دروس الماضي في تركيا بعضها مشرق وبعضها أليم، فمنذ تأسيس جمهوريتها العلمانية على يد مصطفي كمال أتاتورك قبل 100 عام، والبلاد تشهد تحولات عميقة قادتها أطراف ثلاثة، هي الجيش القوي، والأحزاب العلمانية، والتيارات الدينية والمحافظة.

صحيح أن بعض هذه التحولات كان دمويا قاسيا، وبعضها الآخر كان سلميا حتى استقرت على مشهد الانتخابات الديمقراطية الأخيرة، التي فاز فيها رجب طيب أردوغان، وحصل على حوالي 52% من أصوات الناخبين، في مقابل 48% لمنافسه كمال كليجدار أوغلو.

بدأت رحلة الجمهورية التركية في عام 1923، أي بعد عام من إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة العثمانية، حيث أسس الرجل منظومة قيم جديدة فرضها على الشعب بإجراءات من أعلى، وفي ظل نظام سياسي قائم على الحزب الواحد والقائد الواحد.

وقد وضع أتاتورك دستورا جديدا للبلاد في عام 1924، أعطى لنفسه الحق في تبوء منصب رئاسة الجمهورية ثلاث فترات أخرى (1927، 1931، 1935)، وذلك بعد أن اُختير من قبل “مجلس الأمة التركي الكبير” كرئيس في أكتوبر 1923.

منذ ذلك الوقت تبلور مشروع أتاتورك الثقافي والسياسي، والذي قام على الاستقلال الوطني ورفض كل صور الهيمنة والتدخل الأجنبي في القرار التركي، كما أطلق برنامجا صارما للإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية؛ بهدف بناء دولة قومية حديثة  وعلمانية، فألغى الخلافة العثمانية، ونفى الأسرة العثمانية خارج البلاد، وسيطرت الدولة على كل المدارس، وألغت التعليم الديني وتطبيق الشريعة، وحظرت تعدد الزوجات، كما منعت النساء من ارتداء الحجاب، وجعلت الآذان باللغة التركية، ولكن في الوقت نفسه أعطت الجمهورية الناشئة المرأة حقوقًا متساوية بما في ذلك الحق في التصويت، وشغل المناصب الحكومية، كما نفذ سياسة التأميم في الاقتصاد، وسياسة التتريك ضد الأقليات العرقية، وغير أسماء المدن والأماكن إلى اللغة التركية مثل، القسطنطينية التي أصبحت إسطنبول وسميرنا أصبحت إزمير وأنجورا أصبحت أنقرة.

رفع أتاتورك شعار “السهام الستة” والذي طرح فيه أبرز النقاط التي تضمنها برنامجه، وهي تذكرنا بالمبادئ الستة التي رفعتها ثورة يوليو 1952 في مصر، وعمق توجهاته العلمانية في عام 1927، حين قرر حذف كل النصوص الدينية من المادة السادسة والعشرين من دستور 1924،  التي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة، بالإضافة إلى نزع كلمة الله من اليمين الجمهوري، وأيضا من برنامج حزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه وظل حزبا وحيدا على الساحة التركية حتى عام 1946.

المؤكد، أن بدايات التجربة العلمانية التركية كانت إقصائية، وفرضت نموذجا حداثيا علمانيا يستبعد الدين من المجال العام، وليس فقط المجال السياسي، ولكنها في الوقت نفسه فصلت الدين عن السياسة، وهي قيمة ظلت باقية على مدار 100 عام هي عمر الجمهورية التركية، رغم تغير نظمها الحاكمة.

دخل النظام العلماني عبر ذراعه القوي، أي الجيش في مواجهات خشنة على مدار عقود طويلة مع التيارات المعارضة، وخاصة التي امتلكت مرجعية دينية إسلامية، ورفع شعار الدفاع عن العلمانية ومواجهة تهديد القوى الدينية، صحيح أنه أقصى أيضا قوى ليبرالية ويسارية كثيرة، إلا أن التيارات الدينية والمحافظة كانت هي أساس هذه المواجهات.

ولعل البداية كانت مع رئيس الحكومة “عدنان مندريس” الذي كان في البداية عضوا في حزب كمال  أتاتورك “الشعب الجمهوري” واستقال منه وأسس عام 1946، أول حزب سياسي معارض في تركيا وهو حزب الديمقراطية، وتبنى نهجا ليبراليا متصالحا مع الإسلام، وفاز في الانتخابات التشريعية ونجح في تشكيل الحكومة التي استمرت حتى عام 1960، حتى انقلب الجيش عسكريا عليه، واتهم مندريس (الليبرالي) بالعمل على هدم النظام العلماني، وأعدم في سبتمبر 1960، في واحدة من أكثر التجارب التركية قسوة ودموية.

