بلغ متوسط التضخم 171.2% في عام 2022، وهو أحد أعلى المعدلات على المستوى العالمي، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى انخفاض الليرة. وكان ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية هو الأكثر مساهمة في التضخم عام 2022. وزاد معدل التضخم في أسعار الغذاء في المتوسط بنسبة 240% طوال عام 2022، مسجلًا 483% كحد أقصى (على أساس سنوي) في يناير 2022. ومن المتوقع أن يظل معدل التضخم بين أعلى المعدلات على مستوى العالم، إذ يتوقع أن يبلغ 165%. ولا يزال القطاع المصرفي متعثرًا، حيث تتجاوز الخسائر المالية في القطاع المصرفي 72 مليار دولار، أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف الناتج المحلى في 2022.”
كان ما سبق جزءا من تقرير أصدره البنك الدولي مؤخرًا بعنوان “التطبيع مع الأزمة ليس طريقًا للاستقرار” عن الأزمة الاقتصادية في لبنان انتهى بفقرة بالغة الأهمية وشديدة الوجع جاء فيها نصًا: “وفي ظل هذه الخلفية، يحجب التطبيع مع الأزمة حقيقة أن الاقتصاد اللبناني لا يزال يشهد تراجعًا حادًا بعيدًا عن مسار تحقيق الاستقرار- ناهيك عن مسار التعافي. وكلما طال التأخير في اعتماد خطة شاملة ومناسبة ومنصفة للتعافي، ازدادت قتامة الخيارات المتاحة على صعيد السياسات مع تآكل الموارد الحيوية؛ لتحقيق ذلك التعافي. في الواقع، أدى القطاع المصرفي المتعثر إلى حد كبير، والعملة الوطنية التي فقدت الكثير من وظائفها الرئيسية إلى نشوء اقتصاد نقدي مُدَولَر يعادل نحو نصف إجمالي الناتج المحلى في عام 2022 مما زاد من آفاق إعاقة التعافي الاقتصادي. وما دام الاقتصاد آخذًا في الانكماش وأوضاع الأزمة قائمة، فإن مستويات المعيشة ستشهد مزيدًا من التآكل، وسيستمر الفقر في الانتشار، وستسود بيئة عامة محفوفة بالمخاطر.
باختصار، يؤدي الوضع الراهن إلى استنفاد رأس المال بجميع أوجهه، مما يفسح المجال أمام تعميق عدم المساواة الاجتماعية، حيث هناك عدد قليل فقط من الفائزين (نسبيًا) وغالبية كبيرة من الخاسرين.
وإن أخذ القارئ الكريم في الاعتبار ما ورد بتقرير آخر -أكثر عمومية- كان البنك الدولي قد أصدره فى الشهر الماضى بعنوان “أحدث المستجدات الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” ستتأكد لديه درجة حدة ومستوى أثر الأزمة الاقتصادية على المستوى الاجتماعي بلبنان خصوصًا في ظل التغيرات الديموجرافية بسبب أزمة النازحين السوريين مع تبدد الموارد، وزيادة الواردات الصناعية التي بلغت نسبة هائلة (45.8%) والتي نتجت عن قيام المستهلكين والمؤسسات على حد سواء باكتناز السلع تحسبًا لزيادات متوقعة في الأسعار، إذ جاء بالتقرير أنه مع كل زيادة بنسبة 1% في أسعار المنتجات الغذائية؛ يهبط نحو مليون شخص من سكان منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا في دائرة الفقر.
تأتي الأزمة الاقتصادية بالغة الخطورة والتي تلقي بظلالها الثقيلة على المجتمع برمته، إذ تجاوزت نسبة الفقراء بلبنان 80% من إجمالي تعداد السكان، في وقت تشهد فيه البلاد أزمة سياسية كبرى تنذر بكارثة إنسانية مُحيقة، يعززها إحساس المواطنين بفقدان الثقة في قيمِ العدالة والمحاسبة، حيث تمت عرقلة ملفات هامة في هذا الشأن كملف استكمال التحقيق الداخلي في انفجار ميناء بيروت في أغسطس 2020، وسط إضرابات فئوية بالغة الضرر، وانهيارات في المرافق العامة كالكهرباء والرعاية الصحية، وهجرة متوالية للعقول اللبنانية تتسارع بوتيرة عالية؛ بسبب تدني الدخول الذي امتد ليشمل خفضًا في رواتب رجال الجيش الوطني، وعناصر الأمن الداخلي ما دفعهم إلى ترك الخدمة أو البحث عن وظائف إضافية تؤمن لهم حياة أفضل.
