في نهاية مايو/أيار الماضي، استقبل رئيس المجلس الانتقالي التشادي، محمد إدريس ديبي، مبعوث قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، بينما رفضت وزارة الخارجية التشادية إصدار تأشيرة لمبعوث قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”. كانت هذه الخطوة أول موقف تشادي رسمي واضح بين طرفي الحرب في السودان منذ اندلاعها.
لكنها في الوقت ذاته، كشفت عن التداخلات السياسية والقِبلية المُعقدة التي تربط كلا من السودان وتشاد، الجارة الغربية على حدود أكثر الأقاليم السودانية هشاشة: إقليم دارفور. وفي ذلك المثلث الحدودي، الذي يضم ليبيا إلى جوارهما، تنشط مجموعة من القبائل ذات العرقيات المختلفة، والتي تمتد أواصرها بين البلدان الثلاثة؛ بما يصنع خريطةً معقدةً قد تلعب دورًا في إذكاء الاضطرابات. ليس في السودان فقط، وإنما على امتداد منطقة الساحل الإفريقي.
ينتمي الرئيس التشادي، محمد إدريس ديبي -ووالده الذي سبقه في الحكم- إلى قبيلة “الزغاوة” الإفريقية المسلمة. وهي قبيلة تعيش غالبية أفرادها بين تشاد والسودان، ولديها مصاهرات في النيجر وليبيا مع قبائل التبو. ويحتل “الزغاوة” مناصب سياسية وعسكرية عليا في تشاد و”تأثيرهم في السلطة مهم”، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية “فرانس 24“.
على الجانب الآخر، ينتمي قائد الدعم السريع حميدتي إلى قبيلة “الرزيقات” العربية. وأحيانًا ما شهدت منطقة دارفور توترات ونزاعات بين عشائر من القبيلتين. كما يلعب بشارة عيسى جاد الله، أحد أبناء عمومة حميدتي وعضو المجلس العسكري التشادي، دورًا بارزًا في منظومة الحكم التشادي.
وقد سبق، واتهم ديبي حمديتي بدعم مجموعات تشادية متمردة تسعى لإسقاط نظام الحكم في تشاد. ولعل أهمها “جبهة التغيير والوفاق” التي قتلت والده إدريس ديبي -في إبريل/نيسان 2021- خلال معارك قرب العاصمة.
وفي ذات الوقت، تجمع علاقات بين قوات الدعم السريع ومجموعات متمردة تشادية أخرى؛ نتيجة مشاركة كليهما في الحرب في ليبيا. وهي الجماعات التي من المرجح أن تعود إلى دارفور إذا ما طال أمد الحرب، بعدما توقف القتال في ليبيا وتقلصت مواردها بشكل كبير.
وهنا يجدر الإشارة، إلى أن الانتماءات القِبلية لا تخلق كتلًا مُصمتة تدعم فقط أطرافًا دون أخرى، وإنما تتباين المصالح بين العشائر المختلفة التي تنتمي لقبيلة واحدة، ما يعقّد من المشهد أكثر فأكثر. فعلى سبيل المثال، تزوج إدريس ديبي الأب من إحدى بنات موسى هلال، أحد زعماء قبيلة الرزيقات، والعدو اللدود لحميدتي.
“في الأيام المقبلة اعتمادًا على كيفية تطور الوضع، يمكن أن يكون لدينا المزيد من الأشخاص في تشاد يتمركزون في معسكر، أو آخر [في دارفور] بغض النظر عن موقف الدولة التشادية”، يقول ريمادجي هويناثي: الخبير في شؤون تشاد في معهد الدراسات الأمنية.
التمرد كتاريخ مشترك بين السودان وتشاد
من بداية التمرد في دارفور عام 2003، لم يكن الرئيس التشادي الأب، إدريس ديبي، قادرًا على منع أفراد عائلته من الزغاوة من دعم متمردي دارفور الذين ينتمون أساسًا إلى مجموعتهم العرقية.
