تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال التحولات التي طرأت على سياسة مصر تجاه إسرائيل، وانتقالها من حالة المواجهة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية الشاملة، إلى التعايش السلمي وتجنب التصادم بعد معاهدة السلام، وما صاحب ذلك من تمدد إسرائيل استراتيجيا واقتصاديا في المنطقة والعالم.

أوضحنا أيضا أن ذلك جاء، ليس فقط، على حساب فرص تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما أيضا، وقبل ذلك من وجهة نظر مصر، على حساب مكانتها ووزنها في المنطقة والعالم. كما تناولنا، أخيرا، مصادر قوة إسرائيل ونفوذها منذ تأسيسها، والتي سمحت لها بهذا التمدد، وأخيرا كيف بدأت هذه الأسس تشهد تآكلا متزايدا في السنوات الأخيرة.

باختصار، أصبح واضحا أن الوقت قد حان للعمل على إيقاف هذا النزيف؛ من خلال إحداث تحول جذري في سياسة مصر تجاه إسرائيل للمرة الثانية منذ تأسيسها، هذه المرة من التعايش السلمي وتجنب الصدام إلى المساحة الواسعة في العلاقات الدولية بين حالة الحرب على جانب، وعلاقات الود والصداقة على الجانب الآخر، التي يمكن في إطارها لمصر العمل الصريح والحازم على الصعيد الدبلوماسي والقانوني والأخلاقي، وبما لا يتناقض مع معاهدة السلام، ولكن دون الحذر من إغضاب إسرائيل، بغرض نقلها إلى موقف الدفاع، وحمل مجتمعها مع الوقت على إدراك أخطائه، وتبين التكلفة الكبيرة لاختياراته السياسية المتطرفة، وصولا إلى إعادة تعريف الحدود التي يتعين عليها احترامها في حركتها في المنطقة، ودفعها دفعا نحو البحث عن منهج أفضل للتعايش مع المنطقة، بدلا من سياسة القوة والهيمنة والعبث بمصالح دولها الذي اتبعته منذ تأسيسها.

وقبل التعرض لمضمون السياسات المصرية الواجبة في المرحلة الجديدة، والتي تستحق عملا ودراسة أوسع كثيرا من هذا المقال، ينبغي التنويه إلى أن الغرض هنا في الأساس، هو مناقشة التوجه العام الذى يجدر بمصر أن تتبناه تجاه إسرائيل، وهو إعادة هذه القضية إلى بؤرة سياسة مصر الخارجية، والتعبير عن ذلك إعلاميا بشكل متواصل ومباشر وقوي، وجعلها في مقدمة أهداف رئيس الجمهورية، ووزير الخارجية وغيرهما من كبار المسئولين المصريين من اتصالاتهم الخارجية، سواء في الدول الغربية أو الإفريقية أو الآسيوية أو اللاتينية، وأن يكون طرحها بكل الجدية والإلحاح، وأن يقترن ذلك بطلبات محددة غرضها مواجهة إسرائيل ودفعها لتصحيح سياساتها، وتحميلها تكلفة مرتفعة لخياراتها الخاطئة الحالية. كما يعني العمل على أخذ دول المنطقة في نفس الاتجاه، وعلى إبطاء وتيرة التطبيع العربي مع إسرائيل وتقييد مجالاته.

أما مضمون هذه السياسة فهو -عموما- أمر ستحركه الظروف والأحداث، وتوجهه الفرص والتحديات، وترسم أبعاده القدرات والقيود، وينبغي إدارتها بحكمة وحنكة ودهاء، والتحرك فيه بخطوات محسوبة، لكن المقصود هنا حنكة ودهاء وحسابات المهاجم الساعي إلى التقدم وكسب أرض، لا المدافع المشغول بمجرد البقاء وتقليل خسائره. مثل هذه السياسة ينبغي أن تشمل العناصر التالية:

