وعدت أميرة السيد “36 عامًا” أصدقاءها بوجبة دسمة، احتفالًا بحصولها على فرصة عمل كانت تنتظرها منذ فترة. قبل اليوم المحدد لمقابلة أصدقائها في أحد بيوت حي السيدة زينب حضرت حلة طعامها، وقررت أن تبتاع في طريقها “اللحمة” لتبدأ طهيها هناك قبل وصول باقي الرفاق.

في اليوم التالي، ذهبت “أميرة” مبكرًا إلى أقرب مجمع استهلاكي “تابع للحكومة” لشراء 2 كيلو من اللحم السوداني الذي كان يبُاع هناك قبل فترة بـ 160جنيهًا. في المجمع، لم تجد اللحم. أخبرها البائع أنهم لم يتلقوا أي شحنة منذ 10 أيام، ونصحها بالذهاب إلى مكان آخر قد تجد فيه ما تريد.

من مجمع إلى آخر تنقلت “أميرة” بحثًا عن دسم وجبتها، وعد لن تفي به أصدقاءها مع غياب “اللحم السوداني”.

كانت وزارة الزراعة وقعت اتفاقات مع “شركة اتجاهات السودانية”؛ لتوفير اللحوم الحية لمدة عامين من يناير/ كانون الثاني 2022، حتى وحتى يناير 2024. بموجب هذه الاتفاقات تستورد مصر الماشية الحية على أن يتم ذبحها في مجزر أبو سمبل، ثم تشحن بعد ذلك لتوزع على منافذ وزارة التموين والوزارات الأخرى التي بينها اتفاقات مع وزارة التموين.

هذا إلى جانب عمليات الاستيراد التي ينفذها أفراد أو شركات، وتشمل العجول والجمال بشكل خاص، في أسواق الصعيد والشرقية والجيزة.

انخفضت قيمة واردات مصر من اللحوم والأبقار والجاموس الحي بنسبة 46.8% خلال الربع الرابع من 2022، لتبلغ 255 مليون دولار مقابل 479 مليون دولار خلال الربع نفسه من 2021، وبنسبة 45.1% خلال الربع الثالث، لتسجل 283 مليون دولار مقابل 515.183 مليون دولار.

أسعار غير مسبوقة

ضربت موجة غلاء أسواق اللحوم المصرية نهاية العام الماضي، فارتفعت بشكل غير مسبوق مع بداية الحرب في السودان. اليوم يتراوح سعر كيلو اللحم ما بين 330 إلى 400 جنيه، وفقًا لمكان بيع اللحوم أو قطيعة اللحم نفسها. بينما يتوقع خبراء وصول كيلو اللحم القائم “قبل الذبح” لـ 200 جنيه قبيل عيد الأضحى نهاية يونيو/ حزيران المقبل. وهو ما يعني أن أسعار العجول التي يتراوح وزنها ما بين 400 إلى 500 كيلو جرام، ستصل إلى ما بين 80 و100 ألف جنيه، وفقًا للأوزان المتداولة في الأسواق المصرية.

تعد السودان هي بوابة مصر إلى أسواق دول حوض النيل. ومع استمرار الحرب، من المتوقع أن يتأثر حجم التبادل التجاري بين مصر والسودان ودول حوض النيل. كما أن السودان أحد أهم مصادر اللحوم التي تستوردها مصر، ذلك بحصيلة استيراد لحوم حية تصل إلى ما قيمته 5.8 مليار جنيه، وهي تأتي كأكبر مورد في المرتبة الأولى بنسبة 50.9 % من إجمالي الواردات من دول حوض النيل، بـ 10 مليار جنيه (336.7 مليون دولار)، أغلبها من اللحوم والحبوب.

ضمن أهم الأصناف التي يتم استيرادها من السودان، تشكل الحيوانات الحية 57.4%، ذلك بقيمة 5.8 مليار جنيه (193.2 مليون دولار)، تليها النباتات والثمار الزيتية والطبية، بقيمة 2.1 مليار جنيه، ثم القطن واللحوم والأحشاء والأطراف الصالحة للأكل بقيمة 700 مليون جنيه.

تفاقم الأزمة

الساعة الثانية عشر ظهر يوم “عزومة” أميرة السيد لأصدقائها، تحمل في سيارتها القديمة الصغيرة حلة الطعام التي لا ينقصها سوى 2 كيلو من اللحم بسعر معقول. تريد الوصول مبكرًا قبل باقي الأصدقاء.

