بعدما سقط حُكم الديكتاتور فوليجينسو باتيستا، الذي هرب في 1959، خارج البلاد حامِلا معه ملايين الدولارات في مشهدٍ تاريخيٍ مُتَكرِرٍ، بدأت كوبا تحت حُكم الكومنداتي فيديل أليخاندرو كاسترو، عهدًا جديدًا لم يستهله بأي إجراءات شيوعية حادة، إذ توجه الرجل فور توليه الحُكم إلى الولايات المتحدة؛ لترتيب العلاقات بين أمريكا وبين بلاده التى يُطلق عليها “الحديقة الخلفية لأمريكا”، حيث تبعد نحو تسعين ميلًا بحريًا عن شواطئ فلوريدا، وكانت المصدر الرئيس لواردات أمريكا من السيجار والسكر والروم. وعلى الرغم من أن إدارة الرئيس الأمريكي دوايت ديفيد إيزنهاور، كانت قد سارعت بالاعتراف بالنظام الجديد في كوبا، إلا أنه اعتذر الرئيس عن لقاء الكومنداتي لارتباطه بميعاد|؛ لممارسة رياضة الجولف! موكِلًا مهمة اللقاء لنائبه في ذلك الوقت ريتشارد نيكسون، الذي صار بعد ذلك رئيسًا لأمريكا وخرج من الرئاسة بفضيحة “ووترجيت”.

تركزت مهمة نيكسون، في أن يقدم لرئيسه تقريرًا عن شخصية حاكم الحديقة الخلفية الجديد وميوله السياسية. “إنه شخص بسيط ولا يميل بالضرورة إلى الشيوعية”، هكذا تحدث ريتشارد نيكسون، مُلَخِصًا انطباعاته عن الرجل. في العام التالي مُباشرة، قامت كوبا بالتعاقد على صفقة لشراء النفط من الاتحاد السوفيتي رفضتها أمريكا التي كانت تمتلك شركة تكرير النفط الكوبية، فما كان من كاسترو، إلا أن أصدر قراره بتأميم الشركة؛ ليتصاعد التوتر شيئًا فشيئًا بين البلدين؛ حيث توالت التأميمات التي لم تدفع كوبا مقابلها أية تعويضات -كما جرت العادة- للمُلاك الأمريكيين لتقوم أمريكا في 1961، بفرض حظر تجاري على كوبا في عهد الرئيس كينيدي، الذي أقَر خطة للإطاحة بحُكم كاسترو من خلال مساعدات قدمها لمتمردين كوبيين.

خروج محدود -على نحوٍ ما- عن النص: كان معروفًا عن الرئيس كينيدي عِشقه للسيجار الكوبي، فقد كان مُغرمًا بنوع تنتجه شركة كوبية شهيرة تُسَمى إتش أبمان H. Upmann صارت جزءًا من شركة قابضة لإنتاج السيجار هي شركة لاكاسا ديل هابانو La Casa Del Habano. وقع كينيدي حينها في مأزقٍ، إذ سيضطر للاستغناء عن عِشقه للسيجار؛ بسبب الحظر الذي كان على وشك توقيع قراره، فطلب من سكرتيره بيير سالينجر شراء كمية ضخمة من السيجار؛ لتخزينه قبل الحظر وقد كان. قام سالينجر بتوفير 1200 سيجار من النوع المفضل لرئيسه الذي وقع قرار الحظر مُطمئنًا هادئ المزاج.

كانت خطة الإطاحة بكاسترو، تقوم على الدفع بمتمردين كوبيين عبر “خليج الخنازير” الذي يقع جنوبي كوبا؛ لإثارة انتفاضة مسلحة بدعم من غطاء جوى أمريكي، إلا أن الرئيس كينيدي تراجع في آخر لحظة عن مسألة الدعم الجوى مما أفشل الانتفاضة، ليخرج الكومنداتي من الأزمة أكثر قوة مُرَسِخًا مكانته زعيمًا للبلاد، وليتفق بعد ذلك مع السوفييت بقيادة نيكيتا سيرجيفيتش خوروتشوف، على نشر صواريخ متوسطة المدى تردع من خلالها الولايات المتحدة عن أي محاولة جديدة للتدخل أو الغزو. كان تنامي العلاقات السوفييتية الكوبية مدفوعًا برغبة السوفييت؛ لتعزيز مركزهم في الصراع القطبي فوجدوا في نشر الصواريخ فرصة سانحة لن تتكرر للضغط على أمريكا، ومساومتها لتفكيك الصواريخ النووية الأمريكية في تركيا التي كانت مصوبة نحو الاتحاد السوفييتي. الحاصل أن طائرات التجسس الأمريكية رصدت بعد ذلك سفنًا سوفييتية كانت متوجهة عبر الأطلنطي إلى كوبا حاملةً رؤوسًا نووية؛ لتبدأ مسيرة ثلاثة عشر يومًا عصيبة وقف العالم برمته يشهد فيها استعدادات القيامة. قام كينيدي بفرض حصار بحري على كوبا؛ لمنع مرور أي سفن إليها ليقوم السوفييت بالرد سريعًا، بأنهم سيتقدمون صوب كوبا ولن يوقفهم أي حصار، تراجع السوفييت بعد ذلك بإعادة السفن التي تحمل الرؤوس النووية، تجنبًا للمواجهة في مقابل فك أمريكا للحصار البحري ووعد منها بدراسة تفكيك الصواريخ النووية الأمريكية من تركيا.

