لم يكن ما جرى عقب نهاية الجمعية العمومية غير العادية لنقابة المهندسين، وقبل إعلان نتائج فرز تصويت أعضائها، حدثا عاديا أو يمكن أن يمر بشكل عادي، أو بالرهان على تراجع الزخم والتفاعل حوله بعد أيام من انتهائه، وهو رهان يحدث كثيرا وينجح أحيانا، لكنه أبدا لا يسقط من ذاكرة الوطن ولا الوعي العام للشعب
مواجهة إرادة قطاع من المواطنين المصريين الذين لجأوا للصندوق الانتخابي للتعبير عن رأيهم بشكل سلمي ومتحضر، ورغم أن الدعوة لهذه الجمعية نفسها صادرة عن الطرف الذي خسر عمليا نتائج ذلك التصويت، بأسلوب العنف والبلطجة أمر غير مقبول ولا يمكن أن يمر وإلا صار قابلا للتكرار مرارا وعلى أصعدة مختلفة، ولذلك فإن المسألة تبدو متجاوزة تماما للشأن النقابي المتعلق بنقابة المهندسين، وإنما تمتد آثاره للحياة العامة والسياسية في مصر.
تورط قيادات من حزب الأغلبية البرلمانية مستقبل وطن، فيما جرى من مشاهد، وبالصور والفيديوهات التي كشفت عن هوية بعضهم، يدحض تماما ما قيل في بيان الحزب حول أن أعضاءه شاركوا بصفاتهم النقابية، وبعيدا عن تدخلات طالت وامتدت على مدار الفترة الماضية في مواجهة نقيب المهندسين؛ لفرض إرادة الحزب وقياداته النقابية على النقابة على حساب إرادة الجمعية العمومية وقراراتها في مارس الماضى، إلا أن هذه المرة من شاركوا في أحداث العنف والبلطجة ومنع إعلان النتائج، هم أعضاء وقيادات بالحزب ونواب له لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بنقابة المهندسين، وبالتالي تواجدهم في هذا المكان والتوقيت ومشاركتهم فيما جرى تطرح تساؤلات، ومخاوف عديدة حول مدى جدية قبول ذلك الحزب لأي نتائج عملية ديمقراطية في غير صالحه، والأكثر إثارة للدهشة والعجب، أن يتم ذلك بأساليب فجة ومباشرة لم نشهدها من سنوات طويلة وربما منذ ما قبل ثورة يناير، ولا يعني ذلك أنه لم تكن هناك مخالفات وانتهاكات تجري لمعايير نزاهة وشفافية الانتخابات العامة السابقة فيما بعد ذلك، لكنه يعني أننا نعود لأساليب بالغة الفجاجة لم تكن مستخدمة بهذا الشكل على مدار سنوات، وهي في واقع الأمر تعكس ضعفا بالغا حتى وإن نجحت مؤقتا في فرض إرادتها بمنع إعلان النتائج، لكنها لم ولن تنجح في أن تخفي حقائق ما جرى ويجري، والمثير للتساؤل هنا هو أسباب ظهور مثل تلك الوجوه بمثل هذا الوضوح، وهذه المباشرة على مرأى ومسمع من الجميع في صور وفيديوهات انتشرت بشكل مكثف وواسع، دون أن يكون لديهم أي غضاضة أو تخوف من آثار ذلك.
المساءلة القانونية واجبة وحتمية الآن وفورا، وحسنا أن وجه النائب العام ببدء التحقيقات فيما جرى في نقابة المهندسين، لكن لا نريد أن نقع أسرى لتحقيقات تطول في بلاغات عديدة وبلاغات مضادة ودعايات سياسية؛ لتخفيف وطأة ما جرى من جريمة في حق الوطن والمستقبل قبل أن تكون في حق نقابة المهندسين وجمعيتها العمومية ونقيبها، فالجريمة واضحة وعلنية والوجوه المشاركة فيها معروفة ومعلنة، ولا بد من اتخاذ إجراءات فورية في هذا الصدد، ولا يعقل ولا يقبل بأي منطق إنساني أو عقلي أو سياسي أو قانوني، أن تكون جريمة العنف والبلطجة التي وقعت نهارا جهارا بحضور أطراف، وقيادات من حزب بعينه هو عمليا الطرف الآخر في التنافس الانتخابي والنقابي، الذى كان يجري ثم تتم محاولات التبرؤ من ذلك بإدعاء أن النقيب الذي انتصرت له إرادة الجمعية العمومية هو من وراء تلك الممارسات، فهو صاحب مصلحة في إعلان النتائج التي جاءت لصالحه، وبالتأكيد إذا كان هو من وراء ذلك فلن يستعين فيه بقيادات وأعضاء من الطرف المضاد له.