ذهبت لأول محل جزارة في طريقها في شارع شريف بحي عابدين، أخبرها البائع بأن ثمن الكيلو 350 جنيه. ذُعرت “أميرة” من الرقم، فهي لم تشتر اللحوم منذ شهرين. كانت تدبر أمرها بكيلو احتفظت به في ثلاجتها ودجاجتين و2 كيلو من “البانيه”، وزعتها على شهرين، يكفيان أسرتها الصغيرة المكونة من زوج وطفلين.

خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، شهدت أسعار اللحوم ارتفاعًا كبيرًا بعد زيادة أسعار الأعلاف التي تراكمت في المواني؛ بسبب نقص الدولار، فزادت الأسعار من 170 جنيها للكيلو في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حتى وصلت إلى 250 جنيها للكيلو في بداية يناير، مع “زحزحة” قليلة من تاجر لتاجر ومن مكان لآخر.

جاء اندلاع الحرب في السودان بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منتصف إبريل/ نيسان الماضي، ليعمق الأزمة أكثر، فارتفعت أسعار اللحوم بقيمة 100 جنيه للكيلو الواحد خلال شهر، ليصل سعر الكيلو إلى 340 جنيها في محلات الجزارة، وهو ما يوضح عجز الحكومة في تدبير اللحوم للمواطنين بسعر مناسب أو حتى وفق متوسط أسعار اللحوم عالميًا.

بحسب بيانات وزارة التموين، كانت الشركة المصرية للحوم والدواجن تضخ يوميًا 120 ‏طنًا من اللحوم السودانية الطازجة بسعر 119 جنيهًا للكيلو في نفس التوقيت من العام الماضي -الفترة بين عيدي الفطر والأضحى- وفي العام السابق له في 2021 كانت تضخ 100 طن يوميًا.

هذا العام، صرح وزير التموين على المصلحى، في مؤتمر صحفي، بأن “الوزارة لا تمتلك سوى 5 آلاف رأس ماشية سودانية حية حاليًا، وستتولى بحث الصعوبات التي قد تواجه عمليات التوريد من السودان”.

هذا العجز  جعل أكثر من 1350 مجمعًا استهلاكيًا ترفع أسعار اللحوم السودانية بقيمة 30 جنيهًا للكيلو، ليتم بيعها بـ195 جنيهًا بدلًا من 165 جنيهًا.

الدكتور علي إبراهيم
الدكتور علي إبراهيم

الدكتور علي إبراهيم، أستاذ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، وهو متخصص فى اقتصاديات اللحوم، يقول: “لا يوجد شك أن الحرب في السودان ستؤثر بشكل كبير على كمية الواردات من اللحوم الحية التي تذبح في المجازر المصرية”. بينما يقترح أن تتجه الحكومة لتوفير البديل من خلال أسواق أمريكا الجنوبية؛ للتخفيف من تأثير الأزمة وتوفير بديل جيد يقلل نوعًا ما من حدة الأسعار، مشيرًا إلى توافر عجول بالفعل مستوردة، وتم الإعلان عنها في الأسواق لتباع لتجار الجملة.

وفقًا لإحصاءات التجارة الخارجية، كانت مصر تستورد لحومًا حية بقيمة 49 مليار جنيه، شكلت السودان لوحدها 10% من إجمالي وارداتها.

حينما أخبرت أميرة السيد، صديقتها صاحبة منزل السيدة زينب، بما يجري معها في البحث عن لحوم بسعر معقول، نصحتها بالذهاب لمنافذ بيع اللحوم في منطقة “سوق الاثنين” بالسيدة، لتجد هناك أحد منافذ البيع الحكومية تبيع لحومًا بلدية بما يقارب 265 للكيلو الواحد.

دفع بطء الحكومة في إيجاد الحل وتدبير اللحوم من موارد محلية أو خارجية، مع موجة الغلاء المتصاعدة، حزبًا سياسيًا مؤيدًا للحكومة “حماة وطن” -يضم عددًا من جنرالات الجيش السابقين وبعض رجال الأعمال- إلى استيراد أطنان من اللحوم من تشاد. ويستهدف الحزب -حسب تصريحات قياداته- مواصلة عمليات الاستيراد، بوعد طرح 660 طنًا شهريًا في الأسواق.

