مشكلة مصر هي مشكلة سياسية بالدرجة الأولى ، مشكلة مزمنة منذ فقدت استقلالها عند المائة الخامسة قبل الميلاد حتى الجمهورية الجديدة 2014م وما بعدها ، أكثر من ألفين وخمسمائة عام والسؤال الأكبر الذي تُمتحن به أقدار المصريين وتُرسم به مصائرهم هو : من يملك مصر ؟ ثم من يحكم مصر ؟ ثم يترتب على هذا وذاك سؤال منطقي : خيرات مصر لمن ؟ من يتمتع بها ؟ ومن يُحرم منها ؟. لذلك فإن فكرة الدولة الحديثة لم تبدأ مع اقتناء محمد علي باشا بعض المظاهر الأوروبية ، لكن بدأت مع وعي المصريين بأن مصر لهم على قدم المساواة فيما بينهم ، هي وطن بما يعنيه معنى المواطنة من التزام بواجبات يقابله تمتع بحقوق ، ومن هذا المعنى تبلورت فكرة ” مصر للمصريين ” ، ظهرت أول مرة عند الربع الأخير من القرن التاسع عشر وكانت الثورة العرابية بعضاً من تجلياته ، ثم في الربع الأول من القرن العشرين وكانت ثورة 1919م ترجمةً أمينةً له ، ثم عند منتصف القرن العشرين حيث كانت ثورة 23 يوليو 1952م محاولةً للتعبير الحاسم عنه ، ثم مع ثورة 25 يناير 2011م كمحاولة تم إجهاضها مثلما تم إجهاض كافة المحاولات من قبل ، ويظل سؤال اليوم والغد هو ذاته سؤال الأمس : مصر لمن ؟ من يملكها ؟ من يحكمها ؟ من يتمتع بخيرها؟ من يُحرم من التمتع بحقوقه فيها ؟! .
في الثامن والعشرين من يناير 2019 م ، بثت وكالة الأنباء الفرنسية أ . ف . ب . برقية إخباريةً عنوانها : ” سجال بين ماكرون والسيسي حول حقوق الإنسان في مصر ” . وفي متن البرقية الإخبارية تقرأ : ” دار سجال علني في القاهرة – يوم الاثنين – حول أوضاع حقوق الإنسان في مصر بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره المصري عبدالفتاح السيسي ، خلال مؤتمر صحافي مشترك في القصر الرئاسي . أكد الرئيس الفرنسي لنظيره المصري أن الاستقرار مرتبط باحترام الحريات الفردية ودولة القانون ، وقال أن الاستقرار الحقيقي هو ما يضمن حيوية المجتمع ، وكان قد أعلن قبل لقائهما أن يعتزم الحديث بصراحة أكبر حول حقوق الإنسان في مصر مع الرئيس المصري . وكان رد الرئيس المصري أن مصر ليست مثل أوروبا وليست مثل أمريكا ، والتعدد والاختلاف بين المجتمعات أمر طبيعي ، وقال لماكرون : انظروا لمصر بعيون مصرية ، لا تنظروا لنا بعيون أوروبية ، نحن ننظر لكم بعيون أوروبية لا بعيون مصرية ، حقوق الإنسان عندنا تختلف عن حقوق الإنسان عندكم ” .
ما قاله الرئيس المصري هو الصياغة المباشرة الصريحة غير الدبلوماسية للمستقر في ضمير السلطة الحاكمة في مصر ، من محمد علي باشا ودولته المسماة بالحديثة ، وحتى الرئيس السيسي ودولته المسماة بالجمهورية الجديدة . فلا حقوق ولا حريات إلا في حدود ما تسمح به السلطة ، الفرق بين الباشا والسيسي أن الأول كان يسخر أجهزة دعائية ضخمة للترويج في أوروبا لمشروعه التحديثي التمديني التحضري إلى آخر الأوصاف ، الباشا لم يكن أكثر من مملوك هزم كل المماليك ليكون المملوك الأوحد ، ولم يكن أكثر من مغامر عثماني يطمح لوراثة السلطنة الآيلة للسقوط ، وقد ورثت عنه ذريته طبائع المماليك والعثمانيين معاً ، حتى طمح الملك فؤاد ثم نجله الملك فاروق لإحياء منصب الخلافة وحمل لقب خليفة المسلمين وكلاهما شجع الجماعات السياسية التي جعلت من استعادة الخلافة الإسلامية بنداً مهماً في فكرها السياسي . رغم الباشا كان حريصاً على المسحة الأوروبية واسترضاء الأوروبيين واثبات أن مشروعه في مصر امتداد للحداثة الأوروبية ، أما الجهر باختلاف مصر عن أوروبا في معايير حقوق الإنسان – في الجمهورية الجديدة – فهو لحظة صدق من ديكتاتورية تتميز بالاتساق مع النفس ولا قدرة لها على ممارسة الانفصام بين جوهر استبدادي هو الجوهر وشكل ديمقراطي مزعوم .
