إن المقصود بالتشريع، إنما هو “ذلك القانون المكتوب الصادر عن السلطة المختصة بإصداره في الدولة” أو بصيغة أخرى التشريع هو “عملية وضع القواعد القانونية بواسطة السلطة العامة المختصة بذلك في صورة مكتوبة، أو هي قيام هذه السلطة بصياغة القاعدة القانونية صياغة فنية مكتوبة، وإعطائها قوه الإلزام في العمل”. كما أن التشريع يطلق عليه اسم “القانون المكتوب” لأنه يتضمن قواعد قانونية مدونة على شكل وثيقة مكتوبة، ومن أهم صوره التي يخرج فيها للوجود هي عملية التقنين، والتقنين هو مجموعة متجانسة من التشريعات يتم إعدادها بشكل ممنهج بحيث يخرج الناتج منها في شكل أفرع للقانون.

وإذ أن هناك أوجه وفروع كثيرة للتشريعات أو القوانين، فإن من أهم تلك الأفرع القانونية أو التشريعية، ما يطلق عليه التشريع الاجتماعي، وهو ما يعني بمهمة صناعة القوانين في المجالات ذات الصبغة الاجتماعية، وحتى أزيل اللبس الذي قد يلحق بمخيلة القارئ، فإنني لا أقصد أو أهدف هنا إلى مسمى العرف الاجتماعي بحسبه أحد مصادر القاعدة القانونية، ولكن ما أهدف إليه هو التشريعات ذات الصبغة الاجتماعية، وإن كان الأمر لا يخلو من مقولة، أن كافة التشريعات مجتمعية لكونها تخاطب الجماعة، وأنا أهدف منها إلى ما يهتم بالقواعد المجتمعية ذات البعد الاجتماعي، بعيدا بشكل ما عن القواعد ذات الأطر العقابية، أو المالية وما إلى ذلك، إذ لا بد من وجود ما ينظم الحياة الاجتماعية للأفراد من خلال توضيح الحقوق، والواجبات لهم تجاه أنفسهم والآخرين والمجتمع، كما أنه لا يمكن تصور وجود أي تجمع بشري مستقر أو متنقل من مكان لآخر دون وجود بعض قواعد الضبط الاجتماعي، وهذا الأمر هو ما يتفق مع كون السياسة الاجتماعية هي تدخل الدولة المقصود والمتعمد؛ بهدف إعادة توزيع الموارد المتاحة بين المواطنين، وذلك من أجل تحقيق أو الوصول بالمجتمع إلى الرفاهية أو الرعاية الاجتماعية، وهذه المعاني هي ما تدفع إلى التعبير عن التشريعات الاجتماعية، بأنها تلك الأحكام المقننة التي تصدرها السلطة التشريعية بهدف تقرير حقوق الأفراد من تعليم وصحة وعمل، كما تعمل على تحقيق المساواة بين الناس في تمتعهم بهذه الحقوق وتقليل الفروق الموجودة بين مختلف الطبقات، كما أنها تُعد مجموعة النظم واللوائح والقوانين التي تختص بجانب من جوانب النشاطات والفعاليات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع، بحيث تؤدي إلى تحديد واجبات وحقوق جميع الأطراف الداخلين في أي نشاط، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، وفق الشروط والظروف الاجتماعية والثقافية السائدة في ذلك المجتمع، حيث إن هناك ممارسات سلوكية وتشريعات تختلف من مجتمع إلى آخر حسب المعتقد، والدين والإيديولوجيا والعادات والتقاليد والأعراف السائدة في كل مجتمع.

وقد اعتنت الاتفاقيات الحقوقية الدولية بالحقوق الاجتماعية بشكل كبير، فقد أُبرمت لها اتفاقية مخصصة تسمى بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، يهدف فيه المجتمع الحقوقي الدولي، إلى حماية الأسس المجتمعية والحقوق ذات الأبعاد الاجتماعية من تجبر أو بطش السلطات المحلية عليها بوصفها حقوق لا يمكن التنازل عنها، بل على العكس يجب على الدول أن تسعى إلى تحقيقها، حتى تصل إلى أعلى مستويات الحماية والرفاهية اللازمة لحياة سعيدة للمواطنين.