  • التركيز على الوجه غير الشرعي وغير الإنساني وغير القانوني، لسياسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني وفى الأراضي العربية المحتلة، وإيضاح أن هذا هو المتوقع من حكومتها ذات الفكر المتطرف والعنيف، والنتيجة الطبيعية لانحراف وعي الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي، وقبل كل ذلك تساهل المجتمع الدولي مع هذا الجنوح المتواصل نحو التطرف، ومع ارتكاب ممارسات تخالف بشكل فادح القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
  • إيضاح أن هذا الموقف السلبي من المجتمع الدولي، والذي يشارك في المسئولية عنه العالم العربي بقبوله الاستمرار في وهم عملية السلام؛ رغم وضوح غياب أي نية لدى إسرائيل للوفاء بالحد الأدنى من متطلباتها، لم يضعف فقط معسكر السلام في العالم العربي، وإنما أيضا في إسرائيل نفسها، بعد أن أصبح لا يجد حججا برجماتية تبرر دعوة المجتمع الإسرائيل؛ لتسوية سياسية تنطوي على تطبيق الحد الأدنى من متطلبات العدالة والقانون الدولي.
  • دعوة شركاء إسرائيل إلى مراجعة برامج التعاون العسكري والتسليحي معها؛ لضمان ألا تشجعها قدراتها العسكرية على المزيد من انتهاك القانون الدولي، لأن هذا هو ما قد يدفعها إلى العودة إلى المشروعية التي تفقدها بسبب سياساتها الحالية، وتفقد معها أي وضعية أخلاقية، وتعطى المبرر لأعمال المقاومة والمقاطعة، بما في ذلك جهود المجتمع المدني الدولية لمحاسبة إسرائيل، والتي تماثل ما جرى مع نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، ولعبت دوراً حيوياً في أن يدرك أنه لا سبيل أمامه إلا احترام القانون.
  • التعبير عن الرفض القاطع والنهائي للإقرار بيهودية الدولة في إسرائيل، سواء لأن مصر -مثل الغالبية الساحقة من دول العالم- ترفض من حيث المبدأ فكرة الدولة الدينية إدراكا لخطورتها، أو لأن إصرار إسرائيل على اعتراف الآخرين بذلك هدفه حرمان أصحاب حقوق مشروعة في الحياة داخل إسرائيل من حقهم في أن يكونوا ملاكا أصليين لوطنهم، وهو ما نرفضه كلية.
  • إيضاح أن التطورات التي جرت في إسرائيل على مدى العقدين الأخيرين، يجعلان حل الدولتين أمر غير واقعى، ويدعو المجتمع الدولي للبدء في مناقشة كيف يمكن منح كل سكان المنطقة المحصورة بين البحر المتوسط ونهر الأردن، بما في ذلك قطاع غزة والضفة الغربية والقدس العربية، حقوق مواطنة كاملة داخل إسرائيل، باعتبار أن هذا هو الموقف القانوني والإنساني والأخلاقي والواقعي الوحيد المتاح في ضوء تمسك المجتمع الإسرائيلي، وقادته برفض الانسحاب الكامل من أراضي الضفة الغربية والقدس العربية، وعدم منح الدولة فلسطينية كامل حقوق السيادة أو أسباب الحياة والبقاء.
  • اتخاذ موقف نشط ومبادر تجاه القضية الفلسطينية في المنظمات الدولية من خلال تبنى، وتأييد قرارات دعم الشعب الفلسطيني، وإدانة ممارسات إسرائيل المخالفة للقانون الدولي ولمبادئ تلك المنظمات.
  • تعديل سياسة مصر تجاه الوضع الداخلي الفلسطيني، الذي قام على دعم السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن ورائها منظمة التحرير الفلسطينية في منافستها الداخلية مع حماس، إلى السعي إلى وضع صيغة جديدة للحركة الوطنية الفلسطينية تناسب المرحلة الجديدة، قادرة على جمع مختلف روافد الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، بتياراته السياسية المختلفة، ومجتمعه المدني وقواه الحية، لتحل محل منظمة التحرير التي نشأت في زمن المقاومة في الستينات، ثم السلطة الوطنية التي تأسست في زمن أوسلو للتحضير لبناء الدولة.
  • تبني موقف منفتح تجاه قطاع غزة وتسهيل اتصاله بالعالم الخارجي للأفراد والبضائع، وتجاهل طلبات إسرائيل للتضييق على القطاع، باعتبار ذلك واجبا أخلاقيا وإنسانيا على مصر، كما أنه يساعد على إزالة أي شوائب في علاقات مصر بأبناء القطاع، ومنع تحوله إلى مصدر لأي تهديد أمنى على مصر.
  • إعادة إثارة موضوع البرنامج النووي الإسرائيلي، وتوجيه جهد متواصل للضغط من أجل انضمام إسرائيل إلى معاهدة منع الانتشار النووي، وإخضاع منشآتها النووية للرقابة، واعتبار أن هذا البرنامج لا بد أن يكون في مقدمة أي نقاش حول الحد من أسلحة الدمار الشامل في المنطقة.
  • توفير غطاء دبلوماسي مناسب لجهود محاسبة إسرائيل، والتحقيق في ممارساتها غير القانونية ومع المتهمين بالتورط فيها في آليات العدالة الدولية قانونيا وجنائيا، خاصة في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
  • إعطاء أولوية للتفاعل النشط مع الشخصيات ومنظمات المجتمع المدني الإسرائيلية، واليهودية المعارضة للسياسات الإسرائيلية الحالية، خاصة في إسرائيل والولايات المتحدة.
  • المشاركة في وتشجيع الحملات الدولية التي تستهدف دعم الشعب الفلسطيني اقتصاديا واجتماعيا، والحفاظ على تراثه الثقافي والإنساني والتاريخي وترسيخ هويته الوطنية، والاستفادة منها في الضغط على إسرائيل وبناء قوة دفع وراء جهود حل قضية الشعب الفلسطيني.

