تتزايد التحركات العالمية الساعية للتحرر من هيمنة الدولار الذي يسيطر، حاليًا، على التجارة والمدفوعات الدولية، بعد دخول عدد من الدول المحايدة والصديقة لواشنطن في اتفاقيات تجارية من شأنها تقليل الاعتماد على العملة الأمريكية، وعودة الحديث مجددا عن النقود الذهبية.
الهند التي تتمتع بعلاقات قوية مع أمريكا وعلاقات أقل مع الصين دخلت في اتفاق أخير، مع ماليزيا للبحث عن آلية جديدة لإجراء التجارة الثنائية بالروبية، بينما أصبحت بنجلاديش الدولة التاسعة عشرة التي تتاجر مع الهند بالروبية.
في التوقيت ذاته، وافقت رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان” على تعزيز استخدام عملات الدول الأعضاء في التجارة والاستثمار على الساحة الإقليمية.
وفي ذات السياق وقعت كوريا الجنوبية اتفاقًا مؤخرا مع إندونيسيا، لتعزيز التبادلات المباشرة بين الوون والروبية.
لم تكن بلاد آسيا وأمريكا الاتينية وحدها التي تبحث الانعتاق من هيمنة الدولار، فقد طالب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أوروبا بأن تقلل من اعتمادها على الدولار في التعاملات المالية.
في خطوة فسرها المحلل الفرنسي رينو جيرارد في مقال لصحيفة “لوفيجارو” بأن الأمريكيين استخدموا عملتهم أداة للضغط السياسي على دول أخرى، الأمر الذي دفع إلى حركة عالمية للإطاحة بالدولار.
مارتن وولف، الاقتصادي البريطاني الشهير يحذر في مقاله بـ “فايننشال تايمز” من مخاطر عالم ما بعد الدولار والنظام النقدي الدولي ثنائي القطب، حالة ستتدهور فيها قدرة الولايات المتحدة على توقع التأثير الاقتصادي العالمي، مع تداعيات عميقة على الصعيد المحلي وعلى النظام الدولي.
اقرأ أيضا: مستقبل الجنيه.. لماذا لم يعالج دواء التعويم المُر أمراض الاقتصاد؟
العقوبات الأمريكية تعزز محور كسر هيمنة الدولار
مع فرض الولايات المتحدة عقوباتها ضد روسيا بدأت مخاوف الكثيرين، تساءل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا في اجتماع مجموعة “بريكس” عن أسباب استخدام الدولار كعملة للتجارة العالمية بعد فك الارتباط بالذهب.
واقترح سيلفا، أن تكون هناك عملة للتبادلات التجارية تواجه هيمنة الدولار.
بينما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال محادثات موسعة مع القيادة الصينية إن موسكو تدعم استخدام اليوان في التعاملات بين روسيا ودول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
شجع اللجوء المتزايد من قبل واشنطن لنظم عقوبات ضد دول مثل إيران، خاصة منذ عام 2006، وروسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم بعد الحرب على أوكرانيا، على ترتيبات بديلة للعملة، فسياسة العقوبات الأمريكية تستهدف حاليًا 22 دولة.
حذرت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، من أن العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب على روسيا قد تقوض هيمنة الدولار. قد يخشى المزيد من الدول التفكير في بدائل للتمويل القائم عليه؛ للتخفيف من تهديدها.
وأعلنت السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، أنها تدرس إمكانية قبول اليوان الصيني بدلا من الدولار في مبيعات النفط لبكين، التي تحصل على ربع الصادرات النفطية السعودية.
وكانت الرياض أكبر مورد للنفط الخام إلى الصين في يونيو/ حزيران؛ لتتفوق على موسكو في إطار إمدادات النفط إلى الصين، بحسب وول ستريت جورنال.
حلفاء أمريكا يبحثون عن تقليل الاعتماد على الدولار
انخفضت حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية إلى أقل من 59% في الربع الأخير من العام الماضي، وفقًا لبيانات تكوين العملات الرسمية لاحتياطيات النقد الأجنبي الصادرة عن صندوق النقد الدولي.
حتى إسرائيل، المرتبطة بواشنطن اتبعت استراتيجية جديدة لاحتياطيات بنكها المركزي التي تزيد عن 200 مليار دولار، بتخفيض حصة الدولار الأمريكي مقابل محفظة متنوعة للدولار الأسترالي والدولار الكندي والرنمينبي الصيني “عملة إلى جانب اليوان” والين الياباني.
يتزايد إحباط العديد من الأسواق الناشئة؛ بسبب سيطرة الدولار على اقتصاداتها، ورفع الفائدة الذي جذب الأموال الساخنة للخارج وأوقعها في أزمة سيولة وعرض احتياطياتها النقدية للخطر، فضلاً عن تسببها في رفع مديونياتها الخارجية.
المجلس الأطلسي في واشنطن، تحدث ضمن تقرير صادر مطلع العام الجاري عن مخاوف تتعلق بالدولار، واعتبره ضمن أهم 23 خطراً للعام 2023، ذلك مع احتمال ابتعاد عدد من البلدان وليس خصوم الولايات المتحدة الأمريكية فقط عن الدولار بأسرع مما كان متوقعاً.
طبقاً للتقرير، فإن القلق بشأن مستقبل الدولار هو جدل تقليدي عادة ما يثار، لكنه أشار إلى وجود احتمالية -وإن كانت بشكل ضعيف على المدى القصير- لابتعاد مجموعة من الدول من حلفاء وخصوم واشنطن عن الدولار.
