كان الرجل قد تقدم باستقالته في فبراير/ شباط الماضي، وتعهد بأنه سيغادر مكتبه بعد أربعة أشهر، واصِفًا المسألة بأنها “ستكون فرصة لانتقال سلسٍ للقيادة”، وقد فَعَل. لملم ديفيد مالباس أوراقه، فغادر مكتبه الكائن في 1818 شارع H بواشنطن يوم الجمعة الماضي؛ ليجلس محله الأمريكي الجنسية هندي الأصل آجاي بانجا الرئيس الرابع عشر، لمجموعة البنك الدولي لخمسة أعوام تنتهي في 2028.
كان ديفيد مالباس، الذي عَمِل وكيلًا لوزارة الخزانة في إدارة الرئيس دونالد ترامب، ثم زَكَّاه رئيسًا للبنك الدولي في 2019، باعتبار أن بلاده هي المساهم الرئيسي في رأسمال البنك، قد تقدم باستقالته عندما بدأت الصحافة الأمريكية، ثم الدولية في الكشف عن أفكاره وتوجهاته بشأن أزمة المناخ، وكيفية مساهمة البنك الدولي تحت إدارته في التعامل معها. كان أهم ما ورد بهذا الخصوص هو انتقاد، وجهه له آل جور نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، بالتشكيك في أزمة المناخ، والامتناع عن تعزيز التمويل لمشاريع المناخ في البلدان النامية، لتُسَلِط جريدة نيويورك تايمز الضوء على صمته المُريب بشأن دور الرئيس ترامب، في تثبيت أزمة المناخ، حيث وصفها بأنها مجرد خدعة (Hoax) ثم قراره بسحب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ. رفض مالباس الاعتراف بأن حرق الوقود الأحفوري هو واحد، من أهم أسباب زيادة الاحتباس الحراري بالعالم، مما فَجَر نقاشات عديدة بشأن ما إذا كان البنك الدولي يعمل بشكل كافٍ، لمساعدة المجتمعات لمجابهة ما ترتب على أزمة المناخ من احترار وجفاف وفيضانات خصوصًا، وأن البنك الدولي قد قام تحت إدارته بتمويل مشروعاتٍ للغاز والنفط وهو ما زاد الأزمة استفحالًا. بعد ضغوط من الصحافة الأمريكية بسؤالٍ مباشرٍ عن مسئوليته كرئيس للبنك الدولي، كان رده الذي أثار سخرية العالم -حسب وصف جريدة نيويورك تايمز في ذلك الوقت- “أنا لست عَالمِاً” (I am not a scientist)، ليقوم بعد ذلك بتقديم استقالته التي رحبت بها منظمات مُدافعِة عن البيئة، حيث كتبت منظمة “أصدقاء الأرض” في تغريدة على تويتر: “تحت إدارة ديفيد مالباس، أضاع البنك الدولي وقتًا ثمينًا على صعيد مكافحة التغير المناخي. إن مالباس لم يخفق في وقف الأعمال التي تغذي الفوضى المناخية والظلم فحسب، بل مارس ضغوطًا لفرض سياسات تناسب وول ستريت وتسير عكس المصلحة العامة”.
بعيدًا عن أو قريبًا من -لا فرق جوهري- الانتقادات التي وجهت للرجل عن مساهمته في تثبيت أزمة المناخ، وإحجامه كرئيس للبنك الدولي عن علاجها، نشرت جريدة الجارديان البريطانية منذ أسابيع تقريرًا، لم يَحظ بما يليق من إضاءةٍ مُستَحَقة، عن الزيادة التي شهدها رأسمال البنك الدولي في 2018، وهي الفترة التي كان ديفيد مالباس يعمل خلالها كوكيل لوزارة الخزانة الأمريكية التي كان لها الفضل الكبير في إقناع ترامب بالتوقيع بالموافقة على سداد أمريكا لحصتها في زيادة رأس المال البنك التي بلغت 13 مليار دولار. يشير تقرير الجارديان إلى أنه كان من المُقَدر أن تحصل مؤسسة التمويل الدولية وهي ذراع الإقراض التجاري التي تقوم بتمويل شركات القطاع الخاص على مبلغ 5.5 مليار دولار، من الزيادة برأسمال البنك. كان كل ما سبق معلومًا ومتاحًا للعامة باعتباره خبرًا لا بد -قانونًا- من الإفصاح عنه، لكن ما لم يكن يعلمه سوى بعض العاملين بالبنك الدولي، هو ما نقلته الجارديان عن