ما لاحظناه جميعا، كان أكثر تعليق تردد في محافلنا على انتخابات الرئاسة الأخيرة في تركيا، هو الأمل المختلط بالحسرة في أن يحدث مثل ذلك في مصر، في يوم لا يكون بعيدا.

وبالرغم من أن هذا الشعور يبدو للوهلة الأولى مفهوما ومبررا، فإنه يغفل عددا لا يستهان به من أوجه الاختلاف بين مسار التطور السياسي في مصر، وبين المسار التركي.

بدورها تأتي أسباب المقارنة المفهومة بيننا وبين تركيا من كثير من أوجه الشبه بين الحالتين في الماضي القريب، وفي الحاضر المعقد.

البلدان طرقتا باب الإصلاح والحداثة، أو بمعنى أصح دخلتا عتبته في الحقبة التاريخية عينها، أي منذ الثلث الثاني من القرن 19، ومع أن مصر كانت اسميا تابعة للدولة العثمانية التركية، فإنها نجحت -بفضل محمد علي باشا كما نعلم- في إرساء قدر كبير من الاستقلال الذاتي، وهو ما هيأ لها تطورا سياسيا موازيا، وليس تابعا للدولة المتبوعة اسميا، ومختلفا عن سائر الولايات العثمانية في المشرق العربي والبلقان في الوقت نفسه.

كان أهم وجوه الشبه بين المسارين هو أن دخول عتبات الحداثة، أو بمعنى أصح إدخال رياحها جاء بقرار فوقي من السلطة العليا ،محمد علي في مصر ،والسلطان محمود الثاني في تركيا، وطبق أيضا بسياسات وإجراءات مفروضة من أعلى، وليس في هذا عيبا، ولكنه والحال هذه لم يكن قادرا علي تحريك كل فئات، وقوى المجتمع ككتلة واحدة (أو رئيسية )في مسار التطور، ومن ثم لم تعرف البلدان أية صورة من صور المشاركة المجتمعية في الحكم والسياسة، مما أبقى روح الاستبداد الشرقي (السياسي والاجتماعي والديني والإداري) قوية ومتغلغلة، وهو ما كان سببا في ثاني أوجه الشبه بين البلدين، ونقصد به صراع النخب العسكرية والمدنية مع الاستبداد؛ لتحقيق الإصلاح من خلال المشاركة، ولذا فليست المصادفة التاريخية، وإنما العوامل الموضوعية هي ما يربط بين الثورة العرابية في مصر، وبين ثورة الاتحاد والترقي التي عزلت السلطان عبد العزيز في تركيا، قبل حركة العرابيين بسنوات معدودة.

بالطبع أدى الاحتلال البريطاني لمصر إلى افتراق نهائي بين المسارين المصري والتركي في الحكم والسياسة، ولكن بقي شيء ما ، كان ينتظر الظرف المواتي، وهو تدخل ضباط الجيش في السياسة والحكم، علي غرار ماحدث تاليا في تركيا عام ١٩٠٨، لعزل السلطان عبد الحميد، ثم الحكم الأتاتوركي بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت (البروفات خارج تركيا في ولاياتها القديمة) قد جرت أولًا، في العراق في سلسلة انقلابات بدأها بكر صدقي الضابط العراقي من أصل كردي، الذي كان في الأصل ضابطا عثمانيا، واستمرت حتى صدام حسين، ثم انتقلت الى سوريا.
ومع الفوارق الإيجابية الهائلة بين دوافع وحسابات ضباط يوليو ١٩٥٢؛ للاستيلاء على السلطة في مصر، والتي كانت في بداياتها مشروعا للإحياء الوطني، وبين تلك البروفات في كل من العراق وسوريا، والتي كانت في أغلبها مغامرات شخصية أو صراعات سلطة، ونفوذ ذات بواعث وحسابات طائفية، أو عائلية وأحيانا خارجية… نقول رغم تلك الفوارق فقد كان تأثر ضباط يوليو بضباط تركيا واضحا من طريقين: الأول، هو ارتباطهم الروحي والوطني بالفريق عزيز المصري، أول رئيس لأركان الجيش المصري بعد تمصير قيادته، تطبيقا لمعاهدة ١٩٣٦،  والذي كان ضابطا عثمانيا، وعضوا مؤسسا لجمعية العهد للضباط العرب في الجيش التركي، والثاني، هو إعجابهم بالنهضة القومية وحرب التحرير اللتين قادهما الضابط مصطفى كمال أتاتورك في تركيا الحديثة.
وفيما عدا العلمانية الأتاتوركية المعادية للدين فقد حذا ضباط يوليو حذو نظامه السياسي، ليس من باب التقليد، وإنما من باب تشابه الداء، وبالتالي تشابه الدواء، من وجهة نظرهم، فحظرت الأحزاب، وبقى حزب الرئيس وحده، و طبقت رأسمالية الدولة، أو اشتراكية الدولة في قول آخر، كجناحين لإيديولوجية وطنية (أو قومية) متشددة، وأحيانا فاشية، وذلك قبل أن ينخرط النظام الناصري في تبني المشروع القومي العربي.

