ارتبط ظهور مفهوم الدولة بمعناه الحديث بنظرية العقد الاجتماعي في مقابل نظرية الحق الطبيعي، حيث تفترض الأطروحة الأولى انتقال المجتمعات المتحضرة من “حالة الطبيعة”، حسب الفرضيات الفلسفية الواصفة لها، إلى “حالة المجتمع” أو “الثقافة” أو “الدولة”، أي التوقف عن الاحتكام إلى قانون “الحق الطبيعي”، والانتقال إلى ممارسة الحكم على أساس الإرادة العامة أو إرادة الكل.

ومع تطور نظم الحكم وفلسفة الوجود السياسي للدولة ظهرت مفاهيم جديدة، بدى أنها راسخة، لشكل ومقومات الدولة الحديثة مثل المؤسساتية، الفصل بين السلطات، إعمال القانون، إمكانية التبادل السلمي للسلطة وغيرها، هذا بالإضافة إلى حزمة القيم والمحددات التي جاءت بها نظرية العقد الاجتماعي الواصفة لعملية الانتقال تلك، وهي قيم المواطنة والمساواة والحرية واحترام حقوق الإنسان… إلخ.

ولذلك فإن السلطة السياسية للدول التي يمكن وصفها بالحديثة، ليست سلطة مطلقة، بل هي مقيدة بشرط أساسي، وهو استخدامها من أجل خير وأمن واستقرار المجتمع، فإذا غابت تلك الأسس والقيم والمبادئ، تفقد الدولة مقومات وجودها كدولة حديثة رغم امتلاكها من حيث الشكل بعض المقومات التي تجعلنا نضعها في مصاف ذلك النوع من الدول، وهي في الحقيقة من حيث الجوهر تقع في منزلة بين الدولة بمعناها الحداثي وبين ما قبل ظهور الدولة أو ما يمكن أن نطلق عليه “شبه الدولة”.

في الدولة بمفهومها الحديث الذي تبلور بدءًا من منتصف القرن السادس عشر الميلادي، يتنازل المواطنون الذين يكونون الشعب بكافة مكوناته العرقية والدينية والطبقية بملء إرادتهم عن جزء من حريتهم التي يتمتعون بها لصالح سلطة الحاكم التي تنظم وتدير وتشرف على أمن ونظام وحياة الناس في تلك الدولة وتعمل على تطبيق قوانين الدولة علي جميع مواطنيها، وقد أعطى المواطنون بمقتضى العقد الاجتماعي الموقع بينهم وبين الحاكم حق احتكار استخدام القوة لتطبيق وإنفاذ القانون ولتوفير الأمن والأمان للمواطنين، وأصبحت الدولة بمقتضي ذلك الاتفاق المسئول الوحيد الذي يحتكر استخدام العنف والذي يطلق عليه في هذه الحالة العنف الشرعي وأحيانا العنف الرسمي المشرعن بالقانون.

وعلى الرغم من منطقية الفكرة في حينه وعدم توافر بدائل أخرى أكثر قدرة على تحقيق الاستقرار وحماية المواطنين وضبط العلاقات فيما بينهم كمواطنين من جهة ومع الحاكم من جهة أخرى، إلا أنها كفرضية لم تصمد طويلًا وسرعان ما أصابها العطب والتغيير الكمي، الطفيف في البداية، والذي تحول مع الوقت إلى تغييرات كيفية باتت مرئية وملموسة بشكل واضح، كما سنرى فيما بعد…

الآن وبعد مرور أكثر من ٤ قرون على نشأة الدولة المدنية بمفهومها الحداثي، برزت عدة إشكاليات كبرى ربما تجعل طبيعة ودور ووظيفة الدولة الديموقراطية الحديثة يتغير كيفيًا وليس مجرد تغييرات في الشكل والأداء، الأمر الذي يستحق التأمل والتفكير، وقد رصدها كاتب تلك السطور في المحاور الأربعة الآتية:

  • التماهي شبه الكامل بين المؤسسات المحتكرة لاستخدام العنف الشرعي في الدولة، والمفترض أنها ترعى المصالح العليا للوطن ولجميع المواطنين، مع السلطات الحاكمة والمفترض أنها تمثل عنصرًا متغيرًا مع الوقت في الدول المختلفة.
  • ارتبط المحور الأول باتساع المساحة والحيز الذي تشغله تلك المؤسسات وأصبحت شريكًا رئيسيًا في صنع السياسات واتخاذ القرار في الدولة، على غير ما ينص عليه الدستور والقوانين في الدول المختلفة.
  • التحول التدريجي من الاستخدام الشرعي للقوة لتطبيق القانون والحفاظ على النظام العام وحماية الدولة من كافة أشكال العدوان والتدخل الخارجي، إلى الاستخدام المفرط للقسوة في مواجهة مواطني الدولة لصالح السلطة الحاكمة، حتى لو كان ذلك خارج إطار القانون والأعراف الإنسانية.
  • كنتيجة طبيعية لما سبق أصبح لتلك المؤسسات وضع خاص ومتميز داخل الدولة مكّنها من الحصول على قدر كبير من الثروة، قدر صنع اختلالات كبرى لكونه لا يقوم على أساس واضح من ملكية تلك الثروات أو عناصرها الإنتاجية.

