لفظة “الحظوة معروفة”، وهم أصحاب المكانة والمنزلة، ولكننا نحتاج إلى رسم خرائطهم في مصر اليوم.

أما “الكُفية” -بضم الكاف- فهو ما يكفي من العيش، وهو ما لا يتحقق لغالبية المصريين اليوم.

فوفقًا لدراسة أجراها خبراء في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، زادت نسبة العمال المصريين المحرومين من الدخل الكافي من 55% في عام 2006 إلى 73.3% في عام 2018.

أما “الكَفية” بفتح الكاف، فلها معنى آخر يستخدمه عموم المصريين -ويتضمنه هذا المقال أيضا- ويقصد به من يقع في المصائب المادية والمعنوية، فلا يستطيع منها قياما ولا حراكا.

هذه الفذلكة اللغوية، أردنا أن تكون مقدمة نعيد بها النظر في بعض ما يشيع في فضائنا العام من نقاش حول: ما هي سمات الحراك؟ أو -بالأحرى- اللا حراك الاجتماعي في مصر الآن؟

وما هي أسباب هذا الانسداد الاجتماعي أمام القطاع الأكبر من المصريين: هل المشكلة في طبيعة تدخل الدولة؟ أم في السياسات النيوليبرالية المتصاعدة منذ التسعينيات من القرن الماضي، أم التعرض غير المتكافئ والمتحيز والإقصائي الواقع على بعض الفئات الاجتماعية؛ نتيجة هذه السياسات -كما ترى بعض الدراسات- أم الاثنين معا، كما أرى؟

وما هي تداعياته المستقبلية على الاستقرار السياسي والإصلاح الشامل؟

يقصد بالحراك الاجتماعي: قدرة الأفراد على التنقل عبر الطبقات الاجتماعية، ويعد جانبًا أساسيًا من جوانب مجتمع عادل وشامل.

إلا أن هذا المعنى التقليدي للمفهوم لا يستوعب أشكاله الأخرى من قبيل:

  • قدرة النساء على عبور فجوات عدم المساواة. يلعب النوع الاجتماعي أيضًا دورًا في الحراك الاجتماعي في مصر. من المرجح أن تكون النساء أكثر فقرًا من الرجال، كما أنهن أقل عرضة للوصول إلى فرص التعليم والعمل. ونتيجة لذلك تقل احتمالية تحقيق النساء للتنقل إلى الأعلى مقارنة بالرجال.
  • وقدرة الشركات على النمو، الصغيرة أن تصبح متوسطة، والمتوسطة أن تصبح كبيرة.
  • وأخيرا وليس آخرا؛ قدرة الأفراد على ردم فجوة المهارات والخبرات بغض النظر عن موقعهم في السلم الاجتماعي.

الأبارتايد الاجتماعي

والتعبير لعمرو عادلي -أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- ويقصد به أن من ولد فقيرا أو صغيرا أو ضعيفا أو مهمشا في مصر اليوم، يظل على حاله إلا من رحم ربي، ومن ولد غنيا أو كبيرا أو قويا أو ممكنا فهو كذلك إلى أن يشاء الله.

هذا الوصف ينطبق علي الأفراد والفئات الاجتماعية، كما ينطبق علي الشركات والمؤسسات: الغالبية العظمى من الشركات في مصر هي مؤسسات صغيرة غير رسمية -محلات البقالة ، ومحلات التصليح، وشركات البناء الصغيرة- التي تكافح من أجل البقاء في السوق غير المنظم، ناهيك عن النمو، حيث أن مؤسسات الدولة في أحسن الأحوال غير مبالية وفي أسوأ الأحوال معادية لهم بالسياسات والقوانين والإجراءات. في مقابل شركات كبيرة تؤدي روابطها المتميزة مع نخب الدولة والبيروقراطية إلى إنشاء مجموعة صغيرة من الشركات، تتمتع بوصول أفضل إلى التنظيم والائتمان والإعانات والمناقصات، ونتيجة لذلك تحقق أرباحًا عالية بشكل غير عاد.

ويمتد أيضا إلى المهارات والخبرات التي يحصلها الأفراد؛ حين نلحظ تفاوتا كبيرا فيها بين أفراد المجتمع بحسب موقعهم من السلم الاجتماعي وما توفر له من موارد.

هل يستوي من تعلم في مدارس الحكومة وجامعاتها وبين من تمتع بتعليم خاص؟ والخاص درجات ومستويات أيضا. انتقل 67%فقط من أطفال الأسر الأكثر فقرًا في السلم التعليمي، مقارنة بـ 97%من أطفال الأسر الأكثر ثراءً.

