انعقدت النية على أن أكتب عدة مقالات عن “مصر والسودان في القرن التاسع عشر”، على أساس أن ذلك مدخل لازم لفهم جذور العلاقات بين الشعبين على مدى قرنين كاملين من الزمان، وقد نشرتُ بالفعل أولها في موقع “مصر 360” بتاريخ 3 مايو/ أيار 2023، تحت عنوان “نحن والسودان: تاريخ مضطرب“.

ثم مع طول البحث وتشعب القراءة فيما يخص مصر والسودان معاً من دخول قوات محمد علي باشا السودان 1821م حتى اندلاع الثورة المهدية بعد ستين عاماً من الحكم المصري ، تبين لي – بعد مزيد من إدراك خريطة الموضوع – أنه يلزمني قبل ذلك إلقاء الضوء على فكر النخبة السياسية المصرية في القرن التاسع عشر ، طرأت الفكرة وأنا أقرأ ما كتبه رفاعة رافع الطهطاوي 1801 – 1873م عن سنوات قضاها في السودان حيث ابتعثه الخديو عباس حلمي الأول 1813 – 1854م  لتأسيس أول مدرسة للتعليم على النمط المصري الحديث في الخرطوم وذلك في عام 1850م ، في ظاهر الأمر كان مُبتعثاً من الخديوي في مهمة جليلة، لكن في حقيقة الأمر كان منفياً من خديوي لا يحبه ولا يحب العلم ويعتبره مثلما يعتبر نهضة محمد علي باشا ليست أكثر من غزو غربي للثقافة العثمانية الإسلامية .

نخبة مصر في القرن التاسع عشر باب واسع من أبواب الثقافة والفكر والسياسة والتاريخ، وبدون الوقوف عندها وفهمها يصعب فهم الدولة المصرية ذاتها ، يصعب فهم التعقيد الذي تتميز به مسيرة التحديث في مصر من مطلع القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا ،  كما يصعب أكثر فهم الردة التي تشهدها مصر -في عهد ما يسمى الجمهورية الجديدة- الردة عن التقدم المضطرد في مجال الحريات العامة والحقوق والواجبات. هذه النخبة سواء من المتمصرين أو من المصريين ، سواء من جاءوا مع الباشا أو من جاءوا من الفلاحين والصعايدة، سواء من تعلموا في الأزهر أو في أوروبا أو جمعوا بين علم الأزهر وأوروبا ، وسواء كانوا رجال دولة أو رجال فكر أو جمعوا بين تولي مسئوليات الحكم وشواغل الفكر، كل أولئك صنعوا قرناً متفرداً من تاريخ مصر الحديثة، قرناً شهد الصعود إلى سقف الإمبراطورية ثم شهد الانحدار إلى قاع المستعمرة، شهد مصر وهي تتوسع خارج حدودها في جزيرة العرب والشام والأناضول والسودان وقلب إفريقيا، ثم شهدها وهي تستسلم قدراً ومصيراً لاحتلال ثم حكم الإنجليز، القرن التاسع عشر ذاته لغز كبير، أطل ومصر تحت الاحتلال الفرنسي، ثم انزوى ومصر تحت الاحتلال الإنجليزي، ولم يكن مشروع محمد علي باشا غير مناورة بين احتلالين، تحالف مع احتلال سابق ليؤجل الاحتلال اللاحق. أوروبا كانت تخرج من ضيقها إلى وسع العالم، كانت في مطلع القرن على قَدَرمع الثورة الصناعية، وكانت عند خاتمته في صراع بين قواها الكبرى على اقتسام العالم أسواقاً لصناعتها ومصدراً للمواد الخام ومجالاً لتجريب سلاحها وتفريغ طاقة عدوانها، ولم تكن مصر استثناءً من هذا الطاعون الأوروبي الذي أحاط بالعالم غير الأوروبي من كل المحيطات والبحار .

الفرق بين رحلة الصعود إلى الإمبراطورية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم رحلة الانحدار إلى المستعمرة أو المحمية البريطانية في نهاية القرن ذاته، هو الفرق بين اثنين من أعظم رجال النخبة المصرية في القرن التاسع عشر، يمثلهما رفاعة الطهطاوي في مرحلة الصعود فقد عاش ومات قبل ثلاث سنوات من إفلاس مصر ثم قبل ست سنوات من عزل إسماعيل، عاش رفاعة ومات وهو على يقين أن مصر في صعود وأنها قوة حضارية عظيمة وأنها مركز التمدن في الشرق وأنها تحذو حذو الغرب على طريق التقدم بنجاح وتفوق، مات وهو لا يتصور عزل إسماعيل ووقوع البلاد تحت الاحتلال وتسابق النخبة لخدمة الأسياد الجدد وخنوع الحكام من سلالة محمد علي باشا لمشيئة الاحتلال. لهذا كان الطهطاوي يؤمن -عن صدق- أن محمد علي باشا هو من أحيا مصر من بعد موت وأن حفيده إسماعيل يسير على خطى الجد العظيم وأن مصر -بهذين الرجلين- مصيرها إلى قمة المجد وذروة القوة.