في لحظة السجال بين الرئيسين الفرنسي والمصري حول حقوق الإنسان المصري – التي هي بالمناسبة منصوص عليها بالحرف في باب كامل في الدستور المصري الصادر في 2014م تحت عنوان الحقوق والحريات والواجبات العامة – في هذه اللحظة انكشفت على رؤوس الأشهاد ثلاث حقائق : الأولى هي حقيقة الدولة المصرية الحديثة وجوهرها الاستبدادي حيث تنكر من حقوق مواطنيها ما هو منصوص عليه في الدستور الذي حلفت اليمين على احترامه ولا فرق في الطبع الاستبدادي بين حقبة وحقبة إلا في أسماء الحقب من باشوية ثم خديوية ثم سلطانية ثم ملكية ثم جمهورية ثم جمهورية جديدة ، الفارق الوحيد أن الجمهورية الجديدة يتسق باطنها مع ظاهرها وكلاهما ديكتاتوري محض دون تزويق ولا تلوين . ثم الحقيقة الثانية تخص التحديث نفسه أي ما أخذته الدولة المصرية عن أوروبا فصارت بذلك حديثة تختلف عما كانت عليه قبل أن يحكمها الباشا وذريته من بعده ثم يخلفهم على حكمها ضباط من الجيش ، فالانتقال السياسي الذي حدث ليلة 23 يوليو 1952م هو أن ضباطاً من الجيش وضعوا نهاية لحكم ورثة الباشا والطبقة التي تشكلت حولهم على مدى مائة وخمسين عاماً ، ثم انفرد الضباط بملك ثم حكم مصر ما يزيد عن ثلاثة أرباع قرن وما يزالون . ثم الحقيقة الثالثة أن ذاك التحديث كان فرنساً في جوهره سواء من اعتماد السلطنة العثمانية على الخبرات الفرنسية من مطلع القرن الثامن عشر ، أو من اعتبار الحملة الفرنسية نفسها مشروعاً لنشر التمدين الأوروبي في الشرق الإسلامي ، أو من هيمنة الثقافة الفرنسية على النخب والتعليم المصري في القرن التاسع عشر حيث كانت كلية الحقوق ومدرسة المعلمين العليا جسوراً فرنسية داخل مصر .
لحظة السجال بين الرئيسين الفرنسي والمصري حول حقوق الإنسان في مصر كشفت كل ذلك ، كشفت الدولة ، وكشفت الحداثة ، وكشفت مايقرب من مائتي عام من استعارة الأفكار من أوروبا ومن فرنسا بالذات التي تلقت أول بعثة دراسية من أربعين طالباً – كان من أشهرهم رفاعة الطهطاوي – عام 1826م واستمرت خمس سنوات حيث عادوا إلى مصر 1831م .