أيضا، تقل احتمالية تحقيق النساء في مصر للتنقل إلي أعلى من الرجال. على سبيل المثال 63% فقط من النساء صعدن إلى أعلى السلم التعليمي مقارنة بـ 83% من الرجال.

سمات خمس

الابارتايد الاجتماعي له سمات خمس:

  1. فهو ممتد زمنيا مستقر نسبيا. نظرًا لضعف القطاع الخاص الرسمي، من المرجح أكثر من أي وقت مضى أن يظل الوافدون الجدد إلى سوق العمل عالقين في الوظائف غير الرسمية، لا سيما إذا كانوا ينتمون إلى الطبقة الدنيا.
  2. والمصالح فيه راسخة، والتي تأتي من عاملين مرتبطين: الأول استقرار واستمرار أصحاب الحظوة مع القدرة على امتلاك الموارد وتوزيعها، وهي الظاهرة التي تبرز بجلاء في التعيين في الحكومة، والتي شهدت توريث للوظائف في بعض مؤسسات الدولة. التوظيف الحكومي له تأثير مباشر واضح على تجزئة سوق العمل: فهو متاح في الوقت الحاضر فقط لأقلية ذات امتياز (نسبيًا)، وبمجرد الحصول عليه، لا يتخلى شاغلو الوظائف عنه عمليا، ويمتد التوريث في بعض مؤسسات الدولة بين الأجيال المتعاقبة في الأسرة الواحدة.
  3. والحدود فيه بين أصحاب الحظوة وبين أهل الكفية حادة، وغير متحركة بما لا يمكن معه الانتقال بينهما بسهولة. يصعب انتقال العمالة غير الرسمية إلى رسمية لفترة طويلة، كما يندر الانتقال بين القطاعين العام والخاص في الوظائف، كما يندر تحويل النشاط الاقتصادي غير الرسمي إلى شركات رسمية. ويجري فيه “اكتناز الفرص” وليس الثروة والدخل فقط،
  4. ويقصد باكتناز الفرص -والتعبير لستيفن هيرتوج- في كتابه إلهام عن التنمية المحجوبة في العالم العربي، أن اصحاب الحظوة في العالم العربي لديهم ما يخسرونه أكثر من أي مكان آخر، وموقعهم الداخلي [داخل الامتيازات] أكثر استقرارًا بمرور الوقت، مما يوفر فرصًا وحوافز قوية بشكل خاص لـ “اكتناز الفرص”، ونتيجة لذلك ، غالبًا ما يقاوم هؤلاء الإصلاحات بنشاط سواء في الأنظمة الاستبدادية أو الديمقراطية.
  5. وهو يتمحور حول الدولة ويدور في فلكها؛ حيث يجد جذوره العميقة في الوصول غير المتكافئ والمتساوي لمواردها وحمايتها.

وبرغم ما يبدو من أننا نتحدث عن كتل متماسكة، أو طبقات متراصة في مقابل بعضها البعض -وهو ما يسيطر على الكتابات المختلفة التي تحلل فشل التنمية في عالمنا العربي- إلا إننا نحذر من هذا الفهم؛ لأنه لم يعد واقعا.

إن واقعنا الاجتماعي، والاقتصادي يتميز الآن بالتشرذم والتشظي وليس الازدواجية أو الثنائية بين: الطبقة الوسطى والعمالية، أو الطبقات الدنيا والعليا، أو الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي.

يمتد التشظي إلى مؤسسات الدولة التي توزع الامتيازات على مستويات عديدة، ويوجد داخلها تباينات في الامتيازات والدخول والفرص.

أدرك حقيقة التفاوت في توزيع المنافع داخل المؤسسات. العمال، وبيروقراطية مؤسسات الدولة في انتفاضة يناير/ كانون الثاني 2011، فكان حراكهم ضد المستويات العليا من الإدارة التي تمتعت بالامتيازات والدخل المرتفع، وحدث حراك مشابه للانتقال من العمالة المؤقتة إلي الدائمة، كان مقصده التمتع بالمزايا الاجتماعية والأمان الوظيفي الذي تحظى به العمالة الدائمة في هذه المؤسسات.

يمكن أن نشير إلي عديد الأمثلة في هذا الصدد: من تمييز بين مؤسسات يطلق عليها سيادية أو جزء من تحالف الحكم، كالقضاء في مقابل مؤسسات كالصحة والتعليم، لا تتمتع بنفس المزايا والفرص، وقد يؤدي استبعادك من تحالف الحكم الذي بات ضيقا إلى حرمانك من هذه المزايا والفرص، كما جرى للصحفيين.

