حكمت “طالبان” أفغانستان مرتين؛ الأولى في الفترة من عام 1996 إلى 2001، حين ارتكبت جرائم وانتهاكات وفرضت نظامًا صارمًا ومتشددًا طال النساء والفتيات بقيود شديدة، قبل أن تترك الحكم في العام 2001، إثر الغزو الذي نفذته الولايات المتحدة، التي قررت بعد 20 عامًا من هذا التاريخ، ومعها قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو)، انسحابًا وُصف إعلاميًا بأنه غير مدروس، أعاد الحركة المتشددة مرة أخرى إلى الحكم في 2021، لتشهد البلاد تدهورًا شديدًا أصاب كل شيء تقريبًا، بما في ذلك التعليم والاقتصاد والصحة، كما نال من حقوق الإنسان، وبخاصة المرأة التي تعرضت لممارسات عنيفة تنذر بمخاطر عدة، أشار إليها تقرير حديث صادر عن منظمة العفو الدولية، طالب بالتحقيق في الحملة القمعية غير القانونية، والانتهاكات التي تنفذها الحركة ضد حقوق النساء والفتيات والأقليات، باعتبارها جرائم محتملة بموجب القانون الدولي، بما في ذلك الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي.

يقدم التقرير المعنون بـ “حرب طالبان على النساء: جريمة ضد الإنسانية متمثلة في الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي في أفغانستان“، تحليلًا قانونيًا مفصلًا للكيفية التي يمكن أن ترقى فيها قيود طالبان الصارمة على حقوق النساء، والفتيات في أفغانستان، إلى جانب استخدام السجن والاختفاء القسري والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة، إلى جريمة ضد الإنسانية تتمثل في الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي بموجب المادة 7 (1) (ح) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

انسحاب الناتو من أفغانستان في 2021 (وكالات)
انسحاب الناتو من أفغانستان في 2021 (وكالات)

اقرأ أيضًا: عام على حكم طالبان: بعضٌ من الأمن وقليلٌ من الأمل

بتحرك مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وطرح آليات حماية للنساء والفتيات، وطرح أوضاع النساء في أفغانستان ضمن الدورة 53 للمجلس، واعتبرت المنظمة الاجتماع فرصة لممثلي للدول والمجتمع المدني، والخبراء المستقلين لمناقشة جرائم طالبان، والتحقيق فيها بموجب القانون الدولي.

وقد حثت منظمة العفو الدولية، ولجنة الحقوقيين الدولية المدعيين العامين للمحكمة الجنائية الدولية، على أن يدرجوا الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي، في تحقيقاتهم الجارية حول الوضع في أفغانستان. كما دعت المنظمتان الدول الأخرى إلى ممارسة الولاية القضائية العالمية أو غيرها من الوسائل القانونية؛ لتقديم أعضاء طالبان المشتبه في مسئوليتهم عن ارتكاب جرائم بموجب القانون الدولي إلى العدالة.

وعود المتشددين

لا شك، أن السنة الماضية كانت فصلًا مهمًا في تاريخ أفغانستان، بما شهدته من تغيرات هائلة على الصعيد السياسي والاجتماعي والأمني داخل الدولة الأفغانية تحت حكم الحركة التي كانت طوال فترة التسعينيات، والألفينيات مركزًا لحركات الإرهاب الدولية، والتي خاضت مفاوضات مع الولايات المتحدة، قادت في فبراير/ شباط 2020، إلى انتزاع اتفاق مع واشنطن على انسحاب جميع قوات الولايات المتحدة والناتو من أفغانستان بحلول 1 مايو/ أيار 2021، الأمر الذي فتح للحركة -بتغيير في رؤى الغرب تجاه هذه المنطقة- بابًا للسيطرة الكاملة على الدولة التي عانت سنوات طويلة من التطرف.

اقرأ أيضًا: ملامح أول موازنة لطالبان تعتمد على الهيروين والضرائب.. ومحاولة لجذب العالم لـ”الليثيوم”

في أعقاب ذلك، وتحديدًا في يناير/ كانون الثاني من 2022، استضافت النرويج محادثات بين مسئولين من حركة طالبان ومبعوثين من الولايات المتحدة، والدول الأوروبية وأفراد من المجتمع المدني الأفغاني؛ لبحث سُبل التعامل مع التحديات التي تواجه أفغانستان.

وقد قدمت الحركة -بعد ضمان عودتها للحكم- ضمانات ووعودًا حول حماية حقوق الإنسان، وأصدرت عفوًا -في إشارة لتغير سياساتها المتشددة- عن بعض المسئولين الحكوميين وأفراد قوات الأمن السابقين.

