جاء المؤتمر الصحفي الذي انعقد بنقابة المهندسين يوم الخميس الماضي؛ ليؤكد انتصار إرادة المهندسين في تجديد الثقة في نقيبهم، ورفض استمرار حالة الانقسام المعطلة التي سادت النقابة على مدار الفترة الماضية، بسبب رغبة بعض الأطراف في فرض إرادتها، والهيمنة على النقابة، ومصادرة إرادة الجمعية العمومية وقراراتها في بعض الملفات النقابية والمهنية، التي تتعارض مع مصالح بعض تلك الأطراف.
المؤتمر الذي جاء بعد جهود وساطة من الدولة -ممثلة في بعض مسئوليها وأجهزتها- شهد إعلان استقالة هيئة المكتب، والاعتراف الرسمي بتجديد الثقة في نقيب المهندسين طارق النبراوي. فضلا عن الإدانة لما شهدته الجمعية العمومية في 30 مايو/ أيار، من أعمال بلطجة؛ لمنع إعلان النتائج، وكل هذا بالتأكيد يؤكد انتصار إرادة المهندسين ويعترف بها، وهو مع مؤشرات أخرى دلالة على وجود اختلاف نسبي، سواء كان اختيارا أو اضطرارا لطبيعة التعامل مع ملفات الحياة السياسية والنقابية بشكل يختلف عن السنوات السابقة، لكنه أيضا إشارة بالغة الدلالة على أن وجود قيادة محل توافق ودعم واسع من جمهورها، تطرح خطابا مسئولا وناضجا وتتبنى قضايا جمهورها، فضلا عن قدرتها على الحفاظ على مواقفها المبدئية الصلبة بالتزامن مع مرونة التفاوض والقدرة على انتزاع مكاسب، هو الاختيار والمسار القادر على تحقيق نتائج، ونجاحات وانتزاع مكاسب في الأوضاع الراهنة بكل تشابكاتها وتعقيداتها.
لكن، يبقى تعليق يخص الطريقة التي تم بها تجاوز احتقان الأزمة القائمة، منذ ما بعد أعمال البلطجة مساء يوم 30 مايو/ أيار، فهي طريقة أقرب لمحاولات التسوية والتراضي. وبالتأكيد، فإن إدراك وجود أزمة ومحاولة التعامل معها والوصول لحلول لها أو في الحد الأدنى تسويتها أمر إيجابي، لكن الأكثر إيجابية واتساقا مع مفهوم الدولة الحديثة وسيادة القانون، أن يتم الحل بشكل مؤسسي وأن يحاسب ويعاقب من أخطأ أو أجرم، وهو أمر يستحق إعادة النظر والتفكير فيما هو مقبل، وله دلالات تتعلق بوضع مؤسسات الدولة بمعناها الأشمل.
لكن، إذا كان كل ما سبق على مستوى نقابة المهندسين، وهى تحتاج الآن لتحرك سريع جاد منظم واسع جماعي، يستوعب طاقات المهندسين الذين خاضوا تلك المعركة، واحتشدوا في الجمعيات العمومية في 6 مارس/ آذار، و30 مايو/ أيار، ويعيد تشكيل أوضاعها الداخلية بما يدفعها للتقدم إلى تحقيق المزيد من المكاسب المهنية والنقابية، فإنه على المستوى العام ومع إيجابية ما جرى، لا تزال التساؤلات واجبة وقائمة حول ما سوف تنتهي إليه نتائج التحقيقات الجارية من النيابة العامة؛ بخصوص أحداث البلطجة التي جرت، ودور حزب مستقبل وطن ونوابه في هذه المسألة، وهل سوف يفرض القانون سلطته وسطوته؟ أم أن حسابات أخرى سوف يكون لها اليد العليا، خاصة مع تمسك نقيب المهندسين ومؤيديه بالبلاغات التي تقدموا بها، لا فقط من حيث كونها حق لهم، بل أيضا من حيث كونها قضية أوسع كثيرا من نقابة المهندسين كلها، لأنها تخص المجتمع كله، وتخص فكرة سيادة القانون وتطبيقه على الجميع، وتخص ضمان عدم تكرار مثل تلك المشاهد وتصور أي طرف أنه يمكنه بالعنف والبلطجة، أن يمنع إرادة الناس أو يجهض نتائج عملية انتخابية إذا جاءت في غير صالحه.
تجاوز وتسوية الأزمة -ولا نقول حلها- ربما يسمح الآن بعودة نقابة المهندسين لدورها، ومهامها ودون إخلال بتمسك النقيب والمهندسين بشكل عام باستكمال التحقيق في البلاغات المقدمة، وبمطالبتهم المتواصلة بإعلان النتائج الخاصة بالتصويت في جمعية 30 مايو، وهو حق للمهندسين وللنقابة بغض النظر عن وضوح النتيجة النهائية وجلائها بتجديد الثقة في النقيب، لكن هل يسمح الآن باستكمال الحوار الوطني الذى تأجلت جلساته التي كانت مقررة الأسبوع الماضي، ومفهوم ضمنا أن ذلك كان بغض النظر عن الأسباب المعلنة المتعلقة بالظروف الجوية وإصلاحات وصيانة مقرات انعقاد جلسات الحوار، كان تأجيلا سياسيا بالأساس مرتبطا بمساعي التهدئة والوصول لتسوية تتجاوز المزيد من الاحتقان، خاصة في ظل وجود حزب مستقبل وطن ضمن الأطراف المشاركة في الحوار الوطني وخشية احتمالات حدوث خلافات، وأزمات قابلة للتصاعد بين ممثليه وممثلي القوى المعارضة والمستقلين، لكن من الواضح الآن أن الحوار سوف يعود؛ لاستكمال جلساته الأسبوع الجاري، وبالتالي السؤال الأساسي إذا كنا قد تجاوزنا لحظة احتقان الأزمة على المستوى النقابي، فهل تم تجاوزها على المستوى السياسي؟
أغلب الظن، أن الأمور الآن أكثر هدوءا بالتأكيد بعد ما جرى الخميس الماضي، لكن هذا لا يمنع أن آثار ما جرى على الحياة السياسية والعامة لا يزال قائما، وسيظل كذلك لحين اختبارات أخرى تالية، وبالتالي فهناك ثلاث معالجات رئيسية: الأولى، الاعتذار السياسي من حزب الأغلبية عن مسئوليته، أو على الأقل مسئولية بعض قياداته عما جرى، وقد تحقق جانبا من ذلك باستقالة المنتمين له ضمن هيئة مكتب نقابة المهندسين، لكن الحديث الآن عن المحاسبة والمساءلة لمن تورطوا بالصور والفيديو في أحداث البلطجة بنقابة المهندسين، وهو على عكس ما يتصور البعض سيكون إن تم -وهو في ظني للأسف مستبعد- نقطة بالغة الإيجابية، والثانية، تقبل النقد العلني الواجب والوارد لدور وأداء حزب الأغلبية في هذه المسألة سواء سياسيا أو إعلاميا أو حتى على مستوى جلسات الحوار نفسه.. والثالثة، وهى الأهم، أن تتحول جلسات الحوار الوطني إلى جلسات أكثر جدية وعمقا وتفرز نتائج وتوصيات حقيقية، وهو أمر قد لا يبدو على صلة مباشرة، لكنه في الحقيقة وثيق الصلة، لأن اكتساب قدر من الثقة في العملية السياسية الحالية، والتي يعد الحوار أحد مساراتها الأساسية، تعرض لاهتزاز عميق بعد ما جرى في نقابة المهندسين خلاصته، أن كل ما يجرى كان وسيظل شكليا دون نتائج حقيقية، وحتى إذا أفرز نتائج لن تكون محل تطبيق أو تنفيذ سواء لعدم وجود إرادة سياسية أو لتعارضه مع رؤى، أو مصالح أطراف مثل الأحزاب المؤيدة للسلطة أو حزب الأغلبية في البرلمان أو غيره، وبالتالي فجزء مهم الآن من استعادة الثقة وتأكيد الجدية فيما يتعلق بالحوار، أن تتسارع جلساته وأن يتسع مجال النقاش الأكثر تفصيلا وتدقيقا واشتباكا فيه، وأن يفرز نتائج وتوصيات في بعض القضايا الرئيسية لقياس مدى قدرة إدارته وأطرافه على تحقيق ذلك والالتزام به.
فضلا عن ذلك كله، وليس خافيا على أحد، أن واحدة من الأهداف الرئيسية لقطاعات كبيرة من المشاركين في هذا الحوار، هو اتساع حالة الانفراج السياسي بشكل عام، وفى القلب منه استمرار وتسارع الإفراج عن سجناء الرأي، وهو ما تأخر وتعطل وتباطأ كثيرا في الفترة الأخيرة، على عكس ما كان متوقعا من تزايده وتسارعه مع بدء الحوار الوطني، والآن وبعد أحداث نقابة المهندسين، وكجزء من تأكيد مصداقية العملية السياسية وجديتها واستمرارها، وكذلك كجزء من احتواء حالة الاحتقان التي سادت الأجواء السياسية الأيام الماضية، فإن تسارع وتيرة عمليات الإفراج وشمولها لأسماء حزبية وسياسية بارزة قد يكون له أثر إيجابي مهم.