مثال آخر: شهدت العقود الماضية التحول إلى السوق لبعض أجزاء من السكان – خاصة الداخلين الشباب إلى سوق العمل، والشركات الصغيرة المنضمة إلى الاقتصاد غير الرسمي المتنامي – ومع ذلك استمرت الحماية والامتيازات الداخلية للآخرين، سواء كانوا موظفين حكوميين أو شركات أكبر لها صلات عميقة بالدولة.

غالبًا، ما يكون موظفو الدولة محبطين، لكنهم يظلون محصنين من السوق، ويتمتعون بضمان اجتماعي رسمي، وهم آمنون للغاية في فترة عملهم.

نقطة أخرى وهي: إن التعرض للسياسات النيوليبرالية لا يحدث بشكل متساو؛ حتى في داخل الفئة الاجتماعية الواحدة، ومن ثم فإن التآكل لا يحدث بشكل متساو مما يؤدي إلي أشكال من الإقصاء الاجتماعي، وأنماط من الركود الاقتصادي لا يمكن لمفاهيم بسيطة -مثل الطبقة الوسطى- تفسيرها.

هل يمكن الحديث عن تطابق بين مصالح كبار الأطباء والمهندسين في مقابل صغارهم، برغم من أنهم ينضمون تحت نقابة واحدة؟ وهل تتطابق مواقفهم من الإنفاق العام علي الصحة أو البنية الأساسية؟ حيث يمتلك كبار الأطباء العيادات والمستشفيات الخاصة، كما يمتلك كبار المهندسين المكاتب الاستشارية؛ ففي حين يستقيل الأوليان من تقليل الإنفاق العام على الصحة؛ يستفيد الآخرون من زيادة الإنفاق علي البنية الاساسية، ولكنه يظل تعرض غير متساو؛ لأنه يرتبط أساسا بمدى قربك من أصحاب الحظوة في دولاب الدولة.

هل يبدأ الإقصاء اقتصاديا ثم يتحول إلى سياسي واجتماعي وثقافي؟ أم يبدأ سياسيا ثم يتحول إلى اقتصادي واجتماعي وثقافي؟

سؤال يستحق المتابعة، ولكن ما نحب أن نشير إليه هنا، وسبق أن عالجناه في مقالات عديدة، وهو تأثير ذلك على إعادة تعريف السياسة؛ فهي:

  1. تجد جذرها الأعمق في البعد الاقتصادي/الاجتماعي وليس الثقافي، ومن ثم فلم نعد بين استقطاب إسلامي علماني، ولكن بين أهل الحظوة وأهل الكفية، وكلا منهما يتوزع على فئات عدة.
  2. لا يمكن التعبير عنها من خلال أحزاب كبرى -كما استقرت السياسة لفترة طويلة؛ وإنما من خلال تحالفات بين فرقاء كثيرين. في العالم المعاصر لم يعد من الممكن تكوين جماعات المصالح الشاملة؛ لأن التجزئة والانقسام سيد الموقف. باتت أزمة التمثيل -تمثيل فئات اجتماعية والوكالة عنهم-مما تعاني منه النظم السياسية كافة -ديموقراطية وتسلطية، وهو ما يلقي بظلال كثيفة على الادعاء بتمثيل الأمة من قبل بعض الحكام أو استدعاء الشعب، باعتباره كتلة واحدة يجب أن تصطف خلف القيادة السياسية.
  3. وفي أوضاعنا؛ فإنه من دون سياسات انتخابية نزيهة ومستمرة، وفي الرئاسة كما في البرلمان والمحليات -أقول انتخابية لا ديموقراطية- لا يمكن بلورة مصالح الفئات الاجتماعية والثقافية والمحلية المتباينة.

في الحالة التركية؛ كانت عقيدة الدولة التي استقرت عليها لقرن -هي عمر الجمهورية فيها- أمران: انتخابات نزيهة لا تنقطع أبدًا -حتي في ظل الانقلابات العسكرية، وحرية تكوين الأحزاب، وإن حظر بعضها لأسباب مختلفة.

أما عقيدة دولة يوليو 1952، فكانت ولا تزال: لا انتخابات نزيهة مستمرة، ومصادرة لحرية التنظيم السياسي والمدني.

ما هي الاسباب التي دفعت لانتفاء وانسداد الحراك الاجتماعي في مصر الآن؟ وما هي إمكانية استمراره؟ وما علاقة هذا بالسياسات التدخلية التمييزية للدولة المصرية بين الفرقاء الاجتماعيين؟

هذا ما نناقشه في المقال القادم..