أما الأستاذ الإمام محمد عبده 1849 – 1905، فهو نقيض الطهطاوي، من زاوية أنه شهد الانحدار ولم يشهد الصعود، وعلى هذا هو لا يعترف لا بالباشا ولا بالحفيد، ينكر أن يكون محمد علي باشا مؤسس الدولة الحديثة، كما ينكر أن يكون حفيده إسماعيل صاحب نهضة، ويري الباشا مخرباً لمصر لا بانياً لها. الطهطاوي من ثمرات دولة محمد علي باشا ثم هو من بناتها ومؤسسيها كما هو من رموز حقبة إسماعيل، الطهطاوي فيه روح رجل الدولة المشارك والمسئول والمحابي والمجامل والمعترف بفضل الدولة عليه.

أما الشيخ عبده فصاحب عقل نقدي متحرر من أسر الدولة، بدأ ثورياً مع أستاذه جمال الدين الأفغاني 1838 – 1897م وخاض غمار الثورة العرابية وتداول فكرة اغتيال الخديو إسماعيل، ثم انتهى إصلاحياً بعد أن رأي مصر وغيرها من بلاد الإسلام تتساقط تحت الاحتلال الأوروبي فأيقن أن الأمر يلزمه إصلاح في العمق لا مجرد ثورات طارئة أو هبات غضب عابرة.

لكن، يتفق الطهطاوي وعبده  في حقيقة أنهما مصريان لا متمصرين، من قبلي وبحري، من عامة المصريين، لم يسبق لذويهم وأهليهم التعليم أو الترفيه الاجتماعي، ثم كلاهما تلقى العلم في الكتاتيب والقرية ثم في الأزهر الشريف، وكلاهما مشهود له بالنبوغ المبكر، الطهطاوي ذهب في أول بعثة تعليمية إلى فرنسا 1826م ومكث فيها خمس سنوات أتقن اللغة الفرنسية  وبعض العلوم الحديثة، واستمر يتعلم ويكتب ويترجم ويتولى المهمات العظيمة عمراً مديداً حتى مات 1873م، لكن الشيخ عبده علم نفسه بنفسه وأتقن اللغة الفرنسية وحصل العلوم والمعارف الأوروبية، ثم الرجلان جمعا بين العلم العربي الإسلامي والعلم الأوروبي ، كلاهما انفتح على الحضارة الأوروبية مع تمسك متين بأصول الثقافة العربية الإسلامية، لم يخرج أحدهما عن ثوابت العروبة والإسلام ، لم يقع أحدهما في أسر التعريب أو الأوربة أو العلمانية أو أي مستوى من مستويات الانسلاخ من الذات واللحاق بالغرب، لم يكن شئ من ذلك مطروحاً، كان الباشا مسلماً تركيا بكل ما في الإسلام التركي من فضائل وتناقضات ، وكذلك كانت سلالته من بعده تعتبر الدين الإسلامي ذي الطبع التركي مصدر شرعية لحكمهم في بلد غريب عنهم لا يربطهم به غير الإسلام والشرعية التركية بعد أن حازها الباشا بالذراع والخداع، لم يكن الخيار العلماني مطروحاً من الأصل.

لهذا فالجدل المعاصر حول إسلامية أو علمانية أي من طهطاوي وعبده هو جدل خارج عن السياق التاريخي للرجلين ، وهو الجدل الذي أساء تصوير الرجلين، وشوش تراثهما، ولوى أعناق أفكارهما، وحرم الأجيال من نعمة قراءتهما والاستفادة من تراثهما، وكل من الرجلين -في ذاته- مدرسة قائمة في السياسة والفكر والفقه وكافة أبواب النهضة، كل من الرجلين صاحب مشروع مستقل ،  مشاريع تنتمي للقرن التاسع عشر، قرن التأسيس، وما زالت منيرة ومضيئة في القرن ال 21.

—–

مفتاح المشروع الفكري والسياسي لكلا الرجلين يبدأ من رؤيتهما للمشروع الحاكم، مشروع محمد علي باشا وسلالته من بعده.