بيد أن الأمر لاحقًا ازداد سوءًا وصل إلى حد الإعدام والجلد العلني بتهم أخلاقية، أشارت إليها عديد من منظمات حقوق الإنسان، أكدت أيضًا، الوضع السيء للأفغانيات اللائي واجهن في العام الماضي انتهاكًا لحرياتهن، وحرمانًا للفتيات من التعليم في المدارس، مع إهمال شديد لحقوق الأقليات التي تعيش في البلاد.

صورة نشرتها حركة طالبان الأفغانية لوزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي (وسطًا)، والمسئول البارز في طالبان أنس حقاني (يمينًا) ومندوبين يقفون لالتقاط الصور قبل مغادرتهم إلى أوسلو، في مطار كابل بأفغانستان، 22 يناير/ كانون الثاني 2022 (وكالات)
صورة نشرتها حركة طالبان الأفغانية لوزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي (وسطًا)، والمسئول البارز في طالبان أنس حقاني (يمينًا) ومندوبين يقفون لالتقاط الصور قبل مغادرتهم إلى أوسلو، في مطار كابل بأفغانستان، 22 يناير/ كانون الثاني 2022 (وكالات)

حكم طالبان: الموت البطيء

يغطي تقرير منظمة العفو الدولية الفترة بين أغسطس/آب 2021 ويناير/ كانون الثاني 2023، ويبني تحليله على مجموعة متزايدة من الأدلة التي جمعتها مصادر موثوقة، بما في ذلك تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2022، بعنوان “الموت البطيء: النساء والفتيات تحت حكم طالبان“، ومنظمات المجتمع المدني وسلطات الأمم المتحدة. كما يقدم تقييمًا قانونيًا؛ لسبب وجوب اعتبار النساء والفتيات الهاربات من الاضطهاد في أفغانستان لاجئات يحتجن إلى الحماية الدولية. وهو يكمل عمل خبراء الأمم المتحدة وجماعات حقوق المرأة؛ لوضع الأساس للاستجابة القوية اللازمة لضمان العدالة والمساءلة، والتعويض عن الجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي.

عودة الإعدام والجلد العلني:

كان لممارسات الحركة على أرض الواقع أثر شديد الخطورة على الحقوق، والحريات في هذا البلد الواقع في قلب قارة آسيا. وقد رصد جانبًا من هذه الانتهاكات تقرير منظمة العفو الدولية للعام 2022، حول عودة الإعدام العلني والجلد كعقاب على جرائم القتل والسرقة، أو العلاقات “غير المشروعة”، وكذلك أي فعل تعده الحركة إخلالًا بالأعراف الاجتماعية والقواعد الدينية.

قمع ممنهج وحرب على النساء:

منذ استيلاء طالبان على السلطة في أغسطس/ آب 2021، تم استبعاد النساء في أفغانستان من الأدوار السياسية، والوظائف في القطاع العام. تم تطبيق سلسلة من التدابير والإعلانات، التي أدت إلى استبعاد النساء والفتيات من التعليم بعد المرحلة الابتدائية وتقييد فرصهن المهنية.

تم حل الإطار المؤسسي الذي كان يدعم حقوق النساء الأفغانيات، وزيادة التمييز ضدهن من قبل الحركة. وتم إصدار مرسومين في ديسمبر/ كانون الأول 2022، وإبريل/ نيسان 2023، يمنعان النساء من العمل في المنظمات غير الحكومية، والأمم المتحدة. الأمر الذي يؤكد التمييز القائم على النوع الاجتماعي.

كما فرضت “طالبان” قيودًا على سفر النساء، واشتراط محرم وتقييد الحرية في الحركة واللباس، مما ينتهك حقوق المرأة في التنقل وحرية الاختيار. وهي قيود تمييزية تتعارض مع الضمانات الدولية لحقوق الإنسان، التي تتضمنها المعاهدات التي تعد أفغانستان طرفًا فيها، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل.

كذلك، تم اعتقال النساء والفتيات واحتجازهن تعسفًا من قبل طالبان، بسبب “جرائم أخلاقية”، بما في ذلك انتهاك قيود سلطات الأمر الواقع المتعلقة بالمحرم والمشاركة في احتجاجات سلمية. وتعرضت النساء للتعذيب والاعتقال غير القانوني والمعامل.

ما قاله المعنيون؟

سانتياجو أ. كانتون
سانتياجو أ. كانتون

يقول سانتياجو أ. كانتون، الأمين العام للجنة الحقوقيين الدولية: “إن حملة الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي في أفغانستان منهجية، حيث تشكل الأفعال والسياسات بشكل تراكمي نظامًا للقمع يهدف إلى إخضاع وتهميش النساء والفتيات في جميع أنحاء البلاد.