تحول كهذا في سياسة مصر، رغم ما له من فوائد على مكانتها ومصالحها، وعلى العالم العربي والمنطقة، لن يأتي بسهولة بطبيعة الحال، لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بها مصر، لأنه سيكون ضربة كبيرة لمشروع اليمين الإسرائيلي الحاكم وحلفائه في الولايات المتحدة، كما سيسبب قلقا كبيرا لمؤسسات الأمن القومي الإسرائيلي، بعد أن أقاموا حساباتهم طوال أربعة عقود على أن مصر لن تقف عند الوفاء بالتزاماتها بمعاهدة السلام، وإنما ستحرص أيضا على عدم الدخول في أي مواجهات مع إسرائيل، حتى لو كانت دبلوماسية، أملا في إحياء فرص التسوية السلمية، وتجنبا لتبعات غضب إسرائيل بما تملكه من نفوذ سياسي واقتصادي عالميا. لهذا سيكون على مصر إدارة هذه العملية بطريقة مدروسة ومتدرجة، وأن يتم الأخذ بكل من مفردات السياسة الجديدة التي أشرنا إليها حسب الظروف، والفرص، لتكون منطقية ومبررة في أنظار المتابعين.

لكن علينا أن نتذكر أن هذا التحول سيكون أيضا محل ترحيب من جانب الدول التي تشعر بقلق -معلن أو خفي- من التحولات التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي، والمنعكس في سياستها المتطرفة في المنطقة وتباعد فرص التسوية، إلا أن التقارب بين إسرائيل والدول العربية يجعلها غير قادرة على اتخاذ مواقف أكثر صرامة من سياسات إسرائيل. كما أنه سيكون محل تفهم من جانب الأطراف الإسرائيلية، التي لا زالت تسعى لتسوية سياسية، وكذلك قوى مؤثرة داخل الولايات المتحدة في مقدمتها القطاع الأكبر من الحزب الديموقراطي ومن اليهود الأمريكيين، وغالبية المهتمين بالمنطقة في وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث. بل أنه لا يمكن استبعاد أن يكون عدد ونفوذ من سيسعدهم تغير موقف مصر، واستعادتها زمام المبادرة الاستراتيجية في المنطقة أكثر ممن سيغضبهم هذا التحول.

***

وأخيرا، فإن هذا التحول في سياسة مصر سيحدث إن عاجلاً أو آجلاً، ذلك لأن ضغط استمرار الأوضاع الحالية على مصالح مصر، ومكانتها وعلى العالم العربي لم يعد يمكن تحمله. والواقع أن التداعي السريع للأحداث يزيد من الإلحاح الأمريكي لا يأتي التحول المنشود متأخرا، بعد أن تضيع الفرصة الحالية، وتتعاظم الخسائر غير القابلة للإصلاح. وليس من المبالغة القول، إن أي سياسة خارجية مصرية مسئولة لا بد وأن يكون تفكيرها مشغولا بالتحضير لمثل هذا التحول، وإلا كان هناك تقصير وإهمال جسيم لا يمكن تصوره بعد أن أصبح أمامنا اختيار واضح: إما أن نبقى في موقف الدفاع في وجه التوسع الاستراتيجي الإسرائيلي، أو أن نسعى إلى أخذ زمام المبادرة، وندفع إسرائيل إلى موقف الدفاع والتراجع، حتى تستعيد مصر مكانتها وتحفظ مصالحها، وتصل المنطقة إلى وضع أكثر عدالة واستقرارا، يحقق للعالم العربي مصالحه وحقوقه، وينهي عقود طويلة من الاختلال والمظالم.

أيمن زين الدين قانوني ودبلوماسي سابق