السؤال الآن : لماذا ماكرون بالذات أو لماذا فرنسا بالذات ؟ أين ذهبت مجهودات قرنين من تعليم المصريين في فرنسا وغيرها من أوروبا وأمريكا ؟ ماذا أنتجت مدارس ومعاهد وكليات وجامعات وصحف ومنابر وجمعيات تم استنساخها من نظائرها الأوروبية ؟ أين ذهبت ثمرات بعثات دراسية لم تتوقف طيلة مائتي عام ؟ أين ذهبت ثمرات سعي فرنسي وأوروبي وأمريكي دائم و متواصل ومكثف لنشر قيم الغرب وثقافته في مصر وغيرها من بلدان غير أوروبية ؟ السؤال الأكبر : لماذا نحن هنا ؟ لماذا تباعدت المسافات بين الدولة المصرية والحداثة ثم لماذا تباعدت المسافات بين الدولة الحديثة ومجمل الحريات وحقوق الإنسان ؟ لماذا قررت الجمهورية الجديدة – وهي واثقة مطمئنة – أن حقوق الإنسان في مصر تختلف عن حقوق الإنسان في أوروبا رغم أن مصر لما أسست كلية عليا للقانون أسمتها مدرسة الحقوق الخديوية على اسم مدرسة الحقوق الفرنسية ومناهج فرنسية و أساتذة فرنسيين وقوانين فرنسية حتى زاحمهم فيها أوروبيون آخرون ؟ ثم لماذا الجمهورية الجديدة تجادل وهي قريرة العين بأن الحريات الفردية والعامة ليست من الأولويات رغم أنها جزء مهم في كل دساتير مصر وكلها مأخوذة من دساتير أوروبا من دستور 1923م حتى دستور 2014م ؟ وكيف تكون هذه الجمهورية جديدة وهي ليست غير عصارة مكثفة مركزة لاستبداد الدولة الحديثة من الباشا حتى السيسي ؟ .
المؤكد أن المصريين ، من خلال الدولة ومن خلال الجهود الفردية ، درس كثيرون منهم وتعلموا واقتبسوا واستعاروا من أوروبا أفكارها وقوانينها وعلومها وفنونها وآدابها وفلسفاتها ، جهد كبير استغرق أعمار أجيال واستنفد الكثير من الأموال . ثم من المؤكد كذلك أن مصر لم تكن وحدها في ذلك ، بل كانت جزءاً من حركة شعوب كثيرة في آسيا والأمريكتين وأفريقيا ترى أن النهضة يلزمها تحديث والتحديث يلزمه النقل عن أوروبا . ثم من المؤكد ثالثاً أن جهاز الدولة المصرية يُدار على مدى قرنين بأفكار أوروبية من بناء الجيوش حتى أنظمة الري والزراعة والتعليم والضرائب والقوانين إلى آخره . ثم من المؤكد رابعاً أن التعليم الغربي كان ومازال يضمن لصاحبه فرصاً أفضل في التوظيف والمكانة الاجتماعية وفرص الحياة سواء داخل مصر أو خارجها . لكن من المؤكد خامساً وأخيراً أنه دائماً كان في مصر – مثلما كان في غير مصر من بلاد غير أوروبية – من يعتبر ذلك تغريباً واستعارة لقيم أجنبية وموالاة لثقافة معادية وممالأة للمستعمرين وعدواناً على الثقاقة المحلية والهوية الوطنية ، فلم يكن الأخذ عن أوروبا محل ترحيب من كل المصريين ، وفي أحسن الأحوال بعض ما عندها مقبول وأكثره مردود عليها حتى أن الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي حريص في كتابه الأول الذي نشره عام 1834م أي بعد ثلاثة أعوام من رجوعه من فرنسا على أن يقول أنه يحث ديار الإسلام على الأخذ بما نقله في كتابه ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز ” من علوم الإفرنج ثم يستدرك ليقول ” ومن المعلوم أني لا أستحسن – يقصد من علومهم – إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية ” . أما رسالة الكتاب – كما يقول – فهي ” حث ديار الإسلام على البحث عن العلوم البرانية – غير علوم الدين – والفنون والصنائع ، فإن كمال ذلك في بلاد الإفرنج أمر ثابت ، والحق أحق أن يُتبع ، ولعمر الله أنني منذ إقامتي بهذه البلاد في حسرة – أي يشعر بحسرة – على تمتعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه ” .
