على وقع مستويات تفاقم الاشتباكات المسلحة في السودان، تشهد حركة النزوح السوداني إلى مصر ارتفاعا ملحوظا. خصوصا بعد ارتفاع مستويات الإدراك العام، أن الأزمة ليست عابرة، وأنها مرشحة للاتساع؛ لتكون حربا أهلية علي أسس عرقية.
وقد لاحظنا خلال الفترة الماضية، أن هذا التدفق قد اتخذ عدة أنماط، منها النزوح إلى الداخل السوداني في المدن والجهات الآمنة، ومنها النزوح إلى دول الجوار الجغرافي المباشر، منها تشاد وجنوب السودان، في وقت أغلقت فيه إثيوبيا حدودها في وجه السودانيين.
ونظرا للعلاقة العضوية بين الشعبين المصري والسوداني، شهدت مصر أكبر موجة تدفق إنساني من السودان بعد بدء الاشتباكات في منتصف إبريل/ نيسان الماضي. حيث وصلها 200 ألف نازح، هربا من الحرب، وذلك إضافة لحوالي 250 ألفا آخرين قد حطوا في مصر خلال الثلاث سنوات الماضية، بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي التي ترتبت على فض الشراكة بين المكونين المدني والعسكري في السودان منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ومن ثم شهدت وظائف الدولة السودانية في مجالي التعليم والصحة قصورا، أسفر عن نزوح العائلات السودانية إلى مصر سعيا وراء الأمن وانتظام أبنائهم في المدارس والجامعات.
في الحالتين استقبلت مصر وشعبها بترحاب شديد وبمشاعر التضامن الفارين إليها من الضيم والحرب دون تأشيرات دخول، تطبيقا لاتفاقية الحريات الأربع، مع استثناء الذكور من 16- 50 عاما، لتقديرات أمنية مصرية مرتبطة بحالة الانفلات الأمني في السودان على مستويين، هما الإجرامي نتيجة هروب المساجين، وكذلك وجود تقديرات لخلايا تنظيمية مسلحة محسوبة على تنظيمات التطرف الديني.
خلال الأسبوع الماضي، طرأت تطورات دفعت الدولة المصرية إلى اتخاذ قرار بتعميم نظام الحصول على التأشيرة على الجميع دون استِثناء للنساء والأطفال وكبار السن، ويبدو أن دوافع اتخاذ القرار قد ارتبطت بالتطورات على الأرض، ذلك أن هناك حالة اتساع لحجم المعارك مع شدتها، وبالتوازي هناك حالة عجز إقليمي ودولي عن وقف إطلاق النار ودفع طرفي الصراع إلى التفاوض وبلورة عملية سياسية.
ويبدو أن النتائج المباشرة لهذه الحالة، هي اتخاذ السودانيين الموجودين خارج الخرطوم قرار الخروج من السودان نهائيا، وذلك مع اتساع رقعة المعارك الجغرافية سواء في دارفور أو في المناطق المحيطة بمدينة الأبيض، وهو ما رفع مستويات النزوح المتوقع إلى مصر إلى حالة نزوح مليوني، فطبقا للتقديرات الرسمية المصرية هناك توقعات أن يصل عدد النازحين من السودان إلى مصر إلى حوالى مليون نسمة مع نهاية ديسمبر/ كانون الأول القادم، وهو أمر إذا ما حافظ على هذه المستويات من النزوح يكون مهددا بإفراغ الدولة السودانية من غالبية سكانها من ناحية، ويضع مصر أمام مخاطر استراتيجية مرتبطة باحتمال تدفق نازحين من الغرب الإفريقي إلى الأراضي السودانية. طبقا لما تم ملاحظته من توجهات لمجموعات عرقية محددة في دول الساحل الإفريقي، وبرز على وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا، وحرص قوات الدعم السريع على التمركز في بيوت الأهالي المنهوبة استعدادا ربما لتوطين آخرين فيها على النمط الذي جرى في دارفور.
إجمالا، هذا المشهد الإنساني السوداني يحتم علي القاهرة إغاثة الملهوفين إلى أراضيها دون كلل، ويتطلب إدارة مصرية تتعامل بتخطيط شامل يجعل التدفق السوداني عنصر إضافة، وليس خصم من القدرات المصرية، خصوصا وأن مصر وبسبب موقعها الجغرافي الوسيط في العالم بلدا يعد مستقبلا ومصدرا، وكذلك معبرا للهجرات على مدى التاريخ، حيث كانت هذه الهجرات مصدر إضافة لها ولقدراتها الشاملة، وليس مصدر خصم منها وخصوصا في ضوء سياستها الثابتة في دمج القادمين إليها في المجتمع، ليعيشوا حياة طبيعية ويحظوا بفرص مساوية للمصريين.
