بعد سنوات عديدة من المراوغة والتنافر، قررت الدول العربية فك تجميد التعاملات مع سوريا. في وقت سابق من هذا الشهر، أعلن وزراء الخارجية العرب، عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية، بعد تعليق عضويتها في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية عام 2011.
في ذلك الوقت، كان نظام الرئيس الأسد منبوذا في المنطقة؛ بسبب حملته الوحشية على الانتفاضة الشعبية في البلاد، والتي أودت في النهاية بحياة ما يقرب من نصف مليون وتشريد 13 مليون شخص آخر.
في تحليله المنشور في فورين أفيرز/ Foreign Affairs، يشير إميل حكيم، مدير الأمن الإقليمي وزميل شؤون أمن الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. إلى أن هذا القرار “يمثل تتويجا لنقاش مضطرب بين الحكومات العربية حول كيفية التعامل مع المأساة السورية”.
وأشار إلى أنه “حتى المسؤولين العرب الذين يدعمون التطبيع الدبلوماسي التدريجي مع النظام السوري، قلقون من الطريقة غير المنظمة التي حدثت بها هذه العملية، وهم أيضا قلقون من نتائجها”.
يقول: سمحت إعادة قبول سوريا في جامعة الدول العربية للأسد بالسفر إلى المملكة العربية السعودية؛ لحضور قمة المجموعة في 19 مايو/ أيار. يقدم ظهوره لمحة عن عيوب الاندفاع الحالي نحو التطبيع: فقد بدا مرتاحًا ومنتصرًا خلال الزيارة، وشاركوه المصافحة مبتسمين زعماء عرب بارزون.
يضيف: ندد في خطابه بالهيمنة الغربية، ودعا إلى حماية الهوية العربية، ولم يتم ذكر بؤس سوريا وظروف شعبها. كما أنه فشل في ذكر القضايا التي تشغل بال مضيفيه العرب: ظهور سوريا كمصدر رئيسي للمخدرات في جميع أنحاء المنطقة، وتباطؤها في استعادة اللاجئين، والحرية التي تعمل بها الميليشيات المدعومة من إيران عبر أراضيها.
اقرأ ايضا: عودة سوريا لـ “الجامعة”.. خبير: أفضل من بقائها تحت نفوذ قوى غير عربية
ويشير حكيم، إلى أن تحسين وصول المساعدات الإنسانية والظروف الاقتصادية في أجزاء من سوريا أمر محتمل، فإن إعادة التأهيل العربي للأسد لن تؤدي إلا إلى تسريع الاتجاهات الخطيرة في جميع أنحاء المنطقة.
قال: سيستخدم -الأسد- نظام الدعم العربي لدعم استراتيجيته الوحشية لتوطيد سلطته. كما يهدد التطبيع موقف الجماعات الكردية في شمال شرق سوريا، ويمكن أن يعجل بالانسحاب الأمريكي، مما يؤدي إلى عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية.
تابع: إنه يعطي السياسيين الشعبويين في جميع أنحاء المنطقة ذريعة؛ لتصعيد الهجمات على اللاجئين السوريين. حتى مع قيام الأسد بالقليل؛ لتسهيل عودة اللاجئين إلى سوريا، وتشجيعه من قبل إيران وروسيا، اللتين تعتبران تطبيع النظام في دمشق فرصة؛ لاسترداد بعض نفقاتهما في دعم الأسد، وتعزيز نفوذهما في قلب العالم العربي.
بيت منقسم
يشير التحليل، إلى استفادة الأسد من المشهد السياسي المجزأ في الشرق الأوسط، والذي منع العديد من أعدائه من الاتحاد حول استراتيجية عسكرية أو دبلوماسية مشتركة تجاهه.
ومنذ عام 2018، أطلقت عدة دول مبادرات لـ “إعادة سوريا إلى الحظيرة العربية”، لكن هذه الجهود لم تكتسب زخمًا؛ بسبب الانقسامات العربية والمعارضة الغربية. لكن في وقت سابق من هذا العام، بدأت العملية تكتسب زخما بسبب التحول في السياسة السعودية.
يقول حكيم: ضمنت الانقسامات داخل العالم العربي عودة سوريا إلى طاولة المفاوضات قريبا. فقد تخلت الحكومات بسرعة عن مواقفها الحذرة السابقة خلال الاندفاع؛ لتجاوز منافسيها الإقليميين في تبني إعادة تأهيل الأسد.
