منذ حل المجالس المحلية في أعقاب ثورة 25 يناير بشهور، يبقى الوضع كما هو عليه لتظل مصر بدون مجالس محلية منتخبة، وهو ما يرجعنا إلى نظرية “البيضة أولا أم الفرخة”، بين القانون والانتخابات، حيث يحتاج إجراء انتخاب تلك المجالس إلى قانون جديد يتواءم مع نصوص دستور 2014، يصدر عن مجلس النواب الذي أصدر مئات القوانين الأخرى في غمضة عين وبدون مناقشة موضوعية وسط الرأي العام، وبعضها صدر بدون حاجة حقيقية له، بينما يتعطل هذا القانون لأسباب غير معروفة وغير مقنعة.

وقد جاء حكم محكمة القضاء الإداري الصادر في يوليو 2011 مؤكدًا على عدد من المبادئ التي انتهكت في انتخاب هذه المجالس التي أجريت عام 2008 بالتزوير والتدخلات المتعمدة من جانب الحزب الوطني والأجهزة الأمنية لتمرير انتخاب مرشحيه وشطب مرشحي المعارضة، مشيرًا إلى “أن هذه المجالس قد أخلت إخلالًا جسيمًا بمصلحة هذا الوطن وقصرت فى أداء مهامها وتقاعست عن ممارسة الاختصاصات التي حددها لها المشرع فى القانون رقم 43 لسنة 1979″، معتبرًا أن “هذه المجالس المحلية القائمة قد فقدت أصل شرعية بقائها فى نظام الحكم كأثر مباشر لنجاح ثورة 25 يناير، وكنتيجة حتمية لتعطيل العمل بالدستور السابق (قاصدًا دستور 1971) الذي كان ينص عليها ويجعلها من أجهزة نظام الحكم وجزءًا من السلطة التنفيذية فيه، وكانت أحد أدواته في تنفيذ سياسته وأفكاره، كما أنها لم تقم بالاختصاصات المحددة لها في القانون، وبذلك صار وجودها لا سند له من الدستور ولا القانون ولا فى ضمير هذا الشعب وثورته الناجحة”.

تعد تلك المجالس هي البرلمان المحلي والممثل الحقيقي للمواطنين في وحداتهم الجغرافية، نظرًا لعلاقتهم الوثيقة بها، وهي تمثلهم في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالجانب المحلي في شأن الخدمات الاقتصادية والاجتماعية، وتشمل المسكن والمياه والصحة والصرف الصحي وتراخيص المحال والنقل والطرق، والمساهمة في حل مشاكل المواطنين، الذين لا يجدون وسيطًا منتخبًا يعبر عنهم، وتقوم في الوقت نفسه بمهمة الرقابة على المجالس المحلية التنفيذية، ممثلةً في المحافظ ورؤساء المدن والأحياء وموظفيهم.

فهل هناك نية مسبقة لتجميد تلك المجالس، وهل يوجد قرار بهذا المضمون لدى أجهزة الدولة؟ خاصة أن هذه الانتخابات هي الاستحقاق الانتخابي الوحيد الذي لم يجر منذ 2013 حتى الآن، بالرغم من كل المطالب المتواصلة بإجرائه حزبيًا وشعبيًا.

طوال السنوات العشر الماضية كان مشروع القانون الخاص بالمحليات ضيفًا دائمًا على المواقع الصحفية، واللجان البرلمانية، وبشكل خاص لجنة الإدارة المحلية التي بشرتنا أكثر من مرة بقرب الانتهاء من مناقشته وخروجه سالمًا معافى من أدراج مجلس النواب، وذهبت الوعود أدراج الرياح، ولا نعرف ما الذي يؤخر إصدار هذا القانون حتى الآن، وهو استحقاق دستوري بامتياز، حيث ضم الدستور 9 مواد (175، 183) وأعطى عددًا من الصلاحيات المهمة لهذه المجالس، منها أن يكون للوحدات المحلية موازنات مالية مستقلة. وهل يمكن أن تكون تلك الصلاحيات أحد الأسباب لتعطيلها.

ويلاحظ تغيير مسمى المجالس المنتخبة بهذه النصوص لتصبح “المجالس المحلية” بدلًا عن “المجالس الشعبية المحلية”، كما أن مستوى “المركز” كوحدة إدارية لم يذكر فيه، وإن أجاز الدستور إنشاء وحدات إدارية وفق ما تقتضيه المصلحة العامة، بينما ذكر “المركز” في موضع آخر عند الاقتران بالمجالس المحلية.

من جهة أخرى، فتح الدستور الباب لإعطاء هذه المجالس حق توجيه الاستجوابات وهو الحق الذي ألغي في ظل المجالس السابقة، كما أنه ترك الباب بخصوص إمكانية انتخاب المحافظين إلى جانب تعيينهم حسب نص القانون وحظر إلغاء هذه المجالس بقرار إداري، والتأكيد على أن قرارات المجلس المحلي الصادرة في حدود اختصاصه نهائية كقاعدة عامة.

ودور هذه المجالس في غاية الأهمية في إطار تطبيق مبدأ اللامركزية الإدارية، ودورها يقوم  بالأساس على متابعة تنفيذ خطة التنمية، ومراقبة أوجه النشاط المختلفة، وممارسة أدوات الرقابة على الأجهزة التنفيذية.

