السهم الطائش حركة في وجهة غير محددة أو مقصودة، وقد تصيب هدفًا ما وتأتي بالصيد بشكل عشوائي، ولكنها قد تصيب ما لا يجب أن يصاب، أو تصيب ما يجب علينا حمايته ورعايته.. والحركة الطائشة في كل الأحوال هي حركة في المحل، حركة خادعة، تشعرك أن شيئًا ما يجري وأننا نتقدم إلى الأمام، ولكننا في الحقيقة نتحرك حول أنفسنا، دون أن نُقدم جديدًا ودون أن نضيف شيئًا.

بالتأكيد يحتاج خطابنا النقدي الراهن إلى مراجعة، ولكن كيف يمكننا فعل ذلك؟ كيف ننتج خطابًا لا ينفصل عن الواقع الإبداعي والاجتماعي والسياسي المعيش؟ ولا ينفصل في الوقت نفسه عن وعيه التراثي وانفتاحه على النظريات الغربية الوافدة؟

يحتاج الخطاب النقدي، مثل غيره من الخطابات، إلى مراجعة مستمرة، ليس لأننا نشهد تحولات اجتماعية وسياسية كبيرة فحسب، ولكن لأن المراجعة فعل مستمر وضرورة أساسية لكل ممارسة ثقافية، والنقد– كما تعلم- عمل منهجي يقوم بالأساس على أكتاف افتراضات نظرية، والنقد النظري – بطبيعته – فعل تحاوريّ (من الحوار) واسع مع حقول معرفية متعددة من ناحية، وواقع نصي إبداعي هو بدوره متغير متحوّل، من ناحية أخرى، ومن ثَمَّ، فالنظرية- أي نظرية – تحاول تقديم تصورات شاملة لعدة أنواع أدبية، أو لعدة أشكال في النوع الأدبي الواحد. ليس هذا فحسب، وإنما تحاول النظرية التنبؤ بما قد يحدث في هذه الأنواع وتلك الأشكال من تطور وتغير مستقبلًا.

ومن المفارقة أنَّ شمول النظرية وطموحها الكبير يظل مجرد طموح نظري، لا يحظى بالتحقق على صعيد الواقع الإبداعي؛ فالإبداع – بطبيعته – عمل طليعي شديد التحول، ومن الصعب التنبؤ به، فضلًا عن ضبطه ووصفه. وهذا يعني أن الإبداع يتفلت من تأطيرات النظرية، أي نظرية، ويطمح- بحكم فرديته وأصالته- إلى آفاق جديدة وأرض بكر لم تطأها قدم من قبل.

وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن النظرية، وما ينبثق عنها من منهج أو مناهج، في حاجة إلى تعديل وتطوير مستمرين، وربما إبداع وابتكار جديدين.. وهكذا تبدو العلاقة بين النظرية والنص في حال من المطاردة والملاحقة التي لا تعرف سكونًا أو استقرارًا.

وإذا كان هذا هو واقع النظرية في علاقتها بالنص، والنص في علاقته بالواقع والمُسْتَقْبَل، أدركنا كم هي حاجة الخطاب النقدي إلى المراجعة والمساءلة الحرة الجسور… مساءلة لا تطمئن إلى ما بأيدنا من إرث، ولاتطمئن في الوقت نفسه إلى ما يرد إلينا من تراث الآخرين ونتاج عقول أبنائهم.. مراجعة لا ترتاح إلى يقين الجواب ولا تنعم بهدوء اللحظة، فأساسها التساؤل الذي يستولد التساؤل من الجواب.. وهكذا.

وإذا أخذنا هذا المعنى في الاعتبار – وهذه ضرورة لا مفرَّ منها- ونحن ننظر في واقعنا النقدي، في ارتباطه الآلي (والحزين) بالنقد الأورو- أمريكي، تأكدنا كم نحن في حاجة إلى خطاب نقدي يستند على أساس نظري يمكنه الوفاء بوظيفته الأساسية، وهي مقاربة النص الإبداعي مقاربة تظهر مستوياته الجمالية والثقافية، دون أن ينفصل فيها ماضي النص/ تراثه عن واقعه، ولا ينفصل فيها واقعه المعيش عما يمور حوله من تيارات ومناهج لا تتوقف عن الحراك والتدافع.

