ألقت ورقة سياسات حديثة حول “أثر الأزمات العالمية على الاقتصادات العربية”، الضوء على أثر أزمات الطاقة والديون والحرب على معدلات التضخّم، خاصة في مجال الغذاء، ما دفع إلى تزايد عجز الموازنات العامة وأزمة تفاقم الديون على مستوى العالم.

تقول الورقة الصادرة عن المركز العربي للأبحاث وأعدها الباحث الاقتصادي مصطفى عبد السلام، إن العالم يشهد للمرة الأولى تجمع العديد من الأزمات الاقتصادية والمالية في توقيت واحد، أزمات تضخّم وطاقة وغذاء وركود وسلاسل الإمدادات وتفاقم الدين العالمي.

أزمات سابقة

يستعرض الباحث ملامح الأزمات الحالية في سياق عالمي وبمقاربة ومقارنة مع أزمات سابقة، منها أزمة الكساد العالمي في الفترة 1929-1939 والتي اُعُتبرت أسوأ أزمة اقتصادية في القرن العشرين، واستمرّت تداعياتها نحو عشر سنوات تقريبًا، وأثرت في الاقتصاد الأمريكي، ورفعت معدلات البطالة إلى نحو 25% في ذروة الأزمة عام 1933.

ثم جاءت أزمة النفط في 1973 حين قرَّر أعضاء من “أوبك” (خاصة المنتجين العرب) الرد “بوقف ضخ النفط” على قرار الولايات المتحدة بإرسال شحنات السلاح إلى إسرائيل خلال أكتوبر/حرب تشرين الأول 1973، ما تسبب في  تضخّم حاد  بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والركود الاقتصادي.

بينما شهد العالم عام 1997 أزمة النمور الآسيوية التي انطلقت من تايلاند وانتشرت في شرق آسيا، كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونج كونج، ومنها انتقلت إلى الشركاء التجاريين حول العالم.

وكانت الأزمة المالية العالمية 2007-2008 الأسوأ منذ الكساد العظيم، ومثلت هزة عنيفة في قطاع البنوك وشركات العقارات الأمريكية وبورصات العالم، انطلقت الأزمة من الولايات المتحدة إلى أسواق المال في أوروبا وآسيا ومنطقة الخليج العربية والدول النامية.

كورونا والحرب الروسية الأوكرانية

جاءت أزمة جائحة فيروس كورونا (كلوفيد- 19) في ديسمبر/كانون الأول 2019، بمثابة أسوأ أزمة صحية عرفها العصر الحديث وتمخَّضت عن نتائج اقتصادية كارثية على العالم.

وبحسب جيتا غوبيناث كبيرة خبراء الاقتصاد بصندوق النقد الدولي، من المتوقع أن تصل خسائر الاقتصاد العالمي من جراء الجائحة إلى 13.8 تريليونا دولارا بحلول عام 2024.

تشير ورقة السياسيات إلى أن الأزمة تركت انعكاسات شديدة على الاقتصادات الوطنية وأنشطة اقتصادية رئيسة مثل السياحة والسفر والطيران والخدمات، وضخمت الديون العامة السيادية وزادت عجز الموازنات العامة، ومن ضمن آثار الأزمة تراجع في إيرادات الضرائب والرسوم والنقد الأجنبي، نتيجة تعطل حركة الأسواق والأنشطة الاقتصادية.

ومع تفاقم الأزمة، اندفعت بعض الحكومات نحو التوسع في الاقتراض الخارجي لتغطية الفجوات التمويلية والتراجع الحاد في إيرادات النقد الأجنبي.

في القاهرة، وضمن خطوات التخفيف من الآثار الاقتصادية السلبية الناجمة عن انتشار جائحة كورونا، وافق صندوق النقد الدولي خلال يونيو/ حزيران 2020 على منح مصر 5.2 مليارات دولار لمدة عام.

وبلغ مجموع المساعدات التي قدَّمها الصندوق لمصر ثمانية مليارات دولار من أجل دعم جهودها للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وسط الجائحة والمضي قُدمًا في الإصلاحات الهيكليّة الرئيسة.

أزمة التضخم

وبسبب أزمتي كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، ازدادت معدلات التضخم وتباطأ معدل النمو الاقتصادي. وقد وصلت معدلات التضخم في الولايات المتحدة إلى ما يزيد عن 9 %  خلال يونيو 2022 وهو أعلى مستوى لها منذ 1981.  وجاوز المعدل 10 % في بريطانيا خلال يوليو 2022 ليصل إلى أعلى معدل له منذ 1982.

أيضًا، شهدت الدول العربية  موجة تضخم عاتية، شملت لبنان والجزائر وتونس والمغرب واليمن والسودان والأردن والعراق وسورية، وطال التضخم بعض الدول الخليجية أيضا منها السعودية وقطر والإمارات والكويت.

أزمة الطاقة

شهد العالم أزمة طاقة مدفوعة بالحرب الروسية الأوكرانية، والتي سبقتها زيادة الطلب على المواد الخام والسلع ومنتجات الطاقة، ووصل سعر برميل خام عتبة الـ 140 دولارًا خلال مارس 2022.

وبحسب ورقة السياسات، جاءت أزمة الطاقة نتاج عدة أسباب بينها تبعات الحرب، وفرض الولايات المتحدة وأوربا عقوبات اقتصادية على روسيا شملت قطاعات النفط والغاز والبنوك وتجميد نحو نصف احتياطي النقد الأجنبي الروسي، وقطع روسيا الغاز الطبيعي عن أوروبا.