بين رفاعة الطهطاوي 1801م – 1873م وطه حسين 1889م – 1973م وبينهما الأستاذ الإمام محمد عبده 1849م – 1905م ، ثلاث محطات كبرى في الفكر المصري المعاصر ، الثلاثة مصريون غير متمصرين ومن فقراء المصريين ، والثلاثة جمعوا بين الفكر والسياسة ، والثلاثة جمعوا – دون تناقض – بين علم الأزهر وعلم أوروبا ، والثلاثة من أصحاب المشاريع الفكرية والنهضوية الكبرى ، والثلاثة تأثيرهم تجاوز حدود مصر إلى العالمين العربي والإسلامي ، والثلاثة أعطى حضورهم مصر وزناًُ ثقيلاً بالقياس لمن حولها ، والثلاثة الصخب والاختلاف والاتفاق معهم وعليهم وحولهم قائم إلى اليوم والغد ، والثلاثة كانت وجهتهم فرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً ، والثلاثة جديرون – وأمثالهم كثيرون – بالدراسة لأجل الإجابة على السؤال اللغز : لماذا نحن هنا ؟ لماذا الحريات والحقوق منصوص عليها في الدستور ولكن الحكام يكتفون بالحلف عليها ثم العمل بعكسها ويدافعون عن حقهم في هذا التناقض ؟ لماذا كل هذا الجري وراء التحديث ثم لا تحديث ؟ لماذا كل هذا الاقتباس من دساتير أوروبا ثم ردة شاملة كاملة حيث رغبات الحاكم هي الدستور ؟ .
– لماذا يحرص حاكم أوروبي على حقوق الإنسان في مصر ؟ ولماذا يجادله في ذلك الرئيس المصري ؟ ولماذا الشعب فقد روح المبادرة كما فقد همة التضامن فوقف عاجزاً ليس له من الحقوق إلا ما يقرره الحاكم عليه من الواجبات كذلك ما يقرره الحاكم ؟ كيف تكون دولة حديثة وإرادة الشعب ليست محل اعتراف من الحكام ؟ كيف تكون دولة حديثة وهي تتوجس من الشعب ولا تثق في رشده ونضجه وقدرته على التمييز والفرز والاختيار العقلاني ؟ كيف تكون دولة حديثة وهي ترى الشعب خطراً عليها وعلى نفسه ومن ثم يلزم إحكام السيطرة عليه ؟
– المسألة تفسيرها في الاقتصاد ومصالح الحكام ومن حولهم من طبقات أكثر من كونها في الثقافة ، الاستبداد يخدم مصالح اقتصادية بعينها ويخدم امتيازات اجتماعية بعينها ، وأي تطبيق جاد للحريات وحقوق الإنسان هو – بالدرجة الأولى – تهديد لهذه المصالح وتلك الامتيازات . ثقافة الاستبداد تخدم مصالح وامتيازات فئوية أو طبقية ، مثلما النقيض صحيح ، إذ ثقافة الحريات والحقوق تزيل الامتيازات وتهدد المصالح وتوسع من دوائر المستفيدين من الخير العام ومن المشمولين بالسعادة العامة .
عبقرية الأستاذ الإمام محمد عبده 1849 – 1905 م أنه شيد تحليله الموجز للسياسة المصرية على أسس الاقتصاد السياسي أي على نوع المصالح المادية التي تخدمها السلطة ، فتحليله لحكم المماليك في القرن الثامن عشر أنه سلطة مركزية ضعيفة ، تسمح بتقاسم البلد بين عدة أمراء ، وعدة أقطاعات ، وعدة مراكز نفوذ وتجمعات مصالح وامتيازات ، وفي المساحة بين هذه المراكز الاقتصادية – السياسية المتعددة والمتنافسة بل والمتحاربة وجدت قطاعات من الشعب المصري مساحة للمناورة ، حيث اضطر كل فريق لكسب رضا أوسع قدر ممكن من الشعب ، ومن هنا نشأت الطبقة الوسطى في الحضر والريف ، أي أنها نشأت قبل دخول الفرنسيين عند نهاية القرن الثامن عشر ، كما أنها نشأت قبل دولة محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر . وكل ما فعله محمد علي باشا ودولته الحديثة – في تحليل الأستاذ الإمام – هو أنه بالقضاء على المماليك حول البلد من عدة إقطاعات متنافسة إلى اقطاع واحد كبير يملكه هو سلالته وأقاربه ورجاله ، حتى مشاريع الري الكبرى لم تكن في وجهة نظر الشيخ عبده إلا لخدمة ما يملكه الباشا من هذا الاقطاع الواحد الكبير الذي هو مصر بكاملها .