أزمة الخطاب النقدي

من هنا يأتي الحديث المتصل عن أزمة الخطاب النقدي.. والمتابع لا يحتاج المتابع إلى جهد كبير كي يكتشف عمق أزمة الخطاب النقدي العربي؛ فقد جعلت البعض يتساءل– في شيء من القسوة- ماذا لو حذفنا أسماء: “جاكبسون”، و”بارت”، و”تودروف”، و”إيكو”، و”دريدا” وغيرهم من مدونتا النقدية المعاصرة، فما الذي يتبقى لنا مما أنتجته قرائح النقاد العرب؟ ( د.عز الدين المناصرة)

لا تخلو هذه القسوة مما يبررها بالتأكيد؛ فسياقها مشحون بالغيرة والرغبة في إبداع حقيقي يمكننا من مجاوزة النسخ المعرفي إلى المشاركة في إنتاج المعرفة. ورغم ذلك، فليس من الإنصاف في شيء أن ننكر الأزمة وندَّعي أنَّ لنا ما ليس لنا، وليس من الإنصاف أيضا أن نُنكر أو نتجاهل بحوثا جادة – مشرقية ومغربية – حاول من خلالها أصحابها تجاوز هذا الواقع؛ فهناك أسماء كبيرة انشغلت – منذ عقود – بشكل مباشر بأزمة النقد المعاصر، وشرعت جديا في البحث عن سبيل آخر…  ( منها على سبيل المثال: شكري عياد في “الرؤئ المقيدة” وفي “علم الأسلوب العربي”، ومصطفى ناصف، في معظم ما كتب، و”صلاح رزق” في “أدبية النص” وعبد العزيز حمودة: “المرايا المقعرة” و”الخروج من التيه”، وعبد السلام المسدى: “التفكير اللساني في الحضارة العربية”، وسيد البحراوي: “في نظرية الأدب محتوى الشكل مساهمة عربية”…وغيرهم).

العمل الفردي وغياب التيار النقدي..!

والملاحظ أن هذه الدراسات، على ما بُذل فيها من جهد، لم تستطع أن تبلور حولها تيارًا أو تجتذب أنصارًا من شباب الباحثين- فضلًا عن شيوخهم- يحملون الهمَّ نفسه ويبحثون له عن مخرج حقيقي. وتفسير ذلك أمر يطول بشأنه الجدل؛ فقد يرى البعض عدم جدوى هذا المسعى خاصة ونحن نحيا في عصر تلتقي فيه الثقافات والأفكار وتنتقل في سرعة من مكان إلى مكان، وما من سبيل إلى كبح جماحها. وقد يرى البعض الآخر الكفاية فيما ننقله عن الغرب من مناهج وأداوت معرفية، خاصة أنَّ من بعض من تحدَّث في “النظرية النقدية العربية” لم يخرجوا من أسْرِ المنهجية الغربية، فراحوا يفتشون عمّا قد يناظر بعض المقولات الغربية في التراث العربي، في اعتزاز غير مبرر بالتراث، أو على طريقة هذه بضاعتنا ردَّت إلينا…!!

( انظر مثلا د.عبد العزيز حمودة: المرايا المقعرة، فقد جعل – في حماسة واضحة – الإمام “عبد القاهر الجرجاني” سابقا لـ”شولز”، فأفكار “الجرجاني” تبدأ من حيث انتهى “شولز”، ونجد الأمر نفسه أو قريبا منه مع “دوسوسير”. انظر المرايا المقعرة)

والمعترف به من قبل الجميع أنه لا توجد معرفة معزلة عن سياقها، تلتقي في ذلك العلوم التطبيقية ومنتجاتها المختلفة مع العلوم الإنسانية، وإن كانت العلوم الإنسانية أكثر خصوصية، فإذا جاز لنا أن نستورد ما تنجزه العلوم التطبيقية الغربية من منتجات ونقلها إلى واقع مغاير للواقع الذي أوجدتها، فمن المؤكد أنه لا يجوز لنا أن نفعل الأمر نفسه فيما يخص العلوم الإنسانية، وفي القلب منها مناهج النقد الأدبي التي تقارب نصوصًا تنشغل بجوهر ما في الثقافة من اختصاص وتميز.

النقد والهوية

وهنا نجد أنفسنا وجهًا لوجه مع سؤال “الهوية”، وهو سؤال الأزمة بالنسبة لأمة حية، ولكنها لا تجد لها موضع قدم فيما يجري.. ومن ثم فلا يمكن اعتباره – في هذه اللحظة- ترفًا فكريا أو تخوفًا مصطنعًا؛ فسؤال الهوية يلامس العناصر الأعمق للوجود التاريخي والاجتماعي للأمة، هو كذلك لأنه يتماهى مع منظومة القيم والمبادئ التي تكوِّن الوجود الحضاري لكل أمة؛ فالهوية تميز وخصوصية وتفرد، وهذا التفرد- في قراءة للظاهرة الحضارية، من منظور اشبنغلر- روحُ الحضارة وسرُّ وجودها.