بجانب أزمة الطاقة، شهد العالم الحرب التجارية بين الكتل الدولية، وبالأخص مواجهة بين الصين وأمريكا، والأخيرة رفعت معدلات الفائدة، ما أدى إلى سلسلة من رفع أسعار الفائدة في دول أخرى، وعمق ذلك أزمة أعباء الديون الخارجية للدول النامية، والتي تعتمد على الديون في سد فجواتها التمويلية ومعالجة عجز موازناتها العامة.

وواجهت الدول العربية أزمة في سد عجز الموازنة عن طريق الاقتراض والسندات، وكان من بينها مصر ولبنان والسودان واليمن، وهي دول تواجه حكوماتها أزمات مالية واقتصادية. ورغم محاولات عدم انزلاق عملات هذه الدول، إلا أن المغرب ومصر خفضت عملتها، وانهارت الليرة في لبنان وشهد اليمن والسودان مزيدا من انهيار العملة المحلية.

أزمة الغذاء

هددت أزمة الغذاء مئات الملايين في العالم، واتسعت رقعة الجوع مع زيادة نسب من يعانون الفقر المدقع، ومع تعطل سلسلة التوريد بعد الجائحة بدت الأزمة واضحة. ومع توقف عمليات تصدير القمح لشهور من أوكرانيا واتخاذ بعض المنتجين خطوات حمائية والحد من التصدير باتت أزمة القمح عالمية، خاصة مع اعتماد 50 دولة على القمح الروسي والأوكراني.

وتعد الدول العربية، وخاصة مصر، الأكثر استيرادا للحبوب، ما رفع التكاليف وزيادة فاتورة استيراد الأغذية بشكل عام، في وقت تنخفض فيه الموارد والاحتياطي النقدي من العملة الأجنبية.

أزمة الديون

ارتفع إجمالي الدين العالمي  8.3 تريليونات دولار في الربع الأول من 2022 ليصل إلى 305 تريليونات دولار في 2023 وهو مرشح للزيادة حسب معهد التمويل الدولي.

ومع أزمات الطاقة والغذاء وانخفاض بعض الموارد، واجهت الموازنات العربية أزمات دفعتها إلى الاقتراض لمعالجة تراجع الإيرادات ومعالجة عجز الموازنات في ظل وضع تزداد فيه مخاطر ارتفاع الركود وتقلبات السوق إضافة إلى مخاطر جيو سياسية وتغيير مناخي يضرب مناطق عدة في العالم.

تقع الدول العربية، حسب الدراسة، في مرمى الأزمات العالمية، وتأثرت بها سواء في الطاقة أو الغذاء وما يتعلق بهما، ما أدى إلى ارتفاع في الاقتراض والديون.

فى مصر، ارتفعت فاتورة واردات القمح إلى 4.4 مليارات دولار عام 2022 بعد ما كانت 2.7 مليار دولار خلال 2021 وارتفعت تكلفة الاستيراد وانخفضت موارد السياحة، ومعها انخفض الاحتياطي النقدي، واتبعت مصر سياسة خفض عملتها المحلية، فتقلصت قيمة الجنيه أمام الدولار إلى النصف تقريبًا.

وفق رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بلغت تكلفة الآثار المباشرة للحرب الروسية الأوكرانية نحو 130 مليار جنيه، وبلغت تكلفة آثارها غير المباشرة نحو 335 مليار جنيه، وتوقع تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية الاجتماعية أن خسائر مصر تقدر بقيمة 17.7 مليار إذا طال أمد النزاع الروسي الأوكراني.

أمام هذه التحديات التي فرضتها الأزمات الاقتصادية العالمية، ستزيد معاناة معظم الدول العربية من تداعيات ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب، وهناك احتمالات حدوث توترات اجتماعية وسياسية على غرار ما حدث في 2010 نتيجة عجز في توفير احتياجات المواطنين بما يتوافق مع قدرتهم الشرائية.

واستنادًا على الوضع القائم من زيادة الدين العام والاعتماد على الاقتراض الخارجي، في ظل عجز الموازنات من المتوقع أن تجد حكومات عربية صعوبة في تأمين الاحتياجات الغذائية لسكانها.

وحسب دراسة Trade Allianz، فإن عدم إطعام الشعوب يعني تغذية النزاعات، وهناك احتمالات حدوث توترات في لبنان ومصر والأردن والجزائر وتونس.

خطوات ضرورية وعاجلة

يختتم الباحث، ورقة السياسات بتقديم توصيات منها اتخاذ الدول العربية خطوات ضرورية للتسيير الفعال والإدارة ذات الكفاءة للموراد المتاحة، وتوجيه الجزء الأكبر منها إلى تأمين الحاجات الأساسية وفي مقدمتها الغذاء بدلًا من شراء الأسلحة وتكديسها في المخازن، أو الدخول في صراعات لا طائل منها. كما الحال في سوريا واليمن وليبيا.

كما يشير الباحث إلى ضرورة ألا تقوم الدول بتخفيض ميزانيات بنود الصحة والتعليم، وإيجاد فرص عمل تواجه التوسع فى معدلات البطالة المخيفة، إلى جانب وضع خطط متوسطة وطويلة الأجل لتنمية الموارد من العملات الأجنبية، والحد من الاقتراض الخارجي وكافة أشكال الهدر.

وفي السياق، يقترح الباحث أن توجه الدول الخليجية جزءا من ثرواتها وأصول صناديقها السيادية نحو أنشطة مهمة كما الزراعة والصناعات الغذائية وصناعة الأدوية في المنطقة العربية، إضافة إلى إنشاء صندوق طوارئ يختص بالأمن الغذائي مقابل سباق التسلح المحموم.