في عام 2018، أصبحت الإمارات أول دولة تتبنى إعادة تأهيل الأسد الدبلوماسي. كانت مقاربتها للديكتاتور السوري مدفوعة بالرغبة في احتواء تركيا، واستيعاب روسيا -حليفة الأسد الوثيقة- ووضع حد نهائي لعصر الانتفاضات الشعبية.
وعلى الرغم من أن هذا الجهد حظي بدعم عمان والبحرين والعراق والجزائر -التي حرصت على إعلان عودة سوريا إلى قمة جامعة الدول العربية التي استضافتها عام 2022- إلا أن الإمارات لم تتمكن من حشد الدول الأخرى وراء نهجها الخالي من الشروط.
أيضا، كان الأردن من أوائل المدافعين عن التواصل مع الأسد. كانت عمان قلقة من أن التدخل الروسي في عامي 2015 و2016، في شمال سوريا سوف يعيد نفسه في الجنوب، مما يتسبب في نزوح جماعي للاجئين على طول حدودها “كما تخشى من تداعيات فك الارتباط الغربي: فقد حرصت واشنطن على إنهاء دعمها للمتمردين السوريين في جنوب سوريا، والتركيز على الحملة ضد داعش في شرق سوريا والعراق”.
وفي عام 2018، وافقت عمان على عودة قوات النظام بضمان روسي إلى جنوب سوريا، على أمل أن تعمل موسكو على تعديل سلوك الأسد، وضمان بعض الاستقرار في المنطقة.
لكن عمّان سرعان ما تعلمت تكاليف هذه المقامرة. تراجع النظام عن وعوده بالمصالحة مع جماعات المعارضة المحلية، ولم تصل “الضمانات” الأمنية الروسية إلا قليلا، وكانت التجارة القانونية في حدها الأدنى.
بدلا من ذلك، أصبح جنوب سوريا أكثر اضطرابًا: صار قناة لتجارة المخدرات بمليارات الدولارات التي يشرف عليها النظام، وملاذًا آمنًا لداعش والخلايا المتطرفة، وقاعدة انطلاق للميليشيات المتحالفة مع إيران.
دبلوماسية الرياض
حتى أشهر قليلة مضت، كانت المملكة العربية السعودية في موقف ميت ضد التطبيع “كان للسعوديين تاريخ مؤلم ومهين في المساومة مع نظام الأسد، وكانوا يعتقدون أن تطبيع سوريا سيكون بمثابة اعتراف بنجاح إيران -حليف الأسد وعدو المملكة- وخلال الحرب الأهلية، أهان الأسد القيادة السعودية مرارا وتكرارا واتهمها بالوقوف وراء ظهور داعش، وهو اتهام استاءت الرياض منه بشدة”.
ويشير حكيم إلى، أن “القادة السعوديين قد لا يحبون الأسد، لكن هناك عوامل أخرى دفعت سوريا إلى إعادة اندماجها في المنطقة”.
يقول: أعاد ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، ضبط السياسة الخارجية للمملكة، سعيا منه إلى عزل خطط التنمية الاقتصادية الضخمة عن عدم الاستقرار الإقليمي. وقد حفز ذلك قراره بتقليل المنافسة مع تركيا وإيران، وتقليل التدخل السعودي في مناطق الصراع.
يضيف: كما أنه أصبح محبطًا من الولايات المتحدة، التي يعتبرها غير موثوقة، وفي طريقها لتقليص التزاماتها الأمنية في الخليج. وبدلا من الاعتماد على واشنطن، فإنه يريد العمل مع الصين وروسيا في المجالات ذات الاهتمام المشترك، مثل سياسة الطاقة.
ويوضح: بالنسبة لولي العهد، فإن سوريا مصدر إزعاج ورثه عن أسلافه وإلهاء عن أجندته التحويلية. في خرقه مع السياسة السعودية السابقة تجاه سوريا، يوجه الاتهام إلى الأجيال السابقة من القادة السعوديين، الذين استثمروا بشكل كبير في الشؤون الإقليمية مع القليل لإظهاره.
التسرع في الاندماج
يرى حكيم، أنه “بمجرد أن قررت السعودية تطبيع العلاقات مع الأسد، حاولت الأردن ومصر إبطاء السعوديين في عدة اجتماعات”.