هذا، ونفذت السلطات أول عملية إعدام علنية لها في إقليم “فرح” غربي البلاد، بحضور كبار مسئوليها، ومن ضمنهم نائب رئيس الوزراء، والوزراء، وكبير القضاة.

هذا الوضع وصفته إحدى النساء في مقابلة مع منظمة العفو الدولية خلال مارس/ آذار 2022 بالإعدام البطيء، ذلك ضمن 90 مقابلة أجرتها المنظمة مع النساء، كإحدى أدوات إعداد التقرير والحصول على المعلومات، وتوثيق شهادات في 20 مقاطعة، غير مقابلات مع صحفيين وخبراء حقوقيين ومنظمات دولية.

أنياس كالامار
أنياس كالامار

وتضيف أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنه “لا شكّ في أنّ هذه حرب ضد النساء، فهن ممنوعات من ممارسة الحياة العامة، ومحرومات من الحصول على التعليم، وممنوعات من العمل، وممنوعات من حرية التنقل، ومعرّضات للسجن والاختفاء القسري والتعذيب، بما في ذلك بسبب معارضة هذه السياسات ومقاومة القمع. هذه جرائم دولية. إنها جرائم منظمة وواسعة الانتشار ومنهجية”.

الأقليات المستهدفة

ليست النساء فقط المستهدفات بالانتهاكات داخل أفغانستان. يشير تقرير منظمة العفو الدولية إلى انتهاك الحقوق المدنية والسياسية، بما يشمل تقييد حرية التعبير وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها، والتجمع السلمي والمشاركة العامة. هذا فضلًا عن تعمد إهمال الأقليات والسماح بعودة العنف والهجمات التي تطالهم، كما حدث في سبتمبر/ أيلول 2022، عندما استهدف انتحاريًا مركزًا دراسيًا خاصًا في العاصمة الأفغانية كابل، فأسقط 35 قتيلًا على الأقل معظمهم من الطالبات، وأصاب 80 آخرين في المنطقة التي تضم في غالبية سكانها أقلية الهزارة، الذين غالبا ما يتم استهدافهم من قبل مسلحي تنظيم الدولة “داعش”.

وهو أمر يضع “طالبان” في دائرة الاتهام، إذ لم تفعل إلا القليل لوضع أي تدابير لحماية الشعب، وبخاصة الهزارة الشيعة.

وقد سجل تقرير بعثة الأمم المتحدة في أفغانستان (يوتاما) خلال الفترة من أغسطس/ آب 2021 إلى يونيو/ حزيران 2022، إصابات في صفوف المدنيين بلغت 2106 شخصًا، بينهم 700 قتيل و1406 جرحى في أعمال عنف. 

توصيات ومطالبات

قدمت منظمة العفو الدولية، ولجنة الحقوقيين الدولية توصيات محددة، في تقريرهما، بشأن الكيفية التي يجب بها على المجتمع الدولي أن يساعد في تفكيك نظام طالبان للعنف القائم على النوع الاجتماعي والإفلات من العقاب.

وطالبتا بالحوار التفاعلي المعزز القادم حول وضع النساء والفتيات في أفغانستان في الدورة 53 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، باعتبارها فرصة مهمة للدول والمجتمع المدني والخبراء المستقلين؛ لمناقشة العنف القائم على النوع الاجتماعي وغيره من الجرائم المحتملة بموجب القانون الدولي من قبل طالبان.

اقرأ أيضًا: مشاهدات داخل أفغانستان: المعاني المختلفة لحكم طالبان

هذا بالإضافة إلى مطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة -في دورته الـ 54 في أكتوبر/تشرين الأول 2023- بتجديد وتعزيز ولاية المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في أفغانستان، واتخاذ خطوات عاجلة نحو إنشاء آلية مساءلة دولية مستقلة؛ للتحقيق في الجرائم بموجب القانون الدولي وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وكذلك جمع وحفظ الأدلة على هذه الانتهاكات؛ بهدف دعم جهود المساءلة المستقبلية، بما في ذلك المحاكمة في محاكمات عادلة.

وقد خلصت أنياس كالامار إلى القول: “النساء والفتيات الأفغانيات ضحايا لجريمة ضد الإنسانية متمثلة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي. وتتطلب خطورة الجريمة استجابة دولية أقوى بكثير مما شوهد حتى الآن. هناك نتيجة واحدة مقبولة فقط: يجب تفكيك نظام القمع والاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي”.

وختم سانتياجو أ. كانتون حديثه بالقول: “إنَّ محاسبة طالبان جنائيًا والتصدي للإفلات المتفشي من العقاب على الجرائم الخطيرة الموثقة في هذا التقرير، هو خطوة ضرورية نحو ضمان العدالة للناجيات من ممارساتهم الفظيعة. لا يمكننا ببساطة تحمل كلفة خذلان نساء وفتيات أفغانستان”.