ما زالت عملية التوافق على تسمية رئيس للجمهورية، تُشَكل حجر العثرة الأكبر في طريق حل الأزمة السياسية ومن ثم تفكيك الأزمة الاقتصادية، واعتماد خطة إصلاح بالاتفاق مع الداعمين الدوليين من خلال تفاهمات تتحدد خطوطها العريضة باعتمادٍ جماعي من مُثلث الرئاسات: رئاسة مجلس الوزراء، ورئاسة البرلمان، ورئاسة الجمهورية التي يعطلها زعماء الطوائف ممن قام بعضهم بتهريب مليارات الدولارات خارج البلاد في السنتين الماضيتين، مما أدى إلى تجفيف احتياطي البلاد النقدي من العملة الأجنبية وخراب الجهاز المصرفي، وانهيار قيمة العملة المحلية، وقام البعض الآخر منهم بترسيخ العلاقات خارج حدود الدولة الرسمية، ببعض القوى الإقليمية التي استخدمتهم لتحقيق مصالحها السياسية، فأنفقت عليهم وحدهم –وما زالت- بسخاءٍ منقطع النظير. كنت قد توقعت سابقًا، أن يكون للتفاهم السعودي الإيراني أثر على حل الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية بكل من لبنان وسوريا، وهو أمر قد تحقق منه الكثير فيما يتعلق بالأزمة السورية؛ بسبب طبيعة نظام الحكم ومسار اتخاذ القرار به، حيث لا إجراء يمكن القيام به، دون موافقة الرئيس الذي لا حاجة للرجوع إلى سلطةٍ سواه وبالتالى فلا نكوص عن المُضي قُدُمًا في تنفيذه، لكن الأمر في لبنان يختلف، حيث لا عودة -ولو شكلية- للحياة الطبيعية دون اكتمال مُثلث الرئاسات.
بالتوازي مع أزمة تسمية الرئيس السياسية، كانت هناك أزمة أخرى تنامت مؤخرًا، فساهمت في تعميق حدة الأزمة الاقتصادية، وهي أزمة حاكم المصرف المركزي (مُحافظ البنك المركزي) الذي قام البوليس الدولي مؤخرًا بتعميم اسمه كمجرم سيتم اصطياده مع أي محاولة منه للهرب خارج البلاد، بعدما صدرت في حقه مُذكرتا ملاحقة وتوقيف (ضبط وإحضار) فرنسية ثم ألمانية بتُهَمٍ تتعلق بعمليات غسل للأموال تورط فيها شخصيًا، وأفراد من عائلته وإحدى موظفات مكتبه.
بالإضافة إلى أن بقاءه في ذلك المنصب الرفيع بعد صدور مُذكرتي الملاحقة والتوقيف يُعَد -سياسيًا- أمرًا مُشينًا ومُسيئًا لسمعة بلاده، فإنه كذلك يُفقدها -اقتصاديًا- ثقة الداعمين الدوليين الهشة في اقتصادٍ مأزومٍ ولو بتمويلات مرحلية للإنقاذ، فكيف يمكن لمُقرِضٍ حصيف أو مُستثمرٍ حريص أن يضخ مالًا شرعيًا في بلد يدير سياساته النقدية مجرم مطلوب للعدالة الدولية. رغم كل التبعات السيئة لاستمراره في منصبه، لم يتقدم محافظ البنك المركزي باستقالته، ولم يجرؤ أحد من الأطراف الفاعلة بالمعادلة السياسية اللبنانية على إقالته؛ خوفًا من فتح ملفات فساد ستطال الكثيرين منهم فآثر الجميع الرهان على الوقت، إذ أن فترة خدمته ستنتهي رسميًا في يوليو من هذا العام، وحينها سيكون التوافق على اسم الرئيس الجديد قد تم -حسب تقديرات تلك الأطراف- لتنتهي الأزمة من تلقاء نفسها بتسويةٍ ما، ودون صدامات عنيفة. ربما يكون الرهان على الوقت هو أَسْلَم الخيارات المتاحة لكن قد تأتي مماحكات السياسة في لبنان بمفاجآت لا يعلمها إلا الله، وعندها سيشهد الاقتصاد انهيارًا حتميًا فلكل يوم يمر بلا حسمٍ، تكلفة اجتماعية باهظة.