هذه الصفقة قوبلت بعدد من المواقف، بينها المشكك في جودة وسلامة اللحوم المستوردة، وهو ما نفاه الحزب، معلنًا حصوله على موافقات من اللجنة العلمية بهيئة الطب البيطري في وزارة الزراعة، وهيئة الرقابة على الصادرات والواردات، مؤكدًا أن عينات اللحوم التشادية عُرضت على الهيئة القومية لسلامة الغذاء قبل إتمام الصفقة.

لكن تبقى عملية الاستيراد محاطة بروباجندا سياسية واسعة شهدتها وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي.

تكاليف النقل.. تشاد أم جيبوتي؟

أوضح مصدر، طلب عدم ذكر اسمه “أنه في حال لجأنا إلى استيراد الماشية من تشاد ستزيد التكلفة النهائية، نظرًا إلى زيادة تكلفة النقل الجوي في طريق طويل، خاصة مع عدم سهولة النقل البري في هذه العمليات، ما يصعب أيضًا النقل البحري.

هذا بخلاف جودة اللحوم التشادية التي تكون “كبيرة في السن” وتعتمد على الرعي، وما هو يجعل لها مذاقًا مختلفًا لا يفضله المصريون.

وأضاف المصدر أن “عدم تصدير السودان الماشية الحية لمصر ينذر برفع أسعار الأضاحي بشكل كبير، ذلك لأن الحيوانات الحية الواردة من السودان تأتي بأسعار أقل مقارنة بغيرها، كما تُعفى من الضرائب والرسوم الجمركية طبقًا للاتفاقية الثنائية بين مصر والسودان، وكذا يُفرج عنها دون مصاريف استيراد، لأنها تعبر من جمرك أسوان طبقًا لبروتوكول تبادل تجاري بين مصر والسودان”.

واقترح المصدر، أن تستورد مصر اللحوم من جيبوتي؛ نظرًا لموقعها الجغرافي على البحر الأحمر، والذي يكفل شحنًا أقل كلفة في وقت أقل بشكل مستدام، بدلًا من النقل الجوي من تشاد.

وتشير أحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن مصر تعاني خلال السنوات الأخيرة من نقص في اللحوم البلدي، حيث فقدت 12.5 مليون رأس ماشية خلال أربع سنوات فقط. كانت أعداد الماشية 20 مليون رأس في عام 2016 ووصلت إلى 7.6 مليون رأس ماشية في 2020.

هيثم عبد الباسط
هيثم عبد الباسط

ويؤكد هيثم عبد الباسط، نائب رئيس شعبة القصابين بالغرفة التجارية بالقاهرة، أن الأوضاع في السودان أثرت بقوة على سوق اللحوم في مصر.

ويشير عبد الباسط إلى أن “مصر لا توجد بها مراعي طبيعية ولا مصانع أعلاف كافية، وتستورد تقريبًا 50% من اللحوم من الخارج، وبعد التعويم في 2016، خرج المزارع البسيط من المنظومة بسبب غلاء الأعلاف”.

وحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن نسبة الاكتفاء الذاتي من اللحوم وصلت ذروتها في عام 2009 حتى وصلت 88%، ثم بدأت في الانخفاض تدريجيًا حتى وصلت إلى 46% في عام 2018، ثم ارتفعت إلى 53% في عام 2020.

وقد أدت عوامل عدة إلى انخفاض الاكتفاء الذاتي، وهو ما يهدد برفع الأسعار بشكل متزايد. مؤخرًا، زادت الأزمة مع ارتفاع سعر الأعلاف، وعدم الإفراج الجمركي عنها، وخروج المربي البسيط من المنظومة، والحرب في السودان، هي أسباب رئيسة لارتفاع أسعار اللحوم في الفترة الأخيرة.

تشير بيانات الثروة الحيوانية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن عدد الرؤوس المذبوحة من الماشية قد انخفض من 4 ملايين رأس ماشية عام 2020 مقارنة بعام 2016.

يقول عبد الباسط، إن الجزار ليس له دخل في ارتفاع الأسعار كما يشاع، لأن الماشية الحية التي يعتمد عليها الجزارون نسبة اللحم بها قليلة مقارنة مع العظم والدهن، ونسبة الهدر في اللحم عالية. ويضيف، أنه في الفترة الأخيرة أغلق عدد كبير من الجزارين محالهم وعرضوا معداتهم للبيع، بسبب عزوف الشارع عن شراء اللحم، إذ “أصبح كيلو اللحم لمن استطاع إليه سبيلًا”.