رد الرئيس السوداني السابق عمر البشير، بدعم جماعات التمرد التشادية، وتحديدًا التي تنتمي إلى مجموعة “جوران” العرقية “المنافس التاريخي للزغاوة”، والمتضررة من سيطرة الزغاوة على مفاصل الحكم.
تعامل ديبي بالمنطق نفسه، وقدم دعمًا شبه رسمي لجماعات المعارضة المسلحة في دارفور. أدى ذلك إلى خمس سنوات من الحرب بين تشاد والسودان، قبل توقيع اتفاقية عام 2010، تقضي بطرد الجماعات المسلحة المعارضة المناوئة لكليهما من البلدين.
بعدها، لعب ديبي دورًا في تقسيم الجماعات المتمردة في دارفور وإضعافها، مثل حركة العدل والمساواة وفصائل جيش تحرير السودان- وللمفارقة تنتمي غالبية الحركتين للزغاوة-، حتى أنه دخل في صراعات معها -بدعم من البشير- بعدما دعمت هذه الحركات السودانية الجماعات المعارضة لحكمه، وقتلت قيادات منشقة عنها ومؤيدة لديبي، وفق ما يذكره “المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية“.
في عام 2011، وبعد الاتفاقية التي أضعفت التمرد التشادي، اندلعت الثورة الليبية وأتاحت الحرب، التي أعقبت ذلك، لهذه الجماعات فرصًا للقتال كمرتزقة في ذلك الصراع. على مدى العقد الماضي، جعلت الجماعات المتمردة التشادية من ليبيا موطنها الجديد.
ومع ذلك، بدأت ليبيا تفقد جاذبيتها لهؤلاء المقاتلين تمامًا. كما خلق الصراع والفوضى في السودان إمكانية نقل عملياتهم هناك. إذ انخفضت حوافز المتمردين التشاديين للبقاء في ليبيا منذ اتفاق وقف إطلاق النار الليبي -في أكتوبر/تشرين الأول 2020- مما قلل في النهاية من فرص تربحهم كمرتزقة.
جاذبية دارفور ودعم حميدتي
أصبحت دارفور أكثر جاذبية لهذه الجماعات من أي وقت مضى. في السودان، يمكن أن يكتسبوا تحالفًا جديدًا محتملًا وتدفق التمويل. ومن المرجح أن تنحاز مجموعة “جوران” العرقية والمتمردون التشاديون العرب، بمن فيهم أولئك الموجودون في “جبهة التغيير والوفاق” في تشاد، لقوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي، بحسب معهد “War on the Rocks“.
كما يتمتع المتمردون من جبهة التغيير والوفاق بخبرة القتال إلى جانب المقاتلين الدارفوريين في ليبيا، مما قد يسهل أيضًا انتقالهم. ومع ذلك، فإن التحالفات غير ثابتة، ففي ليبيا عبر المقاتلون التشاديون خطوط المعركة، متحالفين مع الفصائل المتنافسة مقابل الثمن المناسب.
يضيف المعهد، أن اهتمامات حميدتي في دارفور تتطابق مع مصالح المتمردين التشاديين والعرب. إذ لديهم خصوم مشتركون، بما في ذلك جماعات الزغاوة المتمردة، التي تشترك في العرق مع عائلة ديبي الحاكمة في تشاد ومعظم الجيش التشادي.
ولهما حلفاء أيضًا، بما في ذلك القوات المسلحة الليبية التابعة للجنرال خليفة حفتر ومجموعة فاجنر الروسية. ومع نشر حميدتي المزيد من الجنود من دارفور إلى الخرطوم، يمكن للمتمردين التشاديين المساعدة في تأمين قواعد عملياته في دارفور، والحصول على تعويضات مالية ونهب من ساحة المعركة، بما في ذلك الأسلحة والمركبات المدرعة، في ترتيب مماثل لذلك الذي كان مع حفتر في ليبيا.
“سيكون حميدتي حليفًا قيّمًا لهذه الجماعات، ومن المحتمل أن ينتقل المتمردون بشكل دائم إلى السودان إذا انتصر”، يقول المعهد الأمريكي.