ومن أوجه الشبه اللافتة بشدة بين التجربتين، أن عمر نظام الحزب الواحد استغرق في كل منهما نفس الفترة الزمنية تقريبا، فقد بدأ في تركيا عام ١٩٢٣/١٩٢٤ وانتهى عام ١٩٤٦، وبدأ في مصر عام ١٩٥٣ وانتهى عاما ١٩٧٦/١٩٧٧.

وفيما أُجهضت التعددية التركية عدة مرات بالانقلابات العسكرية، فإن التعددية في مصر أثعقمت بتصنيع الانتخابات، وحصار الأحزاب دون تدخل مباشر من العسكريين، ولكن يبقى فارق مهم هو أن الأتراك كانوا يخوضون انتخابات جادة، بين كل انقلاب وانقلاب، الأمر الذي ساعد في ترسيخ الأحزاب، وأكسبها خبرات حكومية وقواعد مجتمعية لم تتوافر قط لأحزابنا المصرية، وهذا الفارق بالغ الأهمية، من حيث أنه يعني توافر البديل أو الرديف المدني الجاهز بالخبرة والثقة الشعبية دائما للحلول محل الضباط في السلطة، وذلك وضع لم تعرفه مصر قط، منذ يوليو ١٩٥٢ .

في ذات الوقت كانت تركيا تشهد باطراد نموا وتوسعا للقطاع الخاص الصناعي، وكذلك في جودة التعليم، و يأتي بعد ذلك كله عملية النضج البطئ، ولكن المستمر للتيار الاسلامي المحافظ هناك ،منذ اعدام عدنان مندريس، ثم إقصاء وسجن نجم الدين أربكان أكثر من مرة، وأخيرا سجن الرئيس الحالي رجب طيب اردوغان نفسه، في أوائل القرن الحالي
ومع ذلك فليست هذه هي كل القصة، ذلك أن العامل الخارجي كان في محصلته الأخيرة داعما بقوة للتحول الديمقراطي في النموذج التركي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال التهديد الشيوعي، الذي كان يضمن تسامح الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مع الانقلابات العسكرية ، فكانت معايير كوبنهاجن التسع الشهيرة، التي جعلها الاتحاد الأوروبي شروطا ضرورية لعضويته، هي الرادع الأول والأقوى للطموح السياسي للضباط الأتراك، وفي الوقت نفسه كانت الولايات المتحدة وأوروبا في حاجة إلى نموذج عملي ناجح لدمج (الإسلام ) في الديمقراطية الغربية، في مواجهة النموذج الإسلامي الجهادي لتنظيم القاعدة ومشتقاته، التي أنتجت داعش فيما بعد، وكما نعلم فقد كانت هذه من أولويات إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بعد أحداث ١١سبتمبر عام ٢٠٠١ .

علي ذكر العامل الخارجي، لا بد من الانتباه إلى فارق بالغ الأهمية بين تجربة أتاتورك وتجربة جمال عبد الناصر ،وهو أن أتاتورك وخلفاءه حرصوا علي تجنب الدخول في حروب منذ حرب التحرير بعد الحرب العالمية الأولى، في حين دخلت مصر حرب السويس وحرب اليمن وحرب ١٩٦٧، وأخيرا حرب أكتوبر، وبالطبع فإن الاستنزاف الذي أحدثته تلك الحروب للمجتمع المصري اقتصاديا وسياسيا وأمنيًا واجتماعيا، جاء خصما فادحا من امكانات التطور الشامل للمجتمع المصري، وكما يقول المثل “إذا ما بكى العليل حاله يظهره “.

بقيت ملاحظة مهمة في سياق هذه المقارنة، وهي أن تركيا سبقت مصر إلى الحكم العسكري الشمولي بحوالي ثلاثين سنة، ويمكن القول إن تداولها بين العسكريين والمدنيين استغرق قرابة مائة سنة، وذلك إذا أخذنا في هذه الحسبة محاولة الانقلاب العسكري على أردوغان في صيف ٢٠١٦، لكن تركيا لم تعرف ثورة كثورة يناير ٢٠١١ المصرية، فما الذي ينبهنا إليه ذلك؟

هل نحتاج مثلا مزيدا من الوقت؛ ليكتمل نضج تجربتنا الحزبية في ضوء فارق الثلاثين سنة بيننا وبين الأتراك؟ أم نحتاج قبل هذا إلى ذلك النوع من النضج الذي اكتسبته القوي السياسية التركية، إلى الدرجة التي جعلت الأحزاب المنافسة لأردوغان حد الخصومة تقف معه في صف واحد ضد محاولة الانقلاب الأخيرة؟ وهل يدرك المتطاحنون عندنا أن المعادلات الصفرية لن تجدي فتيلا ؟