مرت تحت جسر التاريخ مياه كثيرة، تورط السوفييت في أفغانستان وجاء ميخائيل سيجيفيتش جورباتشوف حاملًا أفكار البيروسترويكا والجلاسنوست، وانتهت الحرب الباردة ثم انهار الاتحاد السوفيتي ذاته، وصارت الولايات المتحدة الأمريكية هي قائد العالم الوحيد. أضحى كاسترو في موقف لا يحسد عليه بل كان في واقع الأمر صاحب أسوأ موقف يمكن لحاكم أن يواجهه على وجه الأرض، إذ فقد حليفه الوحيد الذي كان يمده بالنفط والمال والدعم السياسي. تنحى الكومندانتي في 2008، عن الحُكم لأخيه راؤول ثم توفى في عام 2016، ثم غادر راؤول كاسترو في 2018، ليحل محله ميجيل دياز كانيل رئيسًا لكوبا بعد ستين عامًا من حكم آل كاسترو. لم يكمل دياز سنة واحدة في الحكم إلا وتوالت الأزمات المستحدثة تترى، كورونا ثم الأزمة الأوكرانية لتتعمق الجراح الاقتصادية بحديقة أمريكا الخلفية.

نشرت جريدة وول ستريت جورنال الأمريكية، يوم الخميس الماضي، تقريرًا جاء فيه أن الصين التي غَدَت المنافس الرئيس لأمريكا وفق إستراتيجية الرئيس بايدن للأمن القومي، قد قامت بإبرام اتفاق سري مع كوبا؛ لإنشاء منصة تنصت إلكترونية على شواطئها فيما ذكرني بأزمة الصواريخ النووية التي سردتُ ملخصًا عنها أعلاه، إذ تحولت طبيعة الصراع القطبي من مواجهات ردع نووية لم تُفَعَل إلى مواجهات اختراق إلكتروني؛ للتجسس ستتبعه بالتأكيد إجراءات أخرى أكثر إيلامًا للأمريكيين، حين يتم استخدام ما سيتحصل الصينيون عليه من معلومات في صراعٍ سيكون الاقتصاد عنوانه الأخطر. أشارت وول ستريت جورنال، أن تلك المنصة التي دفعت الصين لقاءها عدة مليارات من الدولارات، ستتيح للصين تغطية تجسسية للمجال الإلكتروني بالمنطقة الممتدة عبر الجنوب الشرقي لأمريكا، وهي منطقة بالغة الأهمية إستراتيجيًا من حيث هي ممر دولي للسفن وأيضًا -وهو الأهم- فهي منطقة تمركزٍ للقواعد العسكرية الأمريكية. كان تعليق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض مقتضبًا بما أضفى على الأمر مزيدًا من الغموض، إذ قال نصًا: “لقد اطلعنا على التقرير. إنه ليس دقيقًا”، فيما عقبت الجريدة أنه لم يوضح ما الذي يعتقد أنه ليس دقيقًا بالضبط خصوصًا، وأنه قد أتْبَع ذلك بتصريح بأن لدى بلاده مخاوف حقيقية real concerns بشأن علاقة الصين بكوبا، وأنها تتابعها عن كَثَب، فيما صرح السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ والمولود لأبوين مهاجرين من كوبا، كان أبوه يعمل نجارًا وكانت أمه تعمل في مجال تصميم الأزياء، أنه لو صح ما ورد بالتقرير فينبغي على الإدارة الأمريكية أن تفكر كيف سيكون رد فعلها، حيث اعتبر ميننيديز الأمر هجومًا مباشرًا على الولايات المتحدة. في الوقت الذي لم تعقب كوبا رسميا على الخبر، صَرَح متحدث باسم السفارة الصينية في واشنطون، بأنهم لا يعلمون عن الأمر شيئًا وبالتالى فلا تعليق لديهم عليه في الوقت الحالي. المُثير في سياق هذا الخبر، أن أنباءً كانت قد تواترت منذ فترة عن حراك ديبلوماسي؛ لتخفيف التوتر بين الصين وأمريكا إثر قيام الأخيرة بإسقاط منطاد تجسس صيني كان قد تم رصده على ارتفاعات عالية بالساحل الشرقي لأمريكا في فبراير الماضي، مما دعى وزير الخارجية الأمريكي أنتونى بلينكن، لإلغاء زيارة له للصين.

كانت كفة التجسس المتبادل بين الصين وأمريكا تميل بحسمٍ لصالح الأخيرة، التي استغلت علاقاتها الوثيقة بتايوان في تثبيت تلك الكفة لحسابها، إلى أن أتت الصين الآن لتعيد التوازن بضربة كبيرة وصفها عميل سابق لوكالة المخابرات الأمريكية، بأنها “صفقة ذات شأن” Big Deal. من المؤكد أن ما سيأتي بعد تلك الصفقة -على وجه التحديد- من أحداثٍ في تلك البقعة الساخنة وبقاع أخرى من العالم سيختلف كثيرًا عما قبلها، إذ أصبح الأمن المعلوماتي الأمريكي وبالأخص ما ارتبط منه بالتسليح على المحك بما قد يدفع بالأزمة إلى مزيد من التعقيد ستتضح أبعاده خلال الأيام القادمة.