كذلك تعد دارفور جذابة لهذه الجماعات؛ نظرًا لقربها من العاصمة التشادية نجامينا -على بعد يومين بالسيارة مقارنةً بخمسة أيام من ليبيا. وهذا القرب يمكن أن يسهل عمليات التوغل المحتملة والوصول إلى الأسواق غير المشروعة المربحة التي تربط ليبيا وتشاد والسودان.
فتلك المنطقة مركز رئيسي لتهريب الأسلحة والمخدرات والوقود والسيارات. وتعد دارفور أيضًا موطنًا للعديد من حقول الذهب المهمة، والتي تم استغلالها بالفعل من قبل مجموعة فاجنر وقوات الدعم السريع. ويمكن للمقاتلين التشاديين المشاركة في هذه الاقتصادات، إما من خلال المشاركة المباشرة أو الحماية أو عن طريق الاستيلاء عليها.
ومن المتوقع بشكل خاص، أن يشهد تهريب الأسلحة على طول الممرات التي تربط السودان بليبيا وتشاد ازدهارًا مع اشتداد الصراع. وتعني الطبيعة سهلة الاختراق لحدود الساحل، أن هذا لن يكون محسوسًا في السودان وليبيا وتشاد فحسب، ولكن أيضًا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر ونيجيريا. وقد تقع هذه الأسلحة في أيدي المتطرفين العنيفين الذين يتنازعون على مناطق في تلك البلدان أيضًا.
من المحتمل كذلك -بحسب المعهد المعني بشؤون الدفاع- أن يؤدي انخراط المتمردين التشاديين في السودان إلى اشتداد الصراع في دارفور، مما قد يخلق عواقب إنسانية وخيمة. وستؤدي زيادة تدفقات اللاجئين إلى البلدان المجاورة إلى تفاقم أزمة اللاجئين الحالية في منطقة الساحل، ما سيؤدي بدوره إلى إجهاد الموارد، وخلق توترات بين المجتمعات المضيفة واللاجئين.
ويمكن لمجموعة فاجنر، أن تحاول بالمثل استغلال جبهة التغيير والوفاق في تشاد، أو جماعة متمردة أخرى للتشجيع على التوغل في تشاد من الجهة الشرقية، كجزء من استراتيجيتها الإقليمية لزعزعة استقرار منطقة الساحل.
“كلما طال فشل المجتمع الدولي في التحرك، وكلما طال أمد الصراع في السودان، زادت احتمالية استفادة الجهات الفاعلة مثل، المتمردين التشاديين والمرتزقة الروس من ذلك”، يقول ألكسندر بيش: كاتب تحليل الموقف بالمعهد الأمريكي والمتخصص في الشؤون الأمنية التشادية.
المقاتلون تدفقوا بالفعل
تنشر قوات الدعم السريع، على شبكات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لمقاتلين من تشاد أو النيجر يعلنون دعمهم لها. ويقول قائد الجيش البرهان، إن “مرتزقة جاءوا من تشاد و(جمهورية) إفريقيا الوسطى والنيجر” يقاتلون مع الدعم السريع.
والأمر نفسه ذكره مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان، فولكر بيرتس. فقد صرح، أن “عدد المرتزقة الذين جاؤوا من مالي وتشاد والنيجر بدعم من قوات الدعم السريع لا يستهان به”. وأكد شهود في الخرطوم أنهم سمعوا مقاتلين من الدعم السريع يتحدثون الفرنسية، وهي لغة لا يتحدث بها السودانيون، ما يشير إلى أنهم ربما تشاديين.
وتدير عائلة حميدتي جزءًا كبيرًا من مناجم الذهب في السودان، ثالث أكبر منتج للمعدن الأصفر في إفريقيا. وبالتالي فدقلو “يستطيع أن يدفع رواتب لا يمكن لكثيرين في إفريقيا جنوب الصحراء مجاراته فيها”، كما قال لـ”فرانس برس” أندريا كريج من “كينجز كولدج” في لندن. وأضاف، أن “تشاديين انضموا فعلًا خلال السنوات الأخيرة إلى قوات الدعم السريع من أجل الرواتب”.
