استقرت مصر على الاحتفال بعيدها القومي في يوم قيام ثورة 23 يوليو، وليس يوم إعلان الجمهورية في هذا الشهر منذ سبعين عاما، في حين استقرت تركيا على الاحتفال بعيدها الوطني يوم إعلان الجمهورية قبل قرن من الزمان.

ورغم أن هناك فارقا في “العمر” بين الجمهوريتين، إلا أن هناك فروقات أخرى كثيرة على مستوى الخبرة التاريخية والمشروع السياسي، وأيضا حجم التحولات التي شهدتها كل جمهورية.

وقد حملت لحظة إعلان الجمهورية التركية في أكتوبر 1923، معاني التحرر والاستقلال الوطني بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى واحتلال أجزاء منها، فقد كان مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك ليس مجرد زعيم سياسي كبير، إنما أيضا بطل تحرر وطني، وهنا تقاطعت الجمهورية التركية مع نظيرتها المصرية التي تم إعلانها في 18 يونيو 1953، في أنهما كانا في البداية نماذج تحرر وطني، فقد تأسست الجمهورية المصرية عقب الهزيمة في فلسطين، كما كانت مصر واقعة تحت الاحتلال البريطاني، فجاءت صرخة مؤسس الجمهورية المصرية جمال عبد الناصر، في وجه النظام الملكي الذي اعتبره مسئولا عن الهزيمة والاحتلال.

في تركيا، رفع مصطفى كمال أتاتورك شعار “السهام الستة”، الذي تضمن برنامجه التحرري، وهو يذكرنا بالمبادئ الستة التي رفعتها ثورة يوليو، صحيح أن مضمون المبادئ في كلا الجمهوريتين كان مختلفا، لكنهما اتفقا في التأكيد على الاستقلال الوطني ورفض الهيمنة الأجنبية كما أعلنا رفضهما للتعددية الحزبية.

وقد ظلت تركيا حتى عام 1946، تعيش في ظل نظام حزب واحد أي لمدة 23 عاما، وبقيت مصر في ظل نفس النظام أيضا لمدة 23 عاما، حتى قرر الرئيس السادات إعلان التعددية الحزبية عام 1976.

كما اختلفت الجمهوريتان في مشروعهما الثقافي والسياسي؛ حيث تبنت الجمهورية التركية في بدايتها نظاما علمانيا إقصائيا، وتبنت الجمهورية المصرية نظاما مدنيا يعتبر مبادئ الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع الرئيسية.

والحقيقة، أن أهم ما ميز تجربة مؤسس الجمهورية التركية هي العلمانية، فقد وضع أتاتورك دستورا جديدا للبلاد في عام ١٩٢٤، أعطى لنفسه الحق في تبوء منصب رئاسة الجمهورية ثلاث فترات أخرى أي في: 1927، 1931، 1935، وبلور مشروعه العلماني والسياسي، وألغت الجمهورية التركية التعليم الديني وتطبيق الشريعة، وحظرت تعدد الزوجات، كما منعت النساء من ارتداء  الحجاب وجعلت الأذان باللغة التركية، ولكن في نفس الوقت أعطت الجمهورية الناشئة، حقوقا متساوية للمرأة بما في ذلك حق التصويت وشغل المناصب الحكومية، كما نفذ سياسة التأميم في الاقتصاد، وسياسة التتريك ضد الأقليات العرقية.

لقد حافظت الجمهورية التركية على مبادئها الأساسية، رغم تغير نظمها السياسية، فقد ظلت تركيا دولة رأسمالية حليفة للغرب، حتى لو اختلف شكل هذا التحالف، كما بقيت جمهورية علمانية، حتى لو انتقلت من العلمانية الإقصائية إلى العلمانية المنفتحة التي تقبل التنوع الثقافي والمتدينين وغير المتدينين.

أما الجمهورية المصرية، فقد بدأت اشتراكية تقدمية تحالفت مع الاتحاد السوفيتي، واختلفت مع السياسات التركية في المنطقة واعتبرتها دولة حليفة للقوي الاستعمارية وعضو في حلف الناتو، في حين كانت الجمهورية المصرية تخوض معاركها ضد الأحلاف وتتبنى سياسة عدم الانحياز.

الجمهورية المصرية عرفت تحولا جذريا في عهد رئيسها الثاني أنور السادات، وانتقلت من الاشتراكية والتحالف مع الاتحاد السوفيتي إلي الرأسمالية، والتحالف مع الغرب والولايات المتحدة، وهو تحول كان أشبه بانقلاب على السياسات الاشتراكية في عهد عبد الناصر، وهو تحول جذري لم تعرفه الجمهورية التركية التي حتى حين، كانت تشهد انقلابات عسكرية تطيح بالنظام المدني القائم لم تكن تُحدث تغيرات جذرية في تحالفاتها الدولية، ولا في جوهر مشروعها السياسي فظلت دائما مخلصة للعلمانية والنظام الرأسمالي، حتي في فترات الاستبداد المؤقت على يد النظم العسكرية.

وهناك فارق آخر بين زعماء الجمهورية في كلا البلدين، فقد عرفت الجمهورية التركية في أعقاب زعيمها المؤسس أتاتورك إصلاحيين من داخل النظام، وهو ما لم تعرفة الجمهورية المصرية، صحيح أن في عهد السادات حدثت بعض الإصلاحات السياسية، ولكنها لا ترقى إلى اعتبارها إصلاحات عميقة للنظام القائم إنما كانت أقرب لتغيير دفة التوجه السياسي من اليسار إلى اليمين مع بعض التحسينات.

أما تركيا، فقد عرفت محاولات إصلاحية حقيقية من داخل النظام، بدأت الأولى على يد رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس الذي جاء من داخل النظام العلماني، وكان عضوا في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفي كمال أتاتورك، وحاول بناء علمانية متصالحة مع الدين، فأعاد الأذان باللغة العربية وتكلم باحترام عن الإسلام وسعى لتوسيع هامش الحريات، فاتهمه الجيش بالتآمر على العلمانية وانقلب على حكمه وأعدمه عقب انقلاب 1960.

أما التجربة الإصلاحية الثانية من داخل الجمهورية التركية، فكانت على يد تورجت أوزال في ثمانينيات القرن الماضي، الذي آمن بالعلمانية المنفتحة التي تقبل حضور الدين في المجال العام وليس المجال السياسي، كما أجرى أهم عملية إصلاح اقتصادي شهدتها تركيا في النصف قرن الأخير، وعزز الحريات العامة والتعددية السياسية، وفي عهده ظهر حزب الرفاه الذي فتح الطريق لظهور حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد ذلك.

تجربة المصلح الجراح أو المصلح من داخل النظام، تكررت في تركيا أكثر من مرة على مدار 100 عام، وهي تجربة لم تعرفها مصر طوال عهود زعماء جمهوريتها الثلاثة السابقين.

يمكن القول، إن التشابه في بعض الجوانب كان بين الزعماء المؤسسين للجمهوريتين أي أتاتورك وعبد الناصر، أما بعد ذلك فقد غاب عن الجمهورية المصرية الزعماء المصلحون من داخل النظام على عكس ما شهدته الجمهورية التركية، ونظرا لأن عمر الجمهورية المصرية هو سبعين عاما، وعمر الجمهورية التركية هو قرن كامل، فإن هذا يجعلنا نأمل في العقود القادمة أن تصبح الجمهورية المصرية مدنية وديمقراطية.