وبطبيعة الحال تواجه الإدارة المصرية حاليا تحديا كبيرا، ليس بسبب التدفق السوداني الأخير إلى أراضيها ولكن بسبب تضخم عدد اللاجئين من كافة الجنسيات؛ ليصلوا إلى حوالى 9 ملايين، ما بين لاجئين لهم صفة اللاجئ القانونية وغيرهم، فمن ناحية هناك ضغوط على الاقتصاد الرسمي والخدمات الصحية والتعليمية، بينما يشهد الاقتصاد غير الرسمي حالة انتعاش، كما أن هناك ضغوطا على سوق العمل في قطاع الأعمال الخاص في وقت يعاني فيه المصريون من البطالة، وبالتوازي هناك رؤوس أموال منقولة من السودان لمصر وخبرات مهنية سودانية مطلوبة في مصر.
ومع هذا المشهد المعقد، تتصاعد مخاوف من ضغوط المنظمات الدولية علي مصر من تغيير سياستها في إدماج القادمين إليها، إلى إنشاء معسكرات إغاثية لهم معزولة عن المجتمع المصري وتديرها المنظمات، خصوصا مع تعدد زيارات هذه المنظمات للقاهرة ،وهنا لا بد أن ندق ناقوس الخطر، ذلك أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن يكون لها عدد من النتائج السلبية أهمها علي الإطلاق حرمان مصر من تدفقات رؤوس الأموال السودانية التي لها أنشطة فعلية في مصر، وحرمانها كذلك من الخبرات المهنية للسودانيين، خصوصا في مجالي الطب والتمريض علي سبيل المثال لا الحصر.
في المقابل، فإن علينا انتهاج سياسيات مخططة بشأن التعامل مع التداعيات السلبية للتدفق السوداني. وفي هذا السياق أقترح عددا من السياسيات التي أراها ضرورية؛ لمواجهة تحدي النزوح السوداني الكبير إلى مصر من ناحية، وتعاظم حجم الكتلة اللاجئة في القاهرة، خصوصا من ناحية أخرى ومن ذلك اتخاذ سياسيات وقائية؛ لمنع النزوح ومنها مضاعفة الجهود المصرية المبذولة لوقف الحرب وذلك على الصعيدين الإقليمي والدولي.
أيضا، التفكير في تدشين جهة مصرية للتخطيط وإدارة شؤون النازحين واللاجئين على نحو استراتيجي، و يمكن أن تكون ملحقة بشكل مبدئي بالمجلس الأعلى للشؤون الإفريقية الذي سبق، وأن اقترحت إنشاءه علي الرئيس السيسي عام 2018، وذلك في ضوء أن الإدارة المنفردة الحالية لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لهذا الملف، يعد تخليا عن حقوق سيادية لمصر مع توقيعها علي اتفاقية اللاجئين عام 1980.
وقد أقترح أيضا، الاستفادة من المبادرة المصرية القطرية للإغاثة الإنسانية للسودانيين، في توسيع حجم استيعاب المدن السودانية للسكان في الولاية الشمالية، وذلك بإنشاء المنازل والمدارس والمستشفيات في مدينة مثل دنقلا -على سبيل المثال لا الحصر- يمكن أن تكون نقطة البدء؛ لتوفير ملاذات آمنة وإنسانية للنازحين من حرب الخرطوم، تقلل من النزوح إلى مصر.
في هذا السياق، لا بد من الضغط على المنظمات الدولية؛ للتخلي عن اتجاهات سياسة إنشاء المعسكرات، لصالح سياسات تدعم إنشاء المزيد من المؤسسات الصحية والتعليمية بمصر، مع دعم الخدمات المجانية في المنشآت الموجودة بالفعل، والتي تخدم الفئات الأكثر ضعفا في قطاعات النازحين واللاجئين عامة. وفي تقديري أن التصريح للمهنيين في مجالي الطب والتمريض من كافة الجنسيات بالعمل في مصر في قطاعي الأعمال العام التابع للدولة، وأيضا في القطاع الخاص، وذلك في ضوء احتياج مصر لهذه الفئات.
على الصعيد الإعلامي، أجد وجوبا لتدشين حملات إعلامية تحتفي بالتنوع الإنساني، وتعتبره أحد أهم سمات مصر التاريخية وأحد مصادر قوتها وإنسانيتها معا، وذلك إلى جانب السياسيات الإعلامية الناجحة حاليا على القنوات الفضائية المصرية -خصوصا قناتي القاهرة وإكسترا نيوز- والتي تهتم بالمجريات السودانية في قوالب جديدة ومشوقة.
أما على الصعيد التعليمي، فإن الاهتمام وبشكل عاجل بتدشين محتوى قبول الآخر في المحتوى التعليمي، يبدو ضروريا ربما من العام الدراسي القادم، وفي جميع المراحل تجنبا لاحتكاكات المراهقين بعضهم ببعض في بعض مناطق التركز السكاني السوداني بالقاهرة.
وقد يكون من المهم التفكير في بلورة حالة تحفيز على الصعيد الإعلامي؛ لتنويع خيارات السكن والتعليم للسودانيين بالقاهرة، ليكونوا أقل تركزا وأكثر انتشارا في المدن والمناطق الأقل تكلفة على المستوي الاقتصادي، فالزقازيق مثلا شهدت وجودا تاريخيا للسودانيين فضلا عن نقادة بقنا، وكذلك أسوان وذلك؛ لتخفيف الأعباء عن القاهرة المكتظة أًصلا بالسكان.