يقول أمين مجذوب، المحلل العسكري السوداني، إن العلاقات بين تشاد والسودان متشابكة بشكل لا ينفصل، مما دفع البلدين إلى التدخل في شؤون بعضهما البعض. ويعتقد أن الأزمة في السودان من غير المرجح أن تحل في المستقبل القريب.
وقال: “تؤثر الحرب في السودان على تشاد، مما دفع (العاصمة) نجامينا إلى الوقوف إلى جانب طرف واحد في النزاع، والذي ربما يكون في هذه الحالة القوات المسلحة السودانية”.
لن تقبل الحكومة التشادية انتصار قوات الدعم السريع. وأضاف، أنه في حالة فوزهم، لن تستقر قوات الدعم السريع ما لم تتم الإطاحة بحكومة ديبي. ولن تقبل فرنسا انتصار الدعم السريع، حيث تستخدم فرنسا تشاد في عملية برخان لمكافحة الإرهاب.
الجانب الآخر من دعم حميدتي
معظم قادة المجموعات المسلحة، بمن فيهم حميدتي لهم أصول تشادية. وعلى امتداد الأجيال جنّدوا رجالًا ثم أبناءهم ومنحوهم جميعًا “جوازات سفر سودانية وأراضٍ هجرها أصحابها من القبائل غير العربية الذين اضطروا للنزوح” بسبب الحرب في دارفور، بحسب ما أكد مركز أبحاث “Small Arms Survey“.
لكن دعم حميدتي لا يتوقف عند الحاجة إلى المال فقط، بل صورته التي رسمها وسط المجموعات المهمشة المختلفة كبطل للمهمشين، ورجل واجه المظالم التاريخية.
يقول الباحث التشادي، سعيد أبكر أحمد: “يمثل حميدتي شخصية أسطورية للمضطهدين الذين ينتمون إلى القبائل العربية من دارفور إلى مالي، لأنهم من وجهة نظرهم وجدوا رجلاً لديه السلاح والمال وبإمكانه أن يمسح عنهم ألم الاضطهاد. ذلك الشريط من دارفور إلى مالي يحتوي على قبائل مشتركة أغلبها من فرع قبيلة المحاميد المشهورة (التابعة للرزيقات)”.
ويضيف: “يرى كل شاب ينتمي إلى القبائل العربية في وسط وغرب إفريقيا في حميدتي رجلًا أسطوريًا آمن بالقوة وحمى قوافله من اللصوص ولم يدرس في الجامعات والمدارس الغربية. إنه نشأ في نفس الظروف التي نشأ فيها كل عربي إفريقي بين الصحراء والناقة والقرية والرعي، وأصبح يُستقبل استقبال الرؤساء والعظماء”.
ويلفت، إلى جانب آخر “أعتقد أن القبائل العربية في وسط وغرب إفريقيا ليست فقيرة جدًا، حتى تأتي إلى السودان وتحصل على مكافأتها بالجنيه السوداني. هم أيسر حالًا من الكثير من القبائل؛ لأنهم يملكون أكبر عدد من رؤوس الماشية. أكثر ما يدفعهم شغفهم بوجود قائد يلتفون حوله، لذلك لا ينادون حميدتي باسمه إطلاقًا إنما يقولون له: القائد”.
يشير مركز الدراسات الأمنية، إلى تحالف قائد الجيش البرهان مع القادة السابقين لميليشيات الزغاوة في دارفور، ولا سيما ميني أركو ميناوي، حاكم دارفور الحالي؛ مستغلًا خلافات الزغاوة مع حميدتي. “في الصراع الحالي في السودان، يمكن أن يؤدي أفراد المجتمع الذين ينتمون إلى قبائل ومجموعات عرقية معينة إلى تفاقم هشاشة البلدان الواقعة إلى الغرب.. المبدأ معروف: صديق عدوك قد يصبح عدوك بسهولة. وسيكون من المهم كيف تتمركز هذه المجتمعات العابرة للحدود في الحرب”.