الدولار لا يزال مهيمنا لكنه يتعرض للطعن
جيم أونيل ، الرئيس السابق لشركة جولدمان ساكس لإدارة الأصول ، يقول، إن وضع الدولار الأمريكي كعملة رئيسية يمكن أن يتعرض للطعن بمرور الوقت وتحت ظروف معينة من قبل مجموعة دول بريكس للدول الناشئة.
أضاف، أن فكرة أن الدولار سيبقى مَلِكُ للأبد، أصبحت غير محتملة فبإمكان الصين والهند الاتفاق على آلية تجارية بينهما بمعزل عن الدولار، وبحكم أنهما أكبر دولتين في العالم الناشئ، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تسريع نهاية هيمنة الدولار.
يعزز ذلك ارتفاع حصة “بريكس” من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، إذ أصبحت أكبر من حصة مجموعة السبع من حيث القيمة الدولارية.
لكن، يظل الدولار العملة المفضلة للحكومات والشركات والمؤسسات المالية في جميع أنحاء العالم في التجارة والاستثمار، مقابل اليوان، وهو العملة الأكثر قدرة على منافسة الدولار، إلا أن اليوان لا يحظى بأهمية تضاهي الدولار في الاستخدام الدولي، وقد يستغرق بعض الوقت قبل أن يصل إلى الدولار ، أو حتى اليورو ، كعملة دولية، بحسب سوزان سترانج، الاقتصادية البريطانية.
يمثل الدولار 88٪ من إجمالي التجارة في عام 2022، كما يحتل الصدارة في إصدار الفواتير في العالم على مدار العقدين الماضيين. حيث بلغت 96٪ من التجارة في الأمريكتين، و 74٪ في آسيا والمحيط الهادئ، و 79٪ في بقية العالم.
الاستثناء الوحيد هو أوروبا، حيث يهيمن اليورو.
لكن في المقابل، شهدت حصة الدولار في الاحتياطيات الرسمية انخفاضا، إذ انخفضت من 71٪ في عام 1999 إلى 58٪ عام 2022. مقابل 20.5٪ لليورو في نهاية عام 2022، ويمثل 36.3٪ فقط من تعليمات الدفع بنظام SWIFT مقابل 41.9٪ للدولار.
اقرأ أيضا: دولرة العقارات والسيارات في مصر.. مزيد من وهن الجنيه
طلب البنوك المركزية على الذهب.. العودة للبدء
تشتري البنوك المركزية حاليًا أطنانًا من الذهب أكثر من أي وقت مضى منذ أن بدأت البيانات الرسمية الخاصة بها في الظهور عام 1950، وأصبح الطلب على المعدن النفيس من تلك البنوك يمثل حاليًا 33% من الطلب العالمي الشهري.
وكشف استطلاع لمجلس الذهب العالمي، أن 24% من البنوك المركزية حول العالم، تعتزم زيادة احتياطاتها من المعدن الأصفر خلال الأشهر الـ12 المقبلة، كما أكد 46% في الاستطلاع ذاته، أن حصة العملة الأمريكية من الاحتياطات العالمية ستنخفض.
تعود الأجواء حاليًا إلى فترة ما قبل اتفاقية بريتون وودز “1944”، الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي في أمريكا الذي حضره ممثلون لأربع وأربعين دولة، وانتهى باعتماد الدولار بديلاً للذهب، وتم تحديد الدولار بسعر 35 دولاراً مقابل أونصة من الذهب.
بيتينا جريفز ، مستشارة الاقتصادي النمساوي المعروف لودفيج فون ميزس، تقول، إنه لا يوجد سبب عملي لعدم العودة إلى المعيار الذهبي (ما قبل بريتون وودز)، فالاعتراضات كلها تقريبا أيديولوجية.
وكتبت جريفز، “إذا تم التغلب على هذه العقبة الأساسية، فإن العودة إلى النقود الذهبية ستصبح احتمالًا واقعيًا”.
المدافعون عن “النقود الذهبية” يحملون ربط الاقتصاد العالمي بالدولار، مسئولية المشكلات الحالية من التضخم وتآكل مدخرات المودعين، لكن المشكلة الأساسية في تحديد السعر الذي يجب للذهب، وكيف ينبغي تحديد أي عملة ورقية موجودة بناء عليه.
وأعلن البنك المركزي الإيراني، أخيرًا، عن تعاونه مع الحكومة الروسية لإصدار عملة مشفرة جديدة مدعومة بالذهب، مع وضع مميز لمنطقة الخليج؛ لتكون بمثابة وسيلة دفع في التجارة الخارجية.
ومن المتوقع، أن يتم إصدار الرمز المميز في شكل عملة مستقرة مدعومة بالذهب، وفقًا لألكسندر برازنيكوف، المدير التنفيذي للرابطة الروسية لصناعة العملات المشفرة.
تنبع المعركة مع الدولار الأمريكي، من الكتلة التي تضم بشكل رئيسي الصين والهند وروسيا، في المقام الأول، وحتى وإن كانت معركة طويلة النفس والأمد، فإنها تحمل مخاطر على الولايات المتحدة التي تعرف أن الجنيه الإسترليني كان العملة المهيمنة على العالم في فترة من الفترات وأن الدولار من الممكن أن يلقى مصيره.