ويمكن أن نضرب مثلاً لتلك الحقوق بالضمان الاجتماعي، والذي يُعرف على أنه أي برنامج حماية اجتماعية تم وضعه بموجب التشريع، أو أي ترتيب إلزامي آخر ، يوفر للأفراد درجة من أمن الدخل عندما يواجهون حالات طارئة تتعلق بالشيخوخة، أو النجاة أو العجز أو الإعاقة أو البطالة أو تربية الأطفال. قد يوفر أيضًا الوصول إلى الرعاية الطبية العلاجية أو الوقائية، والأهمية الاجتماعية لنظم الضمان الاجتماعي للمجتمع مقبولة الآن على نطاق واسع. ومع ذلك ، هناك إجماع أقل فيما يتعلق بالأهمية الاقتصادية لنظم الضمان الاجتماعي. وبغض النظر عن ذلك، يجب أن تُفهم أنظمة الضمان الاجتماعي على أنها عامل إنتاجي في التنمية الاقتصادية، وهي وجهة نظر تكتسب زخماً.

وإذ إن القانون ومنظوماته أحد أبرز محاور الصراعات الاجتماعية، والسياسية حول المصالح المتنازعة بين القوى الاجتماعية على اختلافها في المجتمعات المعاصرة‏,‏ ومن ثم يشكل أحد ميادين حسم الصراع وإقرار المصالح للقوى الغالبة بلا نزاع‏.‏ وإن الوصول إلى توازن ما في المصالح هو تعبير أكثر تعقيدا عن أن الدولة، وسلطاتها وأجهزتها تصل في بعض المراحل إلى مستوى يتجاوز حدود المصالح الضيقة للقوى الاجتماعية والسياسية المسيطرة ـ وصفوتها الحاكمة وظهيرها الاجتماعي ـ إلى مصالح أكثر اتساعا تتصل بقوى اجتماعيا أوسع نطاقا‏,‏ أو مصالح أكبر تتجاوز الصراعات الاجتماعية والمصالح الضيقة للصفوة السياسية الحاكمة‏.‏ وهذا المعنى ما مؤداه، أنه يجب أن تتم الصناعات القانونية بطرق أكثر تقربا من المجتمعات المخاطبة بها، لا أن يتم تنحيتها جانبا، على الرغم من كونها هي الفئة المخاطبة أو المعنية من صناعة هذا القانون، وهذا ما تتجلى صورته الكبرى في كثرة التعديلات التي تنال التشريعات، وهو الأمر الذي يصيب صناعة القانون نفسها بتخمة تجعل من القوانين غابة لا تستطيع متابعة تطوراتها، حتى من معظم العاملين في مجال القانون نفسه، وهذا الأمر لا ينتج سوى من طريقة صناعة التشريع، وهي تلك الطريقة التي يُطلق عليها الفقهاء والباحثون بالطرق الفوقية لصناعة القانون، وهي ما تعني أن تتم صياغة القوانين من قبل المجالس المختصة بها، دونما أي ارتباط بين القوانين والاحتياجات المجتمعية، أو دونما عرض أمر القانون على الفئات المجتمعية المخاطبة به، وهذا ما يجعل المنتج القانوني في صورته النهائية ليس مرضيا عنه بصورة مجتمعية ولو توافقية، قد توحي بطول عمر هذا التشريع، وعدم الحاجة إلى التطرق إلى تعديله عقب تغير النظام الحاكم أو تغير مجموعة المشرعين أنفسهم، هذا بخلاف المشاكل التي تنتج عند تطبيق القانون نفسه، فكلما كان القانون أكثر توافقا مع الاحتياجات أو الطموح المجتمعي، زاد عمره وصلاحيته داخل المجتمع، ولكن كلما كانت الصناعة بعيدة عن رغبات المجتمع، كان هناك المزيد من المشكلات العملية وقت أن يدخل القانون حيز النفاذ، إلى أن ينتهي الأمر بأن تناله يد التعديل التشريعي مرة جديدة سواء كان ذلك تحت ضغوط مجتمعية.

ومن هنا، فإنني أدعو جميع الهيئات والجهات ذات الصلة بأمر التشريع الاجتماعي، أن تترابط فيما يهم المواطنين، وأنه يجب عدم تمرير أية تشريعات دونما مخاطبة المهتمين بأمرها؛ حتى تتمتع بالتوافق والرضا المجتمعي المطلوب لسمو شأن القانون ذاته.