فالهوية هي السمات المائزة التي شكلتها منظومة القيم والاعتقاد لجماعة ما، وسؤال الهوية “يمثل اللحظة التاريخية لانكشاف هذه الخصوصية عن حالة استشكال مع مكونات المحيط، تضع الهوية في حالة من التعارض مع مدخلات ثقافية تعبر عما هو سائد، لكنه مقابل لما هو راسخ”.

ومن المعروف أن تواتر الحديث اليوم عن الهوية رهن بتواتره عن العولمة Globalization، فلا يمكن الحديث في أمة حية عن العولمة دون الحديث عن موقع الهوية ودورها، وإذا كانت العولمة حقيقة ماثلة، فإن الخضوع لها واستمرار الحياة في دائرة ردِّ الفعل ليس أمرًا محتومًا. ومن ثم، يتوجب علينا أن نصوغ سؤالنا بشكل مباشر:

كيف يمكن أن نسهم في إنجاز خطاب نقدي عربي دون أن ننغلق على التراث مكتفين به، ودون أن نذوب – ثقافيا وحضاريا – فيما يأتينا من الجانب الآخر عبر البحر أو المحيط؟

لا شك أنَّ القدرة على الإسهام في هذا التدفق المعرفي تتصل أوثق اتصال بوعينا بأنفسنا، بواقعنا المعيش وأسئلته الضرورية، وهي أسئلة يلتقي فيها السياسي بالاجتماعي بالثقافي والمعرفي بشكل عام، ويلتقي فيها وعينا بالذات الحضارية التي تميزنا عن غيرنا بوصفنا أهل “كتاب” جماليّ، ومن حول هذا الكتاب العظيم انبثقت معارفنا وتنوعت انشغالاتنا العلمية ضمن شبكة واضحة من الغايات والمقاصد التي يلتقي قيها الديني بالدنيوي على نحو منسجم، ودون أن يتعارض منطق العلم فيها مع منطق الوجدان، ولا ظاهر النص مع باطنه، ودون أن ينسيها الانشغال باللحظة الحاضرة عن تقديرها لتاريخها والوعي به، والاستفادة مما جرى فيه.. إلخ

لنقل إن لدينا هوية، أو بعبارة أوضح: لدينا خصوصية تضرب بجذورها في التاريخ، وهذا ما يجب أولا الوعي به، والوعي لا يعني الاحتفاء والاحتفال، الوعي يعني المساءلة والنقد والنقض أيضًا.. لا يجب أن نخشى شيئًا، فحتى النقض هو مستوى من الوعي، النقض لا يعني الإزالة والمحو وإنما يعني إعادة البناء أو إعادة التوجيه.

ولعلّ هذا هو أهم تحد يواجه الخطاب النقدي العربي المعاصر، هذا الخطاب الذي يجابه موجًا عاتيًا من النظريات والمناهج التي لا تكف عن التدفق والتحول والتغير، وهذا الوضع يفرض علينا -لاشك- استجلاء الأسس المعرفية التي يمكن بها لهذا الخطاب أن يتحدد، مستوعبّا ميراثه الحضاري، منفتحًا على عالمه المعاصر دون خوف أو وجل. فما تنشده هذه السطور هو أن تضع التساؤل على طاولة البحث، ولعَلَّ النقاش المستمر حوله أن يهدينا إلى ما نأمل.

يرتكز التساؤل السابق على أمرين:

الأول: أنه يفترض بداية أن هناك ملامح خطاب نقدي تخص كل أمة من الأمم، قد يلتقي بغيره من الخطابات لدى أمم أخرى، ولكن هذا لا يمنع بأي حال خصوصية ما تتمتع به الأمم الحية على اختلافها.

الثاني: أن التساؤل حول الخطاب النقدي العربي الراهن يُشكِّل جزءًا من تساؤل أعم، يتشكك في جدوى كثير من المحطات للمسار النقدي منذ بدايات النهضة إلى الآن، فهل استطاع هذا المسار أن يقدم لنا ما يمكن تسميته بالملامح النظرية لهوية نقدية عربية؟ أو أن يتحول من استهلاك المعرفة النقدية إلى الإسهام فيها؟

في المقالة القادمة نحاول تقديم بعض المحلوظات التي نراها ضرورية في هذا الإشكال الطويل الممتد.