ولنبدأ بالطهطاوي، ففي كتابه “مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية” وقد كتبه في عهد إسماعيل، وأهداه إلى ولي العهد توفيق، أفرد الفصل الأول من الباب الرابع لفضائل محمد علي باشا، وقد جاء الفصل تجت عنوان ” في مناقب جنتمكان، محمد الاسم ، عليً الشان، وأنه نادرة عصره، ومُحيي مآثر مصره، والمقابلة بينه وبين عدة من مشاهير الأعصر القريبة “.

ثم في متن الكلام يقول: كان المرحوم محمد علي سليم القلب، صادق اللهجة، أميناً في تصرفه، حكيماً في أعماله، كريماً إلى الغاية، حريصاً على عمار البلاد، وفياً في معاشرته، حريصاً على ود عشيرته وجنوده ورعيته، متحبباً إليهم، وإن كان في بعض المواطن سريع الغضب، فقد كان قريب الرضا، حليف الحلم، صفوحاً عن الجاني، مقداماً على اقتحام الأهوال، صبوراً على الشدائد وتقلب الأحوال، شديد الحرص على شرف نفسه وصون ناموسه، قوي الفطنة، سريع الإدراك، يجول فكره في الأمور البعيدة، بصيراً في الحساب الهوائي العقلي، عجيب البداهة، غريب الروية.  تعلم القراءة والكتابة في أقرب وقت، وعمره خمس وأربعون عاماً آنذاك ، جبراً لما فاته في زمن الصغر، وتداركاً لما يزيد في مجده في زمن الكبر، فرغب في مطالعة التواريخ ، ولاسيما تواريخ الفاتحين، كتاريخ إسكندر الأكبر المقدوني، وتاريخ بطرس الأكبر إمبراطور الروس، أي الموسكو، وتاريخ نابليون الأكبر، وغير ذلك من التواريخ المترجمة إلى اللغة التركية، مع المواظبة على الإطلاع على ما في الجازيتات أي الصحف الإفرنجية التي كانت تُترجم له. وكان صاحب فراسة، إذا تكلم أمامه أحد بلغة أجنبية فهم مقصده بمجرد النظر إلى حركاته وإشاراته، يستشير العقلاء والعلماء في جل أموره، وكان نشيطاً يحب الحركة ويكره الكسل والبطالة، قليل النوم سريع اليقظة، يستيقظ غالباً عند الفجر، يسمع بنفسه العرضحالات التي تُعرض عليه يومياً عند الصباح، ويعطي عنها جواباً ، ثم يذهب لمناظرة العمارات الميرية التي كان مُغرماً بها.

ثم يقول: وكان مُتديناً إلى حد الاعتدال بدون حمية عصبية ولا تشديد، فكان يغتفر لأهل الملل والدول في بلاده التمسك بعقائدهم وعوائدهم مما أباحته في حقهم الشريعة المطهرة، وهو أول من أعطى للعيسوية -المسيحيين- الداخلين في الخدمات الميرية لمنافعهم الاقتضائية مزايا المراتب المدنية، وكان يؤثر الفعل على القول، بمعنى أنه إذا أراد ترتيب لائحة مهمة فيها منفعة للأمة شرع فيها بقصد التجريب، وأجراها شيئاً فشيئاً على طريق الإصلاح والتهذيب، فإذا سلكت في الرعية، وصارت قابلةً لعوامل المفعولية، كساها ثوب الترتيب والانتظام، وأخرجها من القول إلى الفعل في ضمن قانون الأصول والأحكام. وكان مولعاً ببناء العمائر أي الأساطيل، وإنشاء الأغراس أي الأشجار، وتمهيد الطرق، وإصلاح المزارع، وإتقان الصنائع والأعمال، يرغب في توسيع دائرة التجارة، ويستميل عقول الأهالي ليجذبهم إلى ما فيه كسب المهارة والبراعة.

ثم يقول: وبالجملة، فكان وحيد زمانه في جميع أوصافه، وفريد أوانه في عدله وإنصافه، لا سيما بعد أن صفا له الوقت عقب توليه على مصر، فإنه مكث قبل ذلك خمس سنين وهو يقاسي ما يقاسيه من الشدائد، ويعاني من أخصامه جميع أنواع المكائد، حتى عزم على رجوعه إلى وطنه الأول بدون صلة وعائد، لكن لوفور سعده ، وتعبه وكده، وسبق القدر بوصله إلى تمام عزه ومجده، صرف النظر عن العودة، ونال من واهب العطايا ما هيأه له من بحبوحة الملك وأعده”. انتهى الاقتباس. وجنتمكان كلمة تركية من مقطعين، جنة، مكان، وفي الترجمة العربية تعني “ساكن الجنان” .