لكن المساءلة السياسية واجبة أيضا، إما بإعلان واضح وقاطع بتبرؤ الحزب من هذه الممارسات، ومحاسبته السياسية والتنظيمية داخليا للمسئولين عنها وإعلان نتائج ذلك على الرأي العام، وإما بمحاسبة للحزب كمؤسسة لسماحه بهذه الممارسات وقبوله بها، إذا لم يلجأ لمحاسبة قياداته وأعضائه عليها، فضلا عن آثار ذلك على الحوار الوطني الذى يجري كل ما يجري في ظل انعقاده، الذي كان يفترض أن يمهد لأجواء سياسية وعامة أكثر إيجابية، لا أن نشهد في ظله مثل هذه الانتهاكات والجرائم، وبالتالي فإدارة الحوار الوطني والمشاركين فيه مطروح عليهم الآن سؤال هام حول كيفية التعامل مع ذلك الموقف، وكيفية القبول والثقة بأن ما قد ينتج من توصيات عن هذا الحوار سواء بتوافق أطرافه، أو بتعدد وجهات نظرهم قد يكون محلا للتنفيذ، إذا كان معروضا مثلا على برلمان تهيمن عليه أغلبية منتمية لذلك الحزب، أو حتى أن يكون ما سوف يصدر من توصيات ويصبح محلا للتنفيذ من قرارات أو تشريعات بعد إقرارها لن يواجه بممارسات مماثلة مستقبلا.
مرة أخرى، ما حدث كبير وخطير، وهي ليست محاولة لتسييس موقف نقابي، فالأمر تجاوز الموقف النقابي بالفعل، وعلى العكس فإن الموقف الأساسي الذي كان يدافع عنه نقيب المهندسين، وإرادة الجمعية العمومية المؤيدة له هو رفض تسييس أو تحزيب الشأن النقابي، كما أنها ليست محاولة للتصعيد في وقت يلجأ فيه أغلب الأطراف لخيار الحوار والنقاش والتفاوض من أجل تقدم تدريجي ونسبي فى مختلف الملفات، لكن قبول استخدام أسلوب العنف والبلطجة بهذا الشكل الذي جرى، وتصور البعض أنهم فوق المساءلة أو القانون أو المحاسبة سواء بحكم نفوذهم أو دعمهم أو مواقعهم أو هيمنتهم، فهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا ولا يمكن أن يستقيم مع أي تصورات عن المستقبل.
ورغم كل ذلك، ومع ما جرى من أحداث عكرت المشهد، إلا أنها لا تعني بحال من الأحوال إغفال أن أعضاء الجمعية العمومية لنقابة المهندسين قد وجهوا رسائل جديدة بالغة الإيجابية والوضوح، فيما يتعلق باحتشادهم الهائل الفائق للتوقعات والتصورات، وهو ما يعكس إقبالا حقيقيا رغم كل الأوضاع الراهنة على فكرة المشاركة العامة بالرأي والصوت، وفيما يتعلق بانتصارهم الواضح والكاسح لما يمثله نقيبهم طارق النبراوى من دفاع عن قيم استقلال النقابة، والانحياز لإرادة أعضائها ومصالحهم، ورفضهم لهيمنة طرف سياسي أو حزبي على شئون نقابتهم، ثم أنه رسالة تضاف لما سبقها سواء قبل عام في نقابة المهندسين نفسها، أو قبل شهور في نقابة الصحفيين، بأن قطاعات مختلفة من المجتمع تستطيع وترغب في أن تعبر عن رأيها وموقفها بشكل سلمى وديمقراطي عبر صناديق الانتخابات، وأنها ترفض رسائل الضغط والترهيب والتهديد التي استخدمت من بعض الأطراف .. ودون مبالغات وقياسات ليست في محلها تماما، وتحتاج لمزيد من الفحص والتدقيق والنقاش، إلا أن ذلك يعني بوضوح أن القطاعات المجتمعية المختلفة لا تزال تراهن على إمكانيات فتح مجال عام حر بأشكال سلمية ديمقراطية، وأن تمارس أدوارا سواء كانت سياسية أو نقابية أو مجتمعية من خلال الأطر الدستورية والقانونية الطبيعية، وأن تلجأ للتغيير والتعبير عن الرأي من خلال تلك الوسائل، وهى رسائل تستحق دعمها وتحفيزها وتشجيعها، لا مواجهتها بالعنف والبلطجة.
في هذه المعركة النبيلة التي جرت أسماء تستحق التحية، ورفع القبعة احتراما لجهدها ومصداقيتها على رأسهم نقيب المهندسين طارق النبراوى وفريقه، ومن بينهم النائبة مها عبد الناصر، التي لعبت دورا بالغ الأهمية في كشف ما جرى للرأي العام، ومن بينهم صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دورا في كشف أسماء، وانتماءات المشاركين في جريمة العنف والبلطجة، فضلا عن كل مهندس ومهندسة – أيا كان رأيه في الصندوق – الذين حرصوا على إخراج هذا المشهد المحترم والباعث على الأمل، قبل أن يحاول إجهاضه آخرون، لا زلنا ننتظر محاسبتهم ومساءلتهم وفقا للقانون.