على مدار السنوات العشر الماضية، شهدت ليبيا حروبًا واشتباكاتٍ داميةً، فضلًا عن تقلبات سياسية عديدة، ما أدى إلى تعاقب العديد من الحكومات على إدارة شؤون البلاد. تلك التقلبات كان آخر فصولها تعليق عمل فتحي باشاغا، رئيس الحكومة المدعومة من الشرق الليبي، والتي تتخذ من مدينة سرت وسط البلاد مقرًا لها.
عكست هذه الخطوة الاضطرابات داخل معسكر الشرق السياسي، والتي قد تؤدي بشكل غير متوقع إلى تقارب بين المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني في الشرق، مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس في الغرب، برئاسة عبد الحميد الدبيبة. ما قد يسهّل خطوة إجراء انتخابات في البلاد مستقبلًا.
يشير محللون، إلى أن هذه الخطوة ربما تقول، إن هناك تفاهمات إقليمية مصرية وتركية وإماراتية تؤسس للشراكة بين حفتر والدبيبة، في ظل تباعد الثقة ما بين الفرقاء لإقامة الانتخابات.
يرى جلال حرشاوي، الباحث بمعهد كلينجنديل للعلاقات الدولية في لاهاي، والمتخصص بالشؤون الليبية، أن رغبة كلا من حفتر والدبيبة في استيعاب بعضهما البعض هي أحد أسباب سقوط باشاغا. وأن “التطورات والمؤامرات الحالية تظهر القوة المذهلة للنخب الموجودة في المشهد الليبي الحالي”.
ماذا حدث؟
عيّن مجلس النواب، الذي يتخذ من الشرق مقرًا له، فتحي باشاغا رئيسًا للوزراء في مارس/ أذار 2022؛ بهدف إزاحة حكومة عبد الحميد الدبيبة، المعترف بها دوليًا في طرابلس (غرب). لكن تمّ “إيقاف” باشاغا في 16 مايو/ أيار 2023، من دون أن ينجح في إطاحة منافسه.
وفي عام 2022، حاول باشاغا عبر قوات موالية له دخول طرابلس؛ لفرض واقع جديد. لكن بعد ساعات من اشتباكات عنيفة بين مجموعات موالية له، وأخرى موالية للدبيبة، تم صد أنصاره. وخلّفت المعارك أضرارًا مادية جسيمة في العاصمة.
منذ ذلك الحين، استقر مع حكومته في سرت (وسط) ليتلاشى حضوره تدريجيَا. “ويبدو أنه فقد الداعم الأساسي له، المتمثل بالمشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق البلاد”، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية.
اقترب باشاغا المتحدّر من مدينة مصراتة، المدينة المهمة في غرب ليبيا، من حفتر في ديسمبر/ كانون الأول 2021، باسم “المصالحة الوطنية”، بعد إرجاء الانتخابات التي كان يفترض أن تنهي الفوضى التي أعقبت سقوط معمر القذافي عام 2011، بعد 42 عامًا من الديكتاتورية.
اقرأ أيضًا: وزير الخارجية الأسبق محمد العرابي في حوار لـ “مصر360”: الخيار العسكري في أزمة سد النهضة ليس مطروحا.. التوافق مع تركيا بشأن ليبيا صعب.. لستُ قلقًا بشأن مستقبل العلاقات المصرية السعودية
ويرى مدير “مركز الدراسات والبحوث حول العالم العربي والمتوسط” في جنيف، حسني عبيدي، أن البرلمان “لم يوقف باشاغا فحسب، بل علّق الحياة السياسية لرجل مصراتة القوي السابق”.
ووفق تصريحات “عبيدي” لـ”وكالة الصحافة الفرنسية“، فإن “رحيل باشاغا المهين يعكس الخلافات في المعسكر الشرقي، لا سيما بين حفتر ومحيطه، ممثلًا بأبنائه، والبرلمان برئاسة عقيلة صالح الذي ينتمي إلى قبيلة كبيرة في شرق ليبيا”.