يقول: كانوا مدعومين من الكويت، التي لم ترغب في إثارة قلق الولايات المتحدة -حليفتها الرئيسية- وهي مقيدة بالقوى المحلية المناهضة للأسد. ومن قطر، حيث يظل الأسد المنبوذ المطلق. جادلت هذه الدول بأن الأسد سيرى عودة سوريا الخالية من الشروط إلى جامعة الدول العربية كنوع من الاستسلام من جانب الدول العربية.
لكن هذه الاختلافات لم تثبت أنها مستعصية على الحل، ويرجع ذلك -في جزء كبير- إلى أن كل هذه البلدان لديها اهتمامات أكبر.
يوضح حكيم: تمر مصر بأزمة اقتصادية خطيرة، وفترة توترات مع دول الخليج. بينما يواجه الأردن صراعات اقتصادية مماثلة، وهو أكثر قلقا من التطورات في إسرائيل. كلاهما لا يمكن أن يتحملوا استعداء السعودية والإمارات. كما أن قطر بدورها غير راغبة في تعريض مصالحتها مع السعودية للخطر، بعد أن كان البلدان على خلاف بين عامي 2017 و2021.
في النهاية، أجبر التأييد السعودي الدول العربية -بما في ذلك الدول المترددة- على الانصياع إلى الخط.
اقرأ أيضا: عودة اللاجئين لسوريا.. ما الثمن الذي سيطلبه الأسد؟
كتاب الأسد الدبلوماسي
لا يظهر الأسد أي ندم أو شهامة على المسؤولين العرب الذين يلتقون به في دمشق أو في عواصم الخليج. فهو في رأيه لا يحتاج إلى التوبة أو التفكير في وحشيته. بدلا من ذلك، يتوقع أن تعتذر الدول العربية عن خطيئة معارضته.
يقول حكيم: لقد نجح الأسد في تحويل يد ضعيفة للغاية إلى يد منتصرة. نجحت استراتيجيته المتمثلة في الحفر والانتظار بصبر لتحول الرياح الإقليمية والعالمية، كما فعلت في الماضي. إنه يرى التنازلات كعلامة ضعف، ويهدف إلى إفراغ العمليات المتعددة الأطراف من جوهرها.
يضيف: في ذروة نبذه، وجد الأسد الراحة في التاريخ. قبل 15 عامًا فقط، جلس منتصرا في شارع الشانزليزيه في باريس كضيف شرف للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في عرض الباستيل العسكري الفرنسي. في ذلك الوقت، كان يخرج من فترة العزلة الدبلوماسية؛ بسبب الاشتباه في تورطه في اغتيال شخصيات سياسية لبنانية. لم يكن مهمًا أنه كان يبني مفاعلا نوويا سريا، وكان يدعم الجهاديين السنة في العراق، وكان يعمل مع إيران لتسليح حزب الله.
تابع: كان أفضل أصدقاء الأسد في ذلك الوقت، هم القادة القطريون والأتراك، وقد استضاف القادة الأمريكيين، بمن فيهم نانسي بيلوسي وجون كيري، في دمشق. كذلك، على الرغم من أن العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، ألقى باللوم على الأسد وحزب الله في اغتيال رفيق الحريري عام 2005، فقد أجرى مصالحة رفيعة المستوى مع الأسد.
حتى ذلك الحين، استفاد الأسد من الاندفاع المنظم وغير المنظم إلى دمشق؛ لتعظيم مكاسبه المالية والسياسية. وفي النهاية، لم يتنازل عن أي شيء.
الآن، يسعى الأسد إلى استخدام نفس الصيغة التي خدمته بشكل جيد في الماضي. في رأيه، اللاجئون والكبتاجون -المخدر الذي غمر مدن الخليج- والإرهاب عائد. إنهم يوفرون له دفقا ثابتا من النفوذ السياسي والمالي، بينما يزور الآخرون دمشق ويتوسلون إليه للمساعدة في حل مشكلة خلقها بنفسه.
وهو يحاول بالفعل ترجمة المشاركة العربية إلى مكاسب جيوسياسية ومالية: فقد طلب هو ووزير خارجيته -في اجتماعات مع نظرائهم- الدول العربية الضغط على الحكومات الغربية؛ لتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا. وبالمثل، فإنه يستخدم المشاركة العربية للضغط على تركيا؛ للالتزام علنا بالانسحاب من شمال غرب سوريا.
كما قدم الأسد ووزرائه مطالب مالية لمحاوريهم، قائلين إنه بدون ضخ الأموال لن يتمكنوا من الترحيب بعودة اللاجئين أو وقف تصدير الكبتاجون.