يظهر تجار اللحوم مخاوفهم من تصاعد الأزمة. محمد 37 عامًا، تاجر ماشية من الشرقية، يقول: “إن الأسعار ارتفعت مع زيادة سعر العلف، البهيمة لما بتركن عندي بتبقى بخسارة عشان تعمل علفة للبهيمة هتلاقي نفسك بتخسر، كمان زيادة السولار خلى كل عربية في النقل تنقل، تزود 400 جنيه زيادة في النقلة الواحدة، الغلا مخلي الناس مبتشتريش جاية تسمع أسعار، وده يخليني أنقل المواشي بالعربية كل شوية ودي فيها تكلفة زيادة”.

أحمد 37 عامًا – عامل بالسكة الحديد وتاجر ماشية بالقطعة- يقول لـ”مصر 360″: “الأسعار زادت جدًا، السوق عندنا كان بيبقى مليان مواشي وجمال سوداني، السنة اللي فاتت نزل بهايم من السودان كتير، وكانت بتخف السعر شوية، دلوقتي التاجر هو اللي متحكم فيك؛ لأن المعروض قليل وكل واحد بيقول سعر مختلف، والحجج كثيرة أصل ده عجل مش شايل دهنة، أصل العلف غالي، أصل والله مش جايبة همها، مفيش رابط السنة دي المفروض يبقى في سعر كيلو قائم موحد زي قبل كده”.

وتشير البيانات، أن متوسط استهلاك الفرد السنوي من اللحوم ينخفض، ووفقًا لتقارير حكومية، ما يزيد عن 93% من الأسر خفض استهلاكه من اللحوم والطيور.

ووفق مسح أجراه المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية هناك 85% من المصريين خفضوا استهلاكهم من اللحوم، و75% خفضوا استهلاكهم من الدواجن، و73% خفضوا استهلاكهم من البيض. ويرد المسح الأسباب إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض الدخل، وهو ما قد يدفع المصريون لأن يتحولوا نباتيين بالإكراه.

تشير تقارير صادرة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن متوسط نصيب الفرد قد تناقص من 13 كيلو جرام للفرد في 2018 إلى 7 كيلو في عام 2020. ويقول الخبراء إن هذا الرقم قد تناقص إلى 6 كيلو جرام سنويًا.

يوضح أستاذ الزراعة بجامعة الزقازيق، أن الأسعار بصفة عامة سترتفع، وذلك لزيادة الطلب على اللحوم، خاصة مع اقتراب عيد الأضحى. لأن اللحوم سلعة ضرورية، والطلب عليها غير مرن. وبالتالي، أي زيادة في الأسعار لن يقابلها انخفاض كبير في الكمية المطلوبة، وسيرتفع الاستهلاك خلال فترة الأضاحي.

ويوضح،أن سعر كيلو القائم من اللحوم وصل إلى 175 جنيهًا، في مقابل 135 جنيهًا قبل أسبوع فقط، بواقع 40 جنيهًا زيادة في الكيلو، بينما قد يصل قبل عيد الأضحى إلى 200 جنيه للكيلو القائم، فالعجل الذي يزن إلى 500 كيلو جرام سيصل سعره إلى حوالي 100 ألف جنيه، بناء على الطلب الزائد على شراء الأضاحي”.

يتنبأ أستاذ الزراعة، أن يصل سعر كيلو اللحم بدخول العيد إلى حدود 450 جنيهًا أو 500 جنيه، حتى لو انخفض الطلب على اللحوم. أما “أميرة”، فبعد تفكير طويل أمام منفذ بيع اللحوم في السيدة زينب، قررت شراء 2 كيلو لحم بلدي بإجمالي 530 جنيهًا، رغم أنها رصدت ميزانية سابقة بما يعادل 300 جنيه.

اشترت؛ لأن البائع وصديقتها وكل الذين يقفون إلى جانبها في منفذ البيع أخبروها بأن الأسعار في تزايد يومي. ولأنها تخشى حديث توقعات زيادة الأسعار مع اقتراب عيد الأضحى، ذهبت في اليوم التالي إلى منفذ بيع قريب من سكنها في مدينة 6 أكتوبر واشترت كيلو ثالث تمن اللحم، علها تلحق وأسرتها دسم العيد المقبل.