يرى “عبيدي” أن الدبيبة “استغلّ الشلل الذي أصاب الحكومة الشرقية؛ لتعزيز قبضته على الحياة السياسية والاقتصادية في ليبيا”.
“بالنسبة لعشيرة المشير حفتر، فلطالما كان لباشاغا تاريخ انتهاء صلاحية، وفائدته انتهت في اليوم الذي فقد فيه إمكانية الاستقرار في طرابلس”؛ يقول الباحث عماد الدين بادي من مركز “أبحاث المبادرة العالمية”.
وتقرّر تعليق عمل باشاغا، وإحالته على التحقيق الإداري قبل شهر من الموعد النهائي الذي حددته الأمم المتحدة في منتصف يونيو/ حزيران؛ لجلب الأطراف الليبية للاتفاق على أساس قانوني يسمح بإجراء الانتخابات، التي طال انتظارها، في نهاية عام 2023 لتهدئة البلاد.
تفاهمات برعاية مصرية
تزامن قرار عزل باشاغا مع تقارير إعلامية عن خطط، لحصول تقارب بين حفتر والدبيبة. فقد أفادت التقارير بأن إبراهيم الدبيبة، ابن شقيق رئيس وزراء طرابلس، وصدام حفتر، نجل خليفة حفتر الأكثر نشاطًا، يجريان محادثات منذ أشهر.
وكشف مصدر سياسي ليبي واسع الاطلاع لوكالة أنباء الأناضول -في 23 مايو/ أيار 2023- تفاصيل اتفاق غير معلن جرى بين الدبيبة وحفتر على تشكيل حكومة ليبية موحدة. وقال المصدر الليبي، إن ذلك جاء خلال مشاورات جرت مؤخرًا في العاصمة المصرية القاهرة بين وفود من حكومة الوحدة الوطنية، ومندوبين عن حفتر وبتمثيل أقل من مجلس النواب.
كما أوضح، أن الاتفاق “ينص على أن يكون الدبيبة رئيسًا للحكومة الموحدة المقبلة، مقابل تنازله عن الضغط الذي يمارسه لإقصاء حفتر من (المشاركة في) الانتخابات الرئاسية المقبلة”.
وأردف المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أن الدبيبة “بموجب الاتفاق سوف يمتنع عن الضغط الذي كان يمارسه بشكل سري، لإقصاء حفتر من الترشح للانتخابات الرئاسية”. كما أشار “بموجب ذلك الامتناع من قبل الدبيبة سيُسمح بإقرار قوانين انتخابية، تسمح لمزدوجي الجنسية والعسكريين بدخول السباق الانتخابي، وهما أمران كانا سيقصيان حفتر، حيث ينطبقان عليه كونه يحمل الجنسية الأمريكية، وكذلك عسكريًا”.
ولفت إلى، أن باشاغا رفض اتفاق الدبيبة وحفتر، الذي كان من المفترض أن يتولى بموجبه منصب نائب رئيس حكومة الوحدة. وبحسب المصدر نفسه، فإن باشاغا “رفض أن يكون نائبًا للدبيبة في رئاسة الحكومة المقبلة الموحدة، ما دفع حفتر للضغط على مجلس النواب لتوقيفه عن رئاسة الحكومة”.
من جانبه، يتوقّع المحلّل السياسي الليبي، عبد الله الريس، أن تعكس هذه التحركات السياسية “تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، أو تعديل وزاري” ينهي الخلاف المحموم بين الرجلين. ويقول الريس إن “هذه خطوة تسبق أي اتفاق على الانتخابات”.
لكن مصدر ليبي كشف لصحيفة “عين ليبيا” -المقربة من حكومة الدبيبة- رفض الولايات المتحدة الأمريكية، للاتفاق غير المعلن –الذي ترعاه مصر والإمارات– بين حفتر ورئيس حكومة الوحدة الوطنية. وذكر المصدر، أن واشنطن رفضت دمج حكومة الدبيبة مع الحكومة الليبية المدعومة من الشرق، التي يرأسها حاليًا أسامة حماد، مشيرًا إلى، أن الولايات المتحدة تُصر على ضرورة تشكيل حكومة جديدة مصغرة.