ثم تكرر تدخل الجيش، وإن كان بصورة أقل حدة في عام 1971، فيما عرف “بانقلاب المذكرة”، والتي أرسل فيها الجيش مذكرة شديدة اللهجة لرئيس الحكومة في ذلك الوقت سليمان ديميريل، يطالبه بوقف الفوضى والعنف والانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد، ما دفع رئيس الحكومة إلى الاستقالة، وتم تشكيل حكومة جديدة رضي عنها الجيش.

وعاد الجيش وتدخل مرة ثالثة في انقلاب 1980، واعتقل عشرات الآلاف من المعارضين، ولكنه اضطر أن يفتح المجال السياسي بصورة أدت لظهور علماني إصلاحي، هو رئيس الوزراء الراحل تورجت أوزال الذي وصل للحكم عام 1983، وبفضله حدثت إصلاحات اقتصادية وسياسية وثقافية عميقة غيرت دون قطيعة من بعض جوانب النظام العلماني، وجعلته أكثر انفتاحا وتقبلا للتنوع السياسي والثقافي في البلاد.

أما التيارات المحافظة والدينية؟، فقد انتقلت من تجاربها الأولى التي كانت تقوم أساسا على العداء للجمهورية العلمانية، وخاصة تجربة حزب النظام الوطني الذي كان طوال الستينيات في عداء مستحكم وعنيف مع النظام العلماني، إلى التطبيع مع جوهر مبادئها.

حدث ذلك مع تجربة حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، والذي اعتبر نفسه حزبا محافظا ديمقراطيا وليس إسلاميا أو دينيا، وأسس لنظام أقرب لعلمانيات أوربية كثيرة مثل، بريطانيا وبعيد عن النموذج الفرنسي، ودعم عودة المظاهر الدينية في المجال العام (رفع الحظر عن الحجاب في المؤسسات الحكومية والبرلمان- الاحتفالات الدينية وغيرها) وليس المجال السياسي كأيديولوجية دينية، كما لم تعد مسوغات وجود الأحزاب المحافظة هي العداء للجمهورية العلمانية، إنما أصبحت صور ومبادئ أتاتورك محل توافق من الجميع.

الجميع في تركيا تغير، فحزب الشعب الجمهوري “حارس العلمانية” الذي حرض الجيش ضد رفيقهم السابق “عدنان مندريس” في خمسينيات القرن الماضي، عاد ورفض محاولة الجيش الفاشلة في الانقلاب على أردوغان في 2016، ولم يستدعه للتدخل في المسار السياسي حتى لو طالب بضرورة احترام الجيش والحفاظ على هيبته، كما أن رئيسه والمرشح الرئاسي الخاسر كمال كليجدار أوغلو قدم اعتذارا عن مواقف حزبه السابقة من المحجبات، وأشار إلى الظلم الذي تعرضن له بالمنع من العمل والدراسة لفترة طويلة.

أما الجيش الذي نفذ ثلاثة انقلابات خشنة بعضها دموي، عاد وفشل جزء محدود منه في تنفيذ انقلاب 2016؛ لأنه استخدم أدوات القرن الماضي في واقع جديد تغير كثيرا، فلا الجيش التركي الحالي هو جيش ستينيات القرن الماضي من حيث انخراطه في السياسة وفق نص دستوري، كان يعطيه هذا الحق ولم يعد موجودا، ولا حزب العدالة والتنمية و”براجماتية” أردوغان هي نفسها عقائدية أربكان، وحزب الرفاه أو هي تشدد حزب السلامة الوطني، كما أن الأحزاب العلمانية نفسها أصبحت قادرة على أن تواجه أردوغان في انتخابات رئاسية دون أن تطلب حماية الجيش، بل وتدخل معه في جوله إعادة ويخسر مرشحها بفارق ضئيل، وتحصل على أغلبية في ثلاث مدن كبري هي: اسطنبول وأزمير وأنقرة.

الجميع في تركيا تغير، واستفاد من خبرة المائة عام الماضية، وهذا لا يعني أن تركيا أصبحت بلا مشاكل ولا أن الاستقطاب العلماني/ الديني اختفى، ولكنه أصبح أساسا بين علمانية ليبرالية متصالحة مع الدين، وتقبل المتدينين وغير المتدينين، وتيار محافظ عرف أن الدين سيظل حاضرا في المجال العام كمنظومة قيم أخلاقية، وثقافية وليس أيديولوجية دينية سياسية تقصي ( أو تكفر) المخالفين، وأن الجيش أصبح مؤسسة حتى لو أثرت في السياسة، ولكنها لا تدخل فيها بشكل مباشر، ولذا علينا ألا نندهش أن تكون الانتخابات الأخيرة نموذجا ناجحا للجميع، بصرف النظر عن اسمي الفائز والخاسر، فقد انتصرت الجمهورية التركية والديمقراطية على السواء رغم التحديات.