ثم أوروبا – لمصالحها الاقتصادية فككت أقطاع الباشا في العشر سنوات الأخيرة من حكمه حتى سيطرت على مقدرات البلاد المادية والأدبية ، ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952م وأعادت نمطاً جديداً من ملكية الدولة ، ثم جاءت الجمهورية الجديدة لتظهر ملكية الجيش . لذلك يظل السؤال الأكبر : من يملك مصر ؟ ثم من يحكم مصر ؟ ثم من يتمتع بخيرات مصر ؟ ثم من يُحرم منها ؟.
هذا المدخل الاقتصادي يساعدنا في فهم لماذا الدولة الحديثة نشأت استبدادية ولماذا استمرت كذلك إلى يومنا هذا ، الحفاظ على المصالح الاقتصادية والامتيازات الاجتماعية للحكام ومن حولهم ، لأجل هذا حافظت الدولة الحديثة على مضمون استبدادي لا تختلف فيه عن كل حكم سابق عليها من العثمانيين ومن قبلهم المماليك إلى كل من سبقهم ، ثم هي في الوقت ذاته تستعير أدوات وأفكار وعلوم أوروبية لكن في غير فلسفة ومضمون الحكم والسلطة ، ليكتب الشيخ رفاعة الطهطاوي ما يشاء ، ثم ليكتب الشيخ محمد عبده ما يشاء ، ثم ليكتب الشيخ طه حسين ما يشاء ، ليكتب هؤلاء وأمثالهم كثيرون ما شاؤوا ، لكن يظل الحكم هو الحكم ، يخدم مصالح وامتيازات من في الحكم .
هذه الثقافة الحديثة – ثقافة أوروبا حيث الحريات والحقوق والواجبات وتوازن السلطات وتكافؤ الفرص والعدالة والمساواة ونقد ومساءلة الحكام – كل ذلك بقي في مشاريع المثقفين والمصلحين الكبار مثلما بقي في بطون الدساتير وفي بطون الصحف وشعارات الدولة وخطب الحكام ، وهذه هي حدود وظيفته وحدود دوره وإمكاناته لا يتجاوزها ، لهذا مرت أكثر من مائتي عام والبنية التحتية لذهنية وعقلية وضمير السلطة هي الاستبداد ، كما أن الذهنية العامة لأغلبية الشعب لا تبتعد كثيراً عن هذا الأفق ، فإذا كان رئيس مصر في سجاله مع الرئيس الفرنسي قد جادل بأن حقوق الإنسان في مصر غير حقوق الإنسان في أوروبا فإن الأغلبية الكاسحة من المصريين تعتقد هذا الاعتقاد ، فالمسافة بينها وبين رئيسها ليست بعيدة ، لهذا أظهروا قدرة فائقة على تحمل ديكتاتورية الجمهورية الجديدة عشر سنوات متواصلة وما زالوا صامدين تحتها في صبر سلبي واستسلام قدري ، ثم مدوا حبال الصبر وخيوط الاستسلام على استقامتها بعد أن ترافقت مع الديكتاتورية حالة من الإفقار الممنهج لأغلبية المصريين الذين يسقطون على مدار الساعة في عسر اقتصادي وشدة معيشية فوق الخيال .
السؤال الآن : من أين بدأت هذه المعضلة المزمنة دولة استبدادية وحديثة أو دولة حديثة واستبدادية ؟
الجواب : بدأت من حكم نابليون بونابرت ، فهو غزو استعماري ، يعني سرقة بلد وقهر شعب ، ثم هذا الغزو لن ترضاه القوى الأوروبية المضادة لفرنسا الثورية ، ثم هذا الغزو من شأنه إغضاب الدولة العثمانية صاحبة السيادة على مصر والحليف التقليدي لفرنسا قبل وبعد الثورة ، كيف يمكن تبرير هذا الغزو بعيداً عن أهدافه الحقيقية الثلاثة : إزعاج بريطانيا في المحيط الهندي ، وجعل مصر مزرعة فرنسية بديلة عن المستعمرات التي فقدتها في الأمريكتين ، وعولمة الثورة الفرنسية ص 25 من كتاب المؤرخ الفرنسي هنري لورنس ” الأزمات الشرقية 1768 – 1914م ” ترجمة بشير السباعي .