– هذه الرؤية الطهطاوية هي الجذر الفكري لسيل متواصل من الكتابات لم يتوقف عن تمجيد الباشا كمؤسس لدولة حديثة أو كمن أحيا مصر من بعد مماتها، وهي الرؤية التي تستطربها الدولة سواء في عهد الباشا وذريته أو في عهود الحكام من ضباط الجيش الذين انقلبوا على أسرة الباشا لكن ظلوا ينتسبون لحكمه وميراثه وشرعيته، فكل ضابط من نجيب إلى ناصر إلى السادات إلى مبارك إلى السيسي يستبطن -وهو يحكم من قصور الباشا وذريته- أنه الباشا وأنه المؤسس وأنه من أحياها من بعد موتها، محمد علي باشا يعيش في الحكام من ضباط الجيش من ضباط 23 يوليو 1952م حتى ضباط 30 يونيو 2013م يعيش فيهم كما كان يعيش في ورثته من ذريته ومن ظهره ومن صلبه، الحاكم الوحيد الحي الذي لم يمت ويتجدد في شخص كل من جلس مكانه هو محمد علي باشا، وكما بدأ الباشا بمشروع عظيم وانتهى بفشل أعظم، كذلك كل من جاء من بعده سواء من أسرته أو من جيشه، الكل -دون استثناء- يبدأ بأحلام مثل الأوهام ثم ينتهي بإخفاقات مثل الكوابيس، مع استثناء أن الباشا هو الوحيد الذي يعتبر نسخة أصلية وكل من جاء بعده حتى يومنا هذا مجرد نسخ تقليد أو فالصو كما تقول اللغة العامية.

——

ثم ننهي برؤية الشيخ محمد عبده ، ففي غرة ربيع الأول 1320 هجرية الموافق سبعة من يونيو 1902م كتب الأستاذ الإمام محمد عبده في مجلة ” المنار” وجهة نظره في محمد علي باشا وتجربته، بتوقيع “مؤرخ” وتحت عنوان ” آثار محمد علي في مصر “. وقد ذكر الدكتور محمد عمارة 1931 – 2020م  في تقديمه للأعمال الكاملة للأستاذ الإمام أن موقفه هذا جاء في لحظة ارتفعت فيها الدعوات لإحياء ذكرى الباشا وتخليد إنجازاته ومآثره.

في ص 833 وما بعدها من المجلد الأول تقرأ عكس الطهطاوي تماماً ، فما كتبه الطهطاوي أقرب ما يكون إلى تراجم مؤرخي العصور الوسيطة الإسلامية، لكن ما كتبه الأستاذ الإمام فهو رصد وتحليل تاريخي معتبر، يبدأ من حكم المماليك، ثم حكم الفرنسيين، ثم حكم محمد علي باشا، نغض الطرف عن تحليله الرائع لحكم المماليك ثم حكم الفرنسيين، ونكتفي -في هذا المقام- بتحليله لحكم وتجربة ودولة محمد علي باشا.

يتساءل الأستاذ الإمام : ” ما الذي صنع محمد علي؟! لم يستطع أن يُحيي، ولكن استطاع أن يُميت !!، كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش، ويستعين بمن يستميله من الأحزاب، على إعدام كل رأس من خصومه ، ثم يعود بقوة الجيش، وبحزب آخر، على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل، فيمحقه. وهكذا، حتى إذا سُحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدع منهم رأساً يستتر فيه ضمير “أنا” ، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من الأهلين ، وتكرر ذلك منه مراراً حتى فسد بأس الأهالي، وزالت ملكةُ الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في نفوس بعض أفرادها، فلم يُبق في البلاد رأساً يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه.

ثم يقول : ” وأخذ يرفع الأسافل ويُعليهم في البلاد والقرى ، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحط الكرام، وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا أدوات له يستعملها في جباية الأموال، وفي جمع أي تجنيد العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة، من رأي وعزيمة واستقلال نفس، ليُصير البلاد المصرية إقطاعاً واحداً له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة. [ يقصد الأستاذ الإمام أن مصر في عهد المماليك كانت عبارة عن عدة أقطاعات يملكها ويتصارع عليها عدة من أمراء المماليك ثم في عهد محمد علي باشا أصبحت إقطاعية واحدة كبيرة يملكها الباشا وجده ويتوارثها أبناؤه وأحفاده ] .