كما أن عدم انتخاب هذه المجالس يمثل تعطيلًا لما تضمنته المادة 180 من الدستور بضرورة انتخاب كل وحدة محلية مجلسًا بالاقتراع العام السرى المباشر، لمدة أربع سنوات، وهو الهيئة الوحيدة التي أبقي فيها على تمثيل العمال والفلاحين، والتي تم إلغاؤها في انتخابات مجلسي النواب والشيوخ، بالإضافة إلى تمثيل الشباب والمرأة والمسيحيين.

ورغم إجراء انتخابات مجلس النواب في 2015، و2020 وانتخابات مجلس الشيوخ عام 2020، وصدر قانون كامل لذلك المجلس الأخير، ومع ذلك تعطل القانون الخاص بالمحليات في أدراج البرلمان حتى الآن!!

وإعمالًا لهذا الحكم سابق الإشارة إليه كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقتها قد أصدر مرسومًا بقانون رقم 116 لسنة 2011 بحل المجالس الشعبية المحلية، وتشكيل مجالس مؤقتة في المحافظات، وأن يضم تشكيلها ممثلين من أعضاء الهيئات القضائية، وهيئة التدريس بالجامعات والشخصيات العامة والمجتمع الأهلي، وتتولى هذه المجالس جميع اختصاصات جميع المجالس المحالية في دائرة المحافظة، وأقر باستمرار هذه المجالس لمدة عام أو انتخاب مجالس شعبية جديدة أيهما أقرب. فهل لا تزال تلك المجالس موجودة بالفعل!!

وبالرغم من مرور سنوات طويلة على هذا المرسوم لم يصدر القانون، وبالتالي لم تجر انتخابات المجالس المحلية، ما يفقد المجتمع وسيط تمثيلي بين المواطنين وأجهزة الإدارة، ويجهض خلق كوادر جديدة في مجتمعها المحلي تستطيع النهوض بها، ويغلق نافذة مهمة للمشاركة المجتمعية من أجل تحقيق التنمية، والرقابة على المجالس التنفيذية المعينة، كما أن وجود تلك المجالس يمثل تأكيدًا على الحق في المشاركة وتوزيع الأعباء والموارد العامة بعدالة بين المواطنين والمحافظات المختلفة.

ومن شأن إصدار هذا القانون تخفيف العبء على أعضاء مجلس النواب في مجال الخدمات المحلية، ويحيلها لتلك المجالس الأقرب لتمثيل هؤلاء المواطنين جغرافيا، حيث تعتبر الإدارة المحلية بجناحيها المعين والمنتخب الأكثر دراية بتفاصيل مشكلات واحتياجات تلك المجتمعات، ومن شأن ذلك أن يساعد على تطوير الوحدات المحلية بدءًا من مستوى المحافظة مرورًا بمستوى المراكز والمدن والقرى، ويدعم هذه الخدمات.

كما تعطي هذه الانتخابات مساحة للقوى السياسية والحزبية للتنافس السياسي والعام، بما يعطي قوة لهذه المؤسسات السياسية في تمثيل المواطنين وتحقيق رغباتهم.

من جهة أخرى، تؤكد الكثير من الدراسات أنه لا يمكن تطبيق اللا مركزية في ظل رؤية أحادية لتطوير قانون الإدارة المحلية فقط، بل يجب أن يمتد الأمر لجملة من التعديلات التي ترتبط بنظام الإدارة المحلية، ومن أهمها قوانين الموازنة العامة للدولة، والخدمة المدنية، وتنظيم التعاقدات الحكومية، والمجتمعات العمرانية الجديدة.

لذلك ينبغي ضرورة الإسراع في إصدار قانون جديد يُفعل بنود الدستور الخاصة بالتحول نحو اللا مركزية الإدارية والمالية والاقتصادية، ويحقق الترابط والتكامل بين النظامين الإداري والمحلي.

كما نؤكد أيضًا على استقلال المجالس المحلية إداريًا وماليًا عن السلطة المركزية، وإعطائها قدر من الصلاحيات في تسيير شؤونها المحلية، سعيًا لبناء كوادر محلية قادرة على تطوير العمل في هذه المؤسسات.

ويبنغي التأكيد على أن التأخر في إصدار هذا القانون غير مبرر، ويؤدي إلى تأكيد قناعة الكثيرين بأن الدولة غير راغبة في إجراء انتخابات هذه المجالس بسبب مخاوف وهمية من أن تؤدي هذه المجالس إلى إحداث نوع من الخلافات بين العائلات الكبرى في المحافظات بما يثير القبليات فيها، أو إمكانية أن تقلل هذه المجالس من قدرة المستوى المركزي على إدارة السياسات العامة للدولة في المحافظات المختلفة، وإضعاف صلاحيات الإدارة المركزية.

ويتناسي هؤلاء أن ذلك النهج يتعارض مع نصوص دستور 2014 التي أكدت على دور هذه المجالس، والتي يمكن أن تكون داعمة في تحقيق التنمية، ورقيبًا على ممارسات الجهاز الإداري المحلي بما يتضمنه من التأكيد على قيم الشفافية والعدالة ومناهضة الفساد.