نعود ونذكر بالفرق المفاهيمي الكبير بين احتكار الدولة لآلة العنف الوحيدة بالبلاد، وهي الجيش والبوليس وأجهزتهما المساعدة حسب السائد في كل دولة علي حد، وأنها هي الجهة الوحيدة المنوط بها استخدام العنف الرسمي باعتبارها الجهة الوحيدة المطلقة والتي لها صفة الدوام والثبات، وبين استخدام السلطة الحاكمة، والتي تعتبر عنصر متغير، لآلة العنف لخدمة مصالح الحاكم أو للدفاع عن سياساته التي قد تتعارض مع الدستور والقانون ودون مراعاة لمصالح المواطنين أو حتي مراعاة المصالح العليا للدولة، وهو ما يعني التماهي الكامل بين الأجهزة الأمنية والشرطية المملوكة للدولة (حكاما ومواطنين)، وبين السلطة الحاكمة المؤقتة حسب قانون كل دولة.

لا يغيب عن أذهاننا أن هناك فرقًا كبيرًا بين احتكار الدولة (العنف) وبين ممارستها إياه من دون ضابط. فالدولة حين تحتكر هذا العنف الممأسس، تكون قد أنجزت واحدة من وظائفها «الطبيعية» وهي تنظيم المجال الاجتماعي وحفظ الأمن الاجتماعي وتجنيب الصراعات الاجتماعية احتمالات المواجهة بين ذوي المصالح المختلفة والإيديولوجيات المتباينة، أما حين تمارسه، وخاصة بغير ضابط شرعي أو قانوني، فهي تغامر بتعريض شرعيتها للتصدع، ومعها الاستقرار والأمن والسلم المدني للانهيار.

طورت الفئات الحاكمة المستبدة، حسب ما جاء بكتاب فرنسيسكو هيربيرث “في العنف” شكلًا جديدًا ومتطرفًا من العنف يمكن وصفه بالقسوة. وبهذا المعيار تمثل القسوة حالة نوعية حتّى بالقياس إلى عنف الحروب. ومثال على ذلك، أنّه في الحرب قد يكتفي الجيش أو القائد المحارب بتدمير دفاعات العدو لتسهيل إلحاق الهزيمة به. أما في حالة القسوة، فلا يكتفي الجيش أو القائد المحارب بهزيمة العدو، بل يتطلّع إلى تدميره وإفنائه، وكثيرًا ما لا يكتفي المستبدّ الجائر باعتقال أو محاكمة المعارضين السياسيين والاكتفاء بسجنهم، وإنّما يوغل في قتلهم والتمثيل بضحاياه وتحطيمهم ذاتيًا. حين تلجأ الدولة إلى ممارسة السلطة القهرية على ذلك النحو، مثلما هو حاصل في أكثر البلاد العربية، فهي بذلك تفصح عن أزمة الشرعية فيها وتكشف عن مقدار ما تعانيه من غياب المشروعية السياسية للسلطة.

إن القوة الشرعية للدولة هي ما يؤسس للدولة مشروعيتها السياسية، أما القهر، ففعل من أفعال العدوان على الشرعية، وهو – لذلك- ينال من المشروعية السياسية للقوة التي تمارسه، وقد يفتح بابًا أمام الانقضاض على الدولة.

وعود على بدء، نعيد طرح السؤال بشكل آخر، هل العلاقة بين الأجهزة الأمنية والشرطية ووظيفتها كآلة عنف شرعية مسموح بها لحماية أمن الدولة وإنفاذ القانون وبين السلطة الحاكمة في الدولة بمفهومها الحديث، هل أصبحت علاقة تطابق في المصالح والأهداف في مواجهة طرف ثالث وهو المواطن في هذه الحالة؟

وهل أدى تطور الدولة الحديثة إلى حدوث تغيير نوعي في دور الدولة ووظيفتها وأطرافها الأساسية المكونة بل وفي طبيعتها ذاتها؟

أسئلة مشروعة وطرحها الآن يكتسب قدرا معتبرا من الأهمية، بل والإلحاح.

هناك أيضًا سؤال حول التغير الكبير في حجم وطبيعة دور آلة العنف الشرعية بالدولة، أدى إليه التطور الطبيعي لشكل ودور الدولة وطريقة ممارستها لوظائفها، نستطيع لمسه في العديد من دول العالم، وخاصة تلك الدول الأكثر استبدادًا والتي بها نظم حكم سلطوية، ألا وهو مساحة الاستقلال التي باتت تتمتع بها المؤسسات الأمنية بما جعلها أصبحت في كثير من الأحيان تتمتع بسلطات كبيرة في رسم السياسات بالدولة وفرض سياسات أمنية تنفرد بوضعها وتطبيقها حتى لو تناقضت في بعض الأحيان مع الحكام أنفسهم، أو كحد أدنى حتي لو هناك تباين كبير في الرؤى بينهم، فالمساحة التي تشغلها الأجهزة التي تحتكر استخدام العنف المشرعن باتت من الاتساع بما يجعلها في كثير من الأحيان طرفًا مستقلًا بذاته أو بقراءة أدق في طريقها في الكثير من الدول إلى ذلك، وهو أيضًا الأمر الذي يستحق تحليله بعناية فائقة ودراسة تطور مساراته وأثرها على شكل وطبيعة الدولة الحديثة.

وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن المؤسسات التي تحتكر استخدام القوة والعنف الشرعي بالدولة والمخولة بتطبيق القانون وتنفيذ أحكامه ورعاية مصالح الوطن والمواطنين، وبما لها من نفوذ وسلطة، راكمها طبيعة دورها ووظيفتها، والتصاقها بالطبقات الحاكمة، سواء السياسية أو المالكة لسلطة المال والاقتصاد، قد أصبحت في معظم أنحاء العالم تشكل جماعة قائمة بذاتها، لها مصالحها هي الأخرى التي لا يصعب عليها الدفاع عنها وحمايتها، بحكم كونها المحتكر الأول وربما الوحيد لاستخدام القوة ” الشرعية ” في الدولة!!!!

د. مجدي عبد الحميد/ كاتب ومحلل سياسي