تقول صحيفة “ميدل إيست مونيتور” إن اللواء حفتر يريد الآن أن “يلعب ببطاقة المصالحة الوطنية بهدوء أكبر، بقصد ضم أنصاره إلى أي حكومة جديدة قد يفكر فيها رئيس الوزراء الحالي الدبيبة، من أجل تنظيم الانتخابات، إذا أجريت في أي وقت”. وتضيف “الفكرة هي أن يكون هناك حكومة ذات قاعدة عريضة يدعمها البرلمان في الاستعدادات للانتخابات؛ لإنهاء انتقال ليبيا اللانهائي إلى الديمقراطية”.
لقد فقد باشاغا بالتأكيد قدرًا كبيرًا من الدعم -بحسب تعبير الصحيفة- والأهم من ذلك أنه فقد أي مصداقية وطنية كان يتمتع بها قبل انضمامه إلى المعسكر الشرقي. “إن لعب دور الرجل الطيب في السياسة الليبية ليس دائمًا فكرة جيدة، ومصير السيد باشاغا خير مثال على ذلك”.
وترى الصحيفة، أنه من غير المحتمل أن يكون لإقالة باشاغا أي آثار سلبية خطيرة على “المستنقع السياسي الغامض في ليبيا”. في الوقت نفسه، لا ينبغي إبعاده عن السياسة تمامًا لأنه “لا يزال يتمتع بدعم كثيرين آخرين. ومع ذلك، فإن فرص عودته في أي وقت قريب ستكون قاتمة للغاية”.
ومنذ عام 2012، كان هناك العديد من الجهود الوطنية والإقليمية والدولية للتوسط في ترتيبات تقاسم السلطة المؤقتة، والحكومة الانتقالية والمعايير الدستورية للانتخابات في ليبيا. لكن “هذه الجهود تميل إلى الاعتماد على نماذج مختلفة من مساومة النخبة. وتتأرجح من نموذج إلى آخر اعتمادًا على الاقتصاد السياسي والقدرات العسكرية/ شبه العسكرية للأطراف المعارضة في ليبيا”، وفقًا لـ”معهد الولايات المتحدة للسلام“.
اجتماعات بشأن الانتخابات
أتت التفاهمات بين الدبيبة وحفتر في ظل اجتماعات اللجنة المشتركة؛ لإعداد القوانين الانتخابية في ليبيا “6+6″ بخصوص اختيار رئيس البلاد وأعضاء البرلمان برعاية الأمم المتحدة، وسط غياب الضمانات لتحقيق نتائج الاتفاق، ونقاط جدلية لم تُحسم بعد، في مقدمتها موعد إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وإنهاء الأجسام السياسية في البلاد كافة.
ولجنة “6+6” مكونة من 6 أعضاء من مجلس النواب الليبي، ومثلهم من المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري)، للوصول إلى قوانين انتخابية “توافقية” تُجرى بموجبها انتخابات ببلادهم في 2023.
يرى عضو مجلس النواب الليبي عمار الأبلق، أنه من الصعب الوصول إلى اتفاق حقيقي نهائي بين أعضاء لجنة 6+6، لأن هناك خلافات جوهرية بين أعضاء مجلس الدولة فيما بينهم، وأعضاء مجلس النواب فيما بينهم أيضًا.
ويلفت إلى أنه “لم تتم صياغة قوانين الانتخابات بعد، ولم يعلن عن شروط الترشح للانتخابات، والتي من الصعب أن تجرى في الوقت الحالي، بسبب الشخصيات الجدلية التي تنوي الترشح”. ويضاف إلى ذلك أنه “يجب سن قوانين تحدد شروط الترشح، وإلا فإن هذه الانتخابات سوف تتم عرقلتها من جديد، بسبب الخلافات حول هذه النقطة”.
