ربما كانت ستشهد السياسة التركية الخارجية بعضًا من التغيير حال فوز المرشح الخاسر لانتخابات رئاسة البلاد كليجدار أوغلو، الذي ارتكز في حملته على إعلان نيته طرد المهاجرين إلى بلادهم، بيد أن وصول رجب طيب أردوغان، وقنصه ولاية ثالثة، تمدد بقائه في السلطة 5 سنوات إضافية، لن يضفي جديدًا يذكر سوى مزيدًا من محاولات التقارب التركية نحو دول الخليج ومصر، اتساقًا مع سياسة “تصفير المشكلات” التي اتبعها أردوغان في الفترة الأخيرة، ويبدو أنه ملتزم بالحفاظ عليها. خاصة مع ما يمثله هذا الفوز من كونه تصريحًا شعبيًا بالاستمرار في برنامجه، وإن كانت نسبة الرفض التي تقترب من 48% من الناخبين الأتراك، تمثل إنذار خطر بشأن حدوث انشقاق في الشارع التركي.

حصل أردوغان في جولة الإعادة على 52.14% من الأصوات مقابل 47.86% لكليجدار أوغلو، وسارع قادة الدول المختلفة إلى تقديم التهنئة له، والتأكيد على الرغبة في التعاون المشترك مع بلاده، بينما أعلنت الرئاسة المصرية عن اتفاق أردوغان ونظيره عبدالفتاح السيسي، الاثنين في أعقاب تأكيد فوز الأول بفترة رئاسة جديدة، عن البدء الفوري في رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

أردوغان يحتفل بفوزه مع أنصاره (وكالات)
أردوغان يحتفل بفوزه مع أنصاره (وكالات)

اقرأ أيضًا: الحقوق السياسية والمدنية في الشرق الأوسط منذ 2011: دون مستواها أيام مبارك.. تركيا واليمن والبحرين الأكثر تراجعا.. سوريا الأسوأ عالميا

برجماتية أردوغان

اعتمد أردوغان بقوة على ملف السياسة الخارجية؛ لتعويض القصور في الأوضاع الداخلية، وخاصة فيما يتعلق بالحالة الاقتصادية ووضع العملة وتأثير التضخم، في ظل مواجهة شرسة مع المعارضة. ولقد أتت تلك الاستراتيجية ثمارها، واستطاع الحفاظ على مقعده في السلطة، باعتماده على البراجماتية البحتة في تحقيق طموحاته.

إذ لم ينعزل عن سياسة “تصفير الأزمات” التي اتبعتها دول المنطقة، بهدف تجنب العزلة والحفاظ على مقعد تركيا كلاعب إقليمي مؤثر، وساهمت إعادة هندسة أردوغان سياسته مع دول الشرق الأوسط بالدفع بعلاقات بلاده الخارجية قدمًا، وكذلك دفعت به إلى سدة الحكم مجددًا.

تركيا ومصر:

قطعت مصر وتركيا شوطًا كبيرًا من جولات التفاوض التمهيدية؛ لاستعادة العلاقات بين الجانبين، تنازل خلالها أردوغان عن ورقة الأيدولوجية وملف الإسلاميين، حتى وصل الجانبان إلى لقاء تاريخي بين الرئيسين التركي والمصري برعاية أمير قطر تميم بن حمد خلال الاحتفال بفعاليات كأس العالم الماضية، ومن ثم أخذت العلاقات شكلًا من التطور المتزايد.

وفي أعقاب إعلان فوزه بانتخابات بلاده، بعث الرئيس السيسي رسالة تهنئة لأردوغان، قبل أن تعلن الرئاسة المصرية عن رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

عمر رأفت
عمر رأفت

يقول الباحث في الشأن التركي، عمر رأفت، إنه الآن يمكن الحديث بجدية عن تحسن كبير للغاية في العلاقات الثنائية بين مصر وتركيا. فيما يتوقع أن تميل تركيا في السنوات الخمس المقبلة إلى مزيد من تحسين علاقاتها الخارجية مع مصر، في إطار استكمالها سياسة “تصفير المشكلات” وإبداء مصلحة تركيا أولًا في ظل معاناتها الاقتصادية.

وهو ما يتفق معه الباحث في العلاقات الدولية، محمد نبيل، الذي يشير إلى أن الزلزال الأخير الذي شهدته تركيا في فبراير/ شباط 2023، مثّل أحد مظاهر التقارب الجدية بين البلدين، ومن ثم فإن هناك قناعة من الجانبين التركي والمصري بأهمية استئناف العلاقات الثنائية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الصعبة التي تمران بها.

اقرأ أيضًا: آخر سفير مصري بتركيا: احتمالات النصر أو الهزيمة متقاربة بين أردوغان وأوغلو.. أيا كانت النتيجة فالعلاقات مع القاهرة ستكون أفضل

محمد نبيل
محمد نبيل

يرى “نبيل” أن تركيا بحاجة متزايدة لمصر استثماريًا كما هو الوضع بالنسبة لمصر، ولكن أي خطوة في اتجاه إصلاح العلاقات سواء سياسًيا أو اقتصاديًا، تظل مرهونة بمدى قابلية تركيا للاستجابة للمطالب المصرية حول ملفات محددة، أبرزها تواجدها العسكري في ليبيا، وتفاهم الجانبين فيما يتعلق بمنطقة شرق البحر المتوسط، وكذلك الاستجابة للمطالب المصرية بشأن المعارضة المصرية في الخارج.

أسماء الصفتي
أسماء الصفتي

الملف الخليجي وليبيا:

أسماء الصفتي، المدرس المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تميل أيضًا إلى الاعتقاد بأن تستمر أنقرة في مسار المصالحة، والانفتاح في سياستها الخارجية، وخاصة في علاقاتها مع الدول الخليجية، خاصة الإمارات والسعودية، لما في ذلك من تأثير على الملف الليبي، وما يحمله الأمر من فرص استثمارية واقتصادية تحتاجها تركيا حاليًا.

فتركيا -كما تشير “الصفتي”- في حاجة إلى فتح قنوات جديدة للحوار فيما بينها وبين الحكومة القائمة في شرق ليبيا، خاصة مع خروج فتحي باشا آغا -الحليف الأقرب لأنقرة سابقًا- من الساحة السياسية الليبية، وقرار محكمة استئناف طرابلس في يناير/ كانون الثاني الماضي، بإيقاف تنفيذ مذكرة التفاهم الليبية التركية حول النفط والغاز.

ويرى الباحث عمر رأفت، أن أردوغان سيمضي في مسار تحسين علاقاته مع السعودية والإمارات، هذا لأنه على علم بأن الدولتين قادرتان على إنقاذ اقتصاده المنهار، وعملته المترنحة، وذلك يتبدى في تصريحاته التي أكد فيها أن بلدان الخليج هي دول شقيقة لتركيا، كما تعهد بنقل العلاقات معها إلى نقطة متقدمة أكثر عقب الانتخابات الرئاسية في بلاده.

سوريا:

تعتبر سوريا محورًا رئيسيًا في السياسة الخارجية التركية، لارتباطها بالعديد من الأطراف، من حيث علاقة تركيا بروسيا والولايات المتحدة وإيران والعالم العربي، وكذلك موقفها من الأكراد.

ومن الملحوظ، أن الرئيس السوري بشار الأسد لم يتقدم بالتهنئة لأردوغان على فوزه بالانتخابات، على الرغم من أن البلدين في مسار التطبيع في إطار المفاوضات الرباعية، وهو أمر يعكس عمق الخلافات.

ويظل ملف لاجئي سوريا، الذين يقدر عددهم بنحو 3.5 مليون لاجئ، والذي حاولت المعارضة اللعب بورقته بقوة خلال الانتخابات الأخيرة، من القضايا الشائكة التي يعمل أردوغان على حلها في ظل ما تعانيه تركيا من ضغوط اقتصادية.

هنا، يرى الباحث عمر رأفت، أن الملف السوري يعد هو الأصعب بالنسبة للرئيس التركي، وهو يرجح أن تكون عودة اللاجئين السوريين أولوية لدى أردوغان خلال السنوات المقبلة، إلا أن دمشق في طريق حل هذا الملف وعودة العلاقات مع تركيا، حددت شروطًا منها انسحاب القوات التركية بالكامل. وهو أمر من غير المرجح دون سحق إدارة الحكم الذاتي الفعلية في الشمال بقيادة الجماعات الكردية، التي تعتبرها أنقرة عناصر إرهابية، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تعهد أردوغان بمكافحة الإرهاب بحزم.

الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والسوري بشار الأسد (وكالات)
الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والسوري بشار الأسد (وكالات)

تركيا وإيران

يرى الباحث في العلوم السياسية، محمد نبيل، أن العلاقات الإيرانية التركية محكومة سياسيًا بتجاذبات المشهد السوري. وقد حافظت تركيا منذ اشتعال الأزمة السورية على تواصل سياسي مستمر مع طهران، يضمن لها توازن القوى التركي في الشمال السوري، وكذلك لضمان وجودها السياسي في أي عملية سياسية مرتقبة في سوريا.

ويُنسب للتنسيق التركي الإيراني على مدار السنوات الماضية، تسهيل عملية التقارب التركي الأخير مع الحكومة السورية، وقد سبق هذا التنسيق قمم جمعت قادة إيران وتركيا في تركيا وروسيا.

إسرائيل

يرى الباحث محمد نبيل، أنه للحكم على العلاقات التركية الإسرائيلية، يجب التفريق بين منظورين؛ الأول رغبة أردوغان في إظهار تركيا ذات الخطاب الإسلامي الرافض للاحتلال، راعية للقضية الفلسطينية، والثاني رغبة أردوغان وحاجة بلاده لإسرائيل اقتصاديًا. إذ أن تركيا، تربطها بإسرائيل علاقات مميزة في الجانب الاقتصادي، بحجم تبادل تجاري يتخطى حاجز 10 مليارات دولار.

ومن ثم، فإن فوز أردوغان بولاية رئاسية ثانية لن يقلص حجم التعاملات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية بين بلاده وإسرائيل، التي تتلاقى مع تركيا في مصالح عديدة متبادلة.