تسجيل مُسَرب لحوار قد تم بأحد اجتماعات الإدارة التنفيذية بالبنك الدولي في 2018، قال فيه أحد المديرين نصًا، وحسبما نقلته الجارديان: “لدينا أميرٌ قادم سينضم إلينا في 16 يوليو. أريد أن أحذركم جميعًا من أن هذا الشاب اللامع هو ابن وكيل وزارة الخزانة، وهو ما كان مفيدًا لنا في الحصول على زيادة رأس المال”. أسهب المدير كما جاء بالحديث المُسَرَب ناصحًا زملاءه بأهمية الحاجة إلى التعامل مع روبرت ديفيد مالباس، الذي كان قد تَخَرَج لتوه في ذلك الوقت حاملًا درجة البكالوريوس من قسم الاقتصاد بجامعة كورنيل باعتباره “زميلًا صغيرًا مهمًا للغاية قد يركض إلى أبيه إن ساءت الأمور”. وقد أشار الحاضرون بالاجتماع، إلى أن ديفيد مالباس هو المستشار الأساسي لديفيد مينوشين وزير الخزانة الأمريكي، الذي ليس لديه أدنى فكرة عن الأمور، مما يفيد -حسب نص تحليل الجارديان- بأن ديفيد مالباس هو الأكثر نفوذًا من وزير الخزانة نفسه. عندما سأله أحد زملائه عما إذا كان مالباس الصغير ينتوي الاستمرار بالعمل، أم أنه يخطط للدراسة العليا، كان رد المدير مُلَخِصًا لأشياء كثيرة، إذ قال: “من المزعج القول، أنه يُحتمل أن يستمر في العمل معنا لسنة أو اثنتين ثم يتم نقله بعد ذلك للعمل بأحد صناديق التحوط في مكانٍ ما”، ثم يختتم المدير إياه بالقول الفصل: “علينا خلال هذين العامين أن نجعله سعيدًا وذو قيمة، نحتاج إلى تعليمه وما إلى ذلك حتى يمكنني الذهاب إلى والده والحصول على نقاط إضافية”. بعد تعيين والده رئيسًا لمجلس إدارة البنك الدولي، تقدم مالباس الابن باستقالته، حيث لا تسمح القواعد “المكتوبة” بعمل أفراد الأسرة الواحدة في نفس المنظمة، ثم كان ما كان.
بعد نَشر التسجيل المُسَرب، أعلنت مجموعة البنك الدولي في بيان رسمي أنها لا تعلم شيئًا عن هذا التسجيل، وأن أحدًا من أفراد إدارتها لم يتعرض لأي ضغط، أو تأثير في عملية توظيف مالباس الابن، وأنها قد اتبعت ممارسات التوظيف القياسية، حيث لم يتم تغيير معايير الاختيار لصالح شخص بعينه، ولم يُمنَح أي شخص معاملة تفضيلية نتيجة لأي علاقة عائلية. يبرع الأمريكيون كثيرًا في ترتيب الأوراق لكن للممارسات الفعلية على أرض الواقع شأن مختلف. وما يشهده العالم من ممارسات شركات الأوفشور المُشينة، وأعمال غسل الأموال بالنظام المصرفي الأمريكي رغم كل الإجراءات التي تصل إلى القيام بإعداد ملف كامل، بالغ التعقيد عن كل عميل يفتح حسابًا هناك فيما يُصطَلَح على تسميته بنظام “اعرف عميلك” (Know Your Customer KYC) سوى دليل على أن الشكل لدى الأمريكيين يغلب الجوهر، وأن الأوراق إن شئت ترتيبها وتنسيقها في النظامين الاقتصادي والمالي الأمريكيين لتلافي المسئولية “الظاهرة” هي أمرٌ يسيرٌ لا يمنع أبدًا من وجود مخالفات جسيمة، تتضح أبعادها بالممارسة الفعلية على أرض الواقع ويعززها السلوك الإداري لكبار التنفيذيين، ولنا فيما جاء بالتسجيل المُسَرَب على لسان المدير التنفيذي بالبنك الدولي في شأن الأمير المنتظر، الذى كان يبلغ حينها اثنين وعشرين عامًا من العمر، وخطة ذلك المدير لجعل الفتى سعيدًا وذا قيمة بغرض الذهاب إلى والده، والحصول على نقاط إضافية، دليل عملي وعبرة ومثال.
راح الأمريكي ديفيد مالباس، وجاء الأمريكي آجاي بانجا ولم تتغير في سياسات البنك الدولي، سوى مسألة الاعتراف بأزمة المناخ بينما تظل الممارسات على حالها وتبقى الفضائح مخفية حتى إشعار آخر.