اقرأ أيضًا: ليبيا| تعديلات دستورية ومبادرة أممية.. الانقسام لا يزال سيد الساحة
من جهته يرى المحلل والناشط السياسي، إسلام الحاجي، أن الاجتماعات التي عُقدت في المغرب لا تأتي بجديد بخصوص شروط الترشح للرئاسة، وهذه “خلافات مزمنة لم يتم الاتفاق عليها بشكل واضح، وكانت محل خلاف حقيقي، نتيجة لمصالح متضاربة بين المجلسين، بخصوص عملية تقاسم المناصب السيادية أو عملية اختيار حكومة جديدة متفق عليها”.
حتى الآن، يصف بعض المحللين جهود بعثة الأمم المتحدة المستمرة للدعم في ليبيا، بأنها عملية ذات مسارين: المسار الأول هو “مسار القيادة”، الذي يشمل فاعلين سياسيين ليبيين مؤثرين يساعدون في التوسط في صفقة تضمن استمرار الانتخابات. وتحرص الأمم المتحدة على التعاون مع المجلس الرئاسي في طرابلس للمساعدة في تسهيل هذا المسار.
بينما يتضمن المسار الثاني، إشراك الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنساء والشباب والأقليات؛ لتحديد أصحاب المصلحة الذين يمكنهم بنشاط تعزيز المصالحة الوطنية والدعم العام للعملية السياسية.
“الانتخابات هي في الأساس حافز للتغيير، ” تُلاحظ كلوديا جازيني، كبيرة محللي الشؤون الليبية في مجموعة الأزمات الدولية. “وهذه الصفقات بين الأعداء السابقين مربحة للغاية لكلا الجانبين. لذا من الواضح أن هذا (تقاسم الأرباح والنمو الاقتصادي) يتعارض مع خريطة الطريق التي تدعمها الأمم المتحدة”.
وتقصد جازيني بتقاسم الأرباح بدايات التفاهمات الحالية بين الدبيبة، وحفتر التي تجلت في يوليو/تموز من العام الماضي بتعيين فرحات بن قدارة الرئيس السابق للبنك المركزي للبلاد، لإدارة المؤسسة الوطنية للنفط. وبن قدارة من أنصار خليفة حفتر. وجاء التعيين بعد عدة أشهر من الحصار ذا الدوافع السياسية لمنشآت إنتاج الوقود والمواني، التي أدت إلى انخفاض كبير في إنتاج النفط في البلاد، وبالتالي خفض دخلها القومي.
اقرأ أيضًا: ليس بالانتخابات وحدها ستحل مشاكل ليبيا
وأشار المراقبون حينذاك، إلى أن ابن قدارة حصل على وظيفته الجديدة؛ نتيجة لاتفاق خاص بين المعسكرين المتعارضين برعاية إماراتية، وهو اتفاق يبدو أنه يفيد كلا الجانبين.
الحل الفوري صعب. وتعتقد جازيني، أن إضفاء الطابع الرسمي على “العجلة والتعاملات غير الرسمية” يمكن أن يساعد في جذب السياسيين الليبيين للمشاركة في الانتخابات. لكن الباحث جلال حرشاوي يشعر بالقلق من أن الوضع الحالي، “حتى لو كان يجلب بعض الأمل، لا يؤدي إلا إلى ترسيخ الفساد القائم وانعدام الشفافية بين النخب السياسية الليبية”.
“شهدنا الكثير من التقلبات والتعامل بين المعسكرين. ويتلقى كلاهما رشاوى مربحة للغاية بطرق مشبوهة -كل ذلك غير رسمي ويشتمل على أفراد وليس مؤسسات- ولكن علاقة المعاملات هذه تحافظ أيضًا على السلام على أرض الواقع. لأن الجهات الفاعلة المعنية لديها اهتمام أكبر بتمكين هذه الترتيبات بدلاً من الذهاب إلى الحرب في مواجهة بعضها البعض”، تقول محللة مجموعة الأزمات الدولية.