” التمدين الجديد ” كان هو الغطاء الذي رفعه نابليون في تبرير غزو ثم تملك ثم حكم ثم نهب مصر ، يقول هنري لورنس ” في اللحظة التي يتم فيها إطلاق الحملة الفرنسية على مصر 1798م ، يجري البدء بالتموقع في نطاق زمن متجه إلى المستقبل ويتحرك في اتجاه التقدم ، فيجري اعتماد مصطلح ” التمدين الجديد ” ، أي سيرورة تحسين متواصل للعلوم والفنون ، التي لم تعد مجرد معارف وممارسات ، بل صارت أدوات لتحسين حياة الإنسان في المجتمع ، وسوف يصبح هذا المصطلح العنصر الرئيسي في ” الأفكار النابليونية ” . و ” التمدين سيرورة تاريخية يمكن تعريفها بأنها تتألف من ” درجات ” ، ويجري تصوير ارتقائها بلغة التقدم ، وهي تتألف من معطيات مادية مثلما تتألف من حقائق أدبية كما أنها تتميز بأهمية عالمية ” . النتهى الاقتباس . ولذلك ، رغم أن فرنسا لم تكن دخلت الثورة الصناعية بعد ، ورغم أنها لم تكن أكثر من بلد زراعي ، اجتهد الغزاة في تفهيم المصريين أنهم متخلفون وأن غزاتهم الفرنسيين متقدمون ، ومن ذاك اليوم تم – عن قصد وعمد – زرع الإيحاء بحواجز بين متقدمين في أوروبا ومتخلفين في الشرق .
ثم يقول هنري لورنس في ص 32 من الكتاب المذكور ” أن المسشارين الأوروبيين عند محمد علي باشا نصحوه بتسويق نفسه في أوروبا ، وذلك بإطلاق حملة دعائية موجهة للجمهور الفرنسي ، لتكون أول حملة موجهة من سلطة إسلامية إلى الرأي العام الأوروبي ، وضمن هذا المخطط ، يطرح محمد علي باشا نفسه في عشرينيات القرن التاسع عشر بوصفه ناشر التمدن في مصر ، يبدأ توجيه الخطاب إلى الأوروبيين ، ثم شيئاً فشيئاً يتم توجيهه إلى المسلمين ” .
ثم يقول هنري لورنس ” وسوف يصبح التمدين التيمة المستخدمة لتبرير طموح الباشا ثم يصبح برنامجاً سياسياً تتبناه سلالته ، ومن هنا نشأت تيمة والي مصر المكمل لرسالة نابليون والناشر للتمدن الحديث في مصر ” . انتهى الاقتباس .
هذا الكتاب أصدره مؤلفه في 2017م وجرت ترجمته ثم إصداره عن المركز القومي للترجمة في القاهرة 2018م .
جدوى هذا الكتاب أنه يفسر لنا : لماذا بعث محمد علي باشا الطلاب إلى أوروبا وبالذات فرنسا ؟ ثم يفسر لماذا جاءت مضامين الكتب التي ألفها رفاعة الطهطاوي متمركزة حول مفهوم التمدن حصراً ، وعنوان المجلد الأول من أعماله الكاملة ” التمدن والحضارة والعمران ” ، ثم أخيراً هذا يفسر لنا لماذا كان المستشرق جومار – وهو من كبار علماء الحملة الفرنسية على مصر ومن المقربين من نابليون بونابرت – لماذا كان هو المشرف العلمي على الطلاب المبعوثين بمن فيهم الطهطاوي ، ثم يفسر لنا التناقض بين طموح الأفكار التحديثية التي يطرحها الطهطاوي وبين أصول الاستبداد الحديث التي أرساها الباشا وسلالته حتى وصفته المؤرخة المصرية دكتورة بسكال غزالة تعليقاً على المؤرخ البريطاني بيتر جران بأن الباشا لم يظهر بعد 1815م باعتباره مؤسس مصر الحديثة ، بل باعتباره مخربها ” ص 19 من كتابها ” التحول الكبير : إعادة تكوين الثروات وشبكات التحول الاجتماعي في عصر محمد علي ” .
لماذا يتعايش النقيضان : التحديث والاستبداد ؟
هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله .