كان من بين مصادر القوة هو “ما نشكله من ائتلافات، عندما نتحرك يتحرك معنا عدد كبير من الدول، وعندما نوافق على قرار ما ونتبناه تسير خلفنا كتلة كبيرة، وكذلك عندما نرفض. من هنا يأتي النفوذ وتهتم القوى الكبرى بآرائنا ومواقفنا.

سد النهضة

الحديث عن علاقة مصر بإفريقيا، وتراجع مساحات النفوذ، مرتبط بشكل أو آخر بأزمة سد النهضة الإثيوبي، وهي الأزمة التي لعب الوزير الأسبق محمد كامل عمرو دروًا كبيرًا نحو مساعي التوصل لحل لها، على مدار عامين قضاهما بالوزارة، وفي هذا الإطار يقيم عمرو موقف مصر الحالي من الأزمة، ومسار حلها من واقع تجربته السابقة.

كعادته قبل الحديث في التفاصيل، يؤصل الوزير لقواعد عامة، وحاكمة، بالتأكيد على ما يراه مبدأ راسخا وهو أنه “هناك دول لا نملك رفاهية أن يكون بيننا وبينها مشاكل، رقم واحد في تلك الدول هي السودان، يجب أن تكون علاقتنا بها قوية جدًا مهما كان الذي يحكم هناك، وأن يكون لنا دور كبير فيها، تليها إثيوبيا لأن بها منابع النيل”.

وبالعودة لتجربته الشخصية، يقول الوزير الأسبق: “عندما توليت الوزارة لم تكن العلاقات بين مصر وإثيوبيا في أفضل حالاتها بسبب مشاكل إريتريا”، ويضيف:”  سافرت حينها إلى إثيوبيا بتكليف من المشير حسين طنطاوي – رئيس المجلس العسكري حينها –  للقاء مليس زيناوي وكان الرئيس أيامها، تم إخطاري أن اللقاء معه عادةً ما يكون عاصفًا، فبدأت حديثي معه من مدخل أننا لا بد أن نحسن العلاقات بيننا، تحدثنا في كافة الأمور، وكان اجتماع جيد جدا”.

كان عمرو، ولا يزال يؤمن بأهمية دور العلاقات الاقتصادية والاستثمارات المتبادلة في الحفاظ على علاقات جيدة بين الدول، وهو ما أراد تطبيقه على الحالة الإثيوبية، وفي هذا الإطار يقول: ” بعد مليس زيناوي، التقيت كثيرًا مع وزير الخارجية ميريام ديسالين الذي أصبح رئيس وزراء بعد ذلك، وجرى الاتفاق على تخصيص منطقتين حرتين للمستثمرين المصريين في إثيوبيا، لأنه في ذهني دائما هناك أهمية للبعد الاستثماري في العلاقات، كانت العلاقات تسير بالفعل بشكل جيد، وشهدت تلك الفترة تسهيلات للمستثمرين المصريين إلى أن تفجرت قضية تحويل مجرى النيل الأزرق”.

اجتماع ضرب السد

خطوة تحويل مجرى النيل الأزرق، تبعها الاجتماع الرئاسي الشهير في مصر بشأن أزمة السد بين الرئيس المصري الراحل محمد مرسي ومجموعة من السياسيين ورؤساء الأحزاب، والذي أذيع على الهواء وتم خلاله التلويح بعمل عسكري تجاه السد.

حول تداعيات تلك الخطوة، وتأثيرها على مسار الأزمة يسرد الوزير الأسبق تفاصيل زيارته إلى إثيوبيا التي أعقبت الاجتماع مباشرة . يقول وزير الخارجية الأسبق: ” كان لدى الإثيوبيين قلق كبير، خافوا من مسألة الغضب الشعبي المصري، بالطبع لم يظهروا ذلك، ولكن كون أن يوافقوا على إصدار بيان مشترك يقول، إنه إذا ثبت أن هناك أي ضرر لدولتي المصب فإن إثيوبيا مستعدة؛ لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتلافي هذا الضرر، وأن تقوم مصر بالدعوة لعقد اجتماع عاجل للدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا ” يكشف ويبرز هذا الخوف.

جودة المياه المتدفقة

في هذا الحين، بحسب الوزير الأسبق “كان هناك تقرير صادر عن الخبراء بالمكاتب الفنية، يتناول 3 عوامل تحكم هذا الملف، أمنية وبيئية، وآخر يرتبط بحجم المياه التي تصل دول المصب. النواحي البيئية شهدت مشاكل تتعلق بأن المياه سيتم تخزينها في بحيرة مليئة بالحشائش، وزراعات كثيرة وهو ما يؤدي إلى تواجد غاز الميثان بنسب كبيرة في المياه بحسب الخبراء ما يؤثر على جودة المياه التي تصل دولتي المصب”.

ويضيف الوزير، على المستوى الأمني، كان هناك مخاوف من أن معدل الانحدار في كل 100 كيلو متر بين السودان، وإثيوبيا هو متر كامل، بينما معدل الانحدار بين مصر والسودان 10 سنتيمترات، ما يعني أنه إذا حدث انهيار ستختفي الخرطوم تمامًا”.

أصدرت اللجنة الفنية المشتركة، التي تم الاتفاق عليها بين البلدان الثلاثة، التقرير الخاص بها وكان الاتفاق أن يظل هذا التقرير سريا إلى أن يتم الإعلان الرسمي عنه. وبحسب الوزير المصري الأسبق” فوجئنا أن الإثيوبيين يقومون بتسريب الأجزاء التي تؤيد وجهة نظرهم، فيما كانت هناك أجزاء أخرى تؤيد/تحذر من المخاوف البيئية والأمنية، لدرجة أن خبيرًا ألمانيًا من المشاركين في الدراسات قال:” عندما نبني عمارة في ألمانيا نقوم بدراسات أكثر كثيرا من تلك التي أجرتها إثيوبيا عند بناء السد”.

هذه التسريبات التي مررتها أديس أبابا، أثارت حفيظة القاهرة، وهو ما جعل الوزير وقتها محمد كامل عمرو ينقل رسائل تحذير واضحة للإثيوبيين “قلت لهم أننا نملك 160 سفارة في العالم وإذا اتخذنا قرارا بالتسريب سنقلب العالم”.

وفي نهاية الأمر، صدر البيان النهائي موقع من وزيري الخارجية، والذي جرى خلاله تعيين مكتب خبرة، ولكن تطورت الأمور بعد ما حدث في 30 يونيو 2013، وانتهزت إثيوبيا الفرصة، وأسرعوا في بناء السد بناء وفق التصميم القديم، والذي كان لمصر ملاحظات كثيرة عليه في مقدمتها أنه ” قطعًا سيؤثر على حصيلة المياه التي تصل مصر، بالإضافة إلى جودتها”.

المراقب

ينتقل الوزير الأسبق، من مقعد المشارك في الحدث إلى مقعد المراقب، في معرض تحليله للموقف الراهن، وما إذا كانت هناك أوراق ضغط يملكها صانع القرار المصري؛ لدفع إثيوبيا للاستجابة للمطالب المصرية أم لا.

في هذا الإطار، يقول عمرو إن “سد النهضة هو الوحيد في العالم الذي بني بشكل أحادي على مجرى مائي به دول مشاطئة“، مشددًا: “مصر تملك الشرعية القانونية، لدينا أوراق قانونية، ولدينا نظرية الحقوق المكتسبة”.

ويوضح عمرو أنه “بعد حركات التحرر في إفريقيا جرى التوافق على أن الحدود التي رسمها الاستعمار يجب أن تحترم، رغم أنها لم تكن عادلة، زذلك لأنه إذا تمت إعادة فتح هذا الملف سيتسبب ذلك في صراعات لا حد لها بين دول القارة، ورافقت ذلك نظرية أخرى تقول إن المياه في نفس هذا الإطار؛ لأن المياه لا تقل أهمية عن الحدود”.

و”في مقابل اكتساب الاتفاقيات التاريخية قوة الأمر الواقع، استحدثت إثيوبيا نظرية الاستخدام العادل للمياه، وعملت على الترويج لتلك النظرية، ولم تترك محفلًا أو مؤتمرًا دوليًا إلا تواجد به خبراؤها وممثلوها”؛ يتابع الوزير الأسبق.

يقول: “رغم أن نظريتنا لها حجيتها، لم نعمل عليها جيدًا، كما أنه للأسف لم يعد لدينا خبراء في مجال قوانين المياه، وبدأنا نعتمد على مكتب في بريطانيا من أجل ذلك، وكان لابد أن نخرج أجيال من الخبراء المتخصصين في هذا المجال ونرسلهم إلى الخارج؛ لحضور المؤتمرات الدولية لتشكيل رأي عام دولي، إلى جانب أن الإثيوبيين بدأوا يروجون في إفريقيا أن هذه مقدرات القارة بالكامل ويجب أن يستغلونها”. الخلاصة أن إثيوبيا تناور بـ”الاستخدام العادل”.

الخيار العسكري

وحول جدوى الخيار العسكري والتلويح به كأحد الحلول في الوقت الراهن، يرى الوزير الأسبق، أنه في مثل تلك الظروف يعد التعامل الأنسب هو ما يتطابق مع المثل الإنجليزي الخاص بـ (الإبهام البناء) بمعنى ألا تقول كل ما تفكر فيه، وتستخدم العبارات المبهمة مثل، أن تقول كل الأمور متروكة للظروف”.

يرافق دائمًا التطرق لضيق الخيارات المصرية بشأن أزمة السد، الحديث عن تأثير ثورة 25 يناير على مسار الأزمة، بأنها كانت السبب الذي سمح لأديس أبابا بالشروع في عملية البناء مستغلة انشغال مصر. في هذا الإطار يقول الوزير الأسبق، الذي تولى مهام عمله عقب الثورة بأشهر قليلة، إن “المسألة ليست في تاريخ أكثر ضررًا وآخر أقل ضررًا، ولكن المسألة مرتبطة بظروف محددة، وصانع السياسة يتعامل مع ظروف في العادة خارج سيطرته”.

ويضيف، أن 25 يناير لا يمكن تفريغها من مضمونها، بدعوى أنها كانت سببا في بناء سد النهضة، فهي لها جوانب كثيرة جدًا وكون أن طرفًا استغل الموقف لا يعني أنها السبب الرئيسي”.