ثم يعود الأستاذ الإمام ليتساءل: ماذا صنع محمد علي بعد ذلك ؟ أشرأبت نفسه ليكون ملكاً غير تابع للسلطان العثماني، فاستعان بالأجانب من الأوروبيين، وأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في الامتياز، حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكاً من الملوك في بلادنا، يفعل ما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبي بالحقوق التي حُرم منها الوطني، وانقلب الوطني غريباً في داره، غير مطمئن في قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذُلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة، وذل سامهم -أي أذاقهم- الأجنبي إياه غير واقف عند حد ولا مردود عند شريعة.

ويفند الإمام ما يقال عن نهضة الباشا العلمية والهندسية فيقول: “قالوا أنه أطلع نجم العلم في سماء البلاد، نعم ، عُني بالطب لأجل الجيش، والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان -يقصد الطب الشرعي- عندما يُراد إيقاع الظلم بمتهم. أما اهتمامه بالهندسة فلأجل الري حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير ليستغل إقطاعه الكبير . [ يقصد بالإقطاع الكبير مصر إذ امتلكها الباشا بوضع اليد ].

ثم يتساءل: هل تفكًر يوماً في إصلاح اللغة؟ عربية، أو تركية، أو أرناؤودية؟ هل تفكَر في بناء التربية على قاعدة من الدين والأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأياً في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يُقام بها الشرع ويستقر العدل؟. ثم يجيب: “لم يكن شئ من ذلك، بل كان رجال الحكومة إما من الأرناؤود أو الجراكسة أو الأرمن المورلية -يقصد من المورة في اليونان- أو ما أشبه هذه الأوشاب أي الأوباش والأخلاط من الناس ، وهم الذين يسميهم بعض الأحداث من أنصاره اليوم “دخلاء” . وكانوا يحكمون بما يهوون، لا يرجعون إلى شريعة ولا قانون، وإنما يبتغون مرضاة الأمير، صاحب الإقطاع الكبير.

ويعود الإمام ليتساءل: أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة؟ أين البيوت المصرية التي كانت لها القدم السابقة في إدارة حكومته أو سياستها أو سياسة جندها، مع كثرة ما كان في مصر من البيوت الرفيعة العماد الثابتة الأوتاد ؟!!.

وعن البعثات العلمية إلى أوروبا يقول: “أرسل جماعات من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها، فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟! كلا. ولكن استعملهم أدوات تصنع له ما يريد، وليس لها إرادة فيما تصنع. وجِد بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، ووجد بعض المهندسين الماهرين وليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس، فاحتاجوا إلى بعض المصريين، وظهر النبوغ عند المصريين في الطب والهندسة لأن ذلك مما لا يخشى المستبدون عواقبه . .

ثم يتساءل: هل كان له مدرسة لتعليم الفنون الحربية؟ أين هي؟ وأين الذين نبغوا من طلابها؟ فإن وُجد أحد نابغ فهل من المصريين؟ عدوا إن شئتم أحياءً وأمواتاً .

ثم يعترف الأستاذ الإمام أنه في عهد محمد علي باشا تمت ترجمة الكثير من الكتب الأوروبية في التاريخ والفلسفة والأدب ، لكن هذه الكتب فور خروجها من المطبعة أودعت في المخازن عشرات السنين حتى عهد إسماعيل ، وذلك لسببين : الأول أنه لم يكن في مصر من يجيد القراءة حتى يقرأ هذه الكتب. والسبب الثاني: أن ترجمة وطبع هذه الكتب كان يتم بضغط من الحكومات الأوروبية وليس عن اقتناع من الباشا.

ويذكر الأستاذ الإمام أن سلطة الباشا كانت تتخطف الشباب من القرى للتجنيد العسكري، كما كانت تتخطف الأطفال للتعليم مما كان يخوفهم من المدارس وينفرهم منها، تماماً مثلما كان الكبار يخافون التجنيد وينفرون من الجيش.

ثم يختتم بالقول “كان الرجل -يقصد محمد علي باشا- تاجراً وزارعاً وجندياً باسلاً ومستبداً ماهراً ، لكنه كان لمصر قاهراً ، ولحياتها الحقيقية مُعدماً ” . انتهى الاقتباس .

رغم اختلاف تقييم الرجلين مما يسمى الدولة الحديثة ، إلا أنهما يتفقان – بعد طول تجارب – أن التربية السياسية هي أول طريق الإصلاح .

وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله .