أصبح هناك خوف لدى عموم المصريين، أن تصاب أحياؤهم أو مقابر أمواتهم أو ما تبقى من حدائقهم بداء “التطوير” الذي أصبح غالبا مرادفا لمعاني عكس ما تحمله هذه الكلمة المحببة في نفوس الجميع.

والحقيقة، أن المحطة الأصعب في مسلسل “التطوير” الذي تشهده العديد من المدن المصرية، هو ما جرى ويجري في مقابر القاهرة، وتحديدا في السيدة نفيسة والإمام الشافعي، حيث تم هدم العديد من المقابر القديمة، التي كان بعضها تحفا معمارية لا تقدر بمال ولا بمائة كوبري، ومع ذلك تم هدمها تحت حجج واهية، أولها: أنها غير مسجلة كآثار، والحقيقة أن معظم كنوز القاهرة المعمارية بما فيها المقابر القديمة ليست مسجلة كآثار، وهو لا يعني هدمها، والثانية: رددها البعض أيضا وقالوا، إنه في عصور سابقة أزيلت مقابر، وأن منطقة العتبة بنيت فوق مقابر، فهذا لو كان صحيحا فهو حدث منذ قرون، وكانت وقتها الدول تدير خلافاتها مع معارضيها بالقتل والسلاح ولم يكن هناك لا حكم رشيد ولا دولة قانون، وكانت العمارة تعني الهدم وبناء الجديد، ولأن الدنيا تغيرت في السياسة وأصبحت معظم دول العالم تعيش في ظل دولة قانون، أو تسعى لبناء دولة قانون، وتغيرت في العمارة وأصبح جزء من سحر أي مدنية؛ هو الحفاظ على تراثها ومبانيها القديمة واندثرت مفاهيم الهد وكراهية التراث، وظهرت مفاهيم تتحدث عن “الهوية البصرية للمدينة”، وذاكرة المدن، وهي كلها مفاهيم تعزز من ثقافة الحفاظ على القديم، وتعتبر سحر المدن ليس فقط آثارها إنما مبانيها ومقابرها وحدائقها القديمة.

والحقيقة، أن مصر دخلت منذ سنوات في مسلسل “التطوير العكسي”، فلا تكاد تنتهي أزمة حديقة عامة أو توسيع شارع أو بناء كوبري على حساب مباني قديمة، أو شكل تراثي أو أشجار تاريخية إلا وندخل في أزمة أخرى جديدة آخرها ما يجري حاليا مع “جبانات القاهرة”.

وقد تري الدولة أن لها أسبابها وراء التمسك بمسلسل الهدم، مثل تشغيل شركاتها بالعمل في توسيع المحاور وبناء الكباري؛ حتى أصيبت القاهرة “بفائض كباري” غير مسبوق، أو من أجل البحث عن مصادر؛ لزيادة الدخل بنشر المحلات على حساب أي مساحة خضراء.

والحقيقة، أن كلا الهدفين غير مرفوضين في ذاتهما؛ لأن من الوارد أن تحرص الدولة على تشغيل شركاتها، ومن الطبيعي أن تبحث عن زيادة مداخلها، ولكنه يمكن أن يحدث ذلك بمائة طريقة أخرى غير ما نشاهده حاليا عبر سياسة “التطوير العكسي”.

مقابر القاهرة أو الجبانات التي جاري هدم جانب منها، نشأت تحت سفح المقطم في القرن السابع الميلادي ودفن فيها من الصحابة عمرو بن العاص، وعقبة بن نافع وأبو ذر الغفاري وآخرون، كما شيدت بها أضرحة للحكام وأولياء الله الصالحين، وامتدت في عصر محمد علي؛ لتشمل مناطق الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، والتي أصبحت تشكل الهوية البصرية لجانب من مدينة القاهرة على مساحة 500 فدان ويمتد لمسافة 12  كيلو متر، وشيد فيها حوش الباشا وتوفيق و”البرنسيسات” وباشوات محمد علي وأعيان مصر، ورموزها الثقافية في مجالات السياسية والفن والشعر والأدب.

حين يقال الهوية البصرية للقاهرة، فإن هذا يعني الحفاظ على مساحة منطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي كما هي، والمطلوب تجديدها وتطويرها وجعلها مزارا سياحيا للمصريين والأجانب.

فالناس يعودون للمدن التي تربوا أو تعلموا فيها لذكرياتهم معها، والهوية البصرية لأي مدينة هي عبارة عن لقطة أو صورة، وهي التي تجلب السياح والزائرين لمن يريد أن يفكر بطريقة مختلفة وعلمية في نفس الوقت.

إن مفهوم الهوية البصرية للمدينة، أو ذاكرة المدن هي مفاهيم سائدة في علم العمارة المعاصر، ولكنها في نفس الوقت مفاهيم سياحية ومالية، وستجلب لبلادنا العملة الصعبة لمن لا يفكرون إلا فيها، لأنها تعني تكريس لقطة عن البلد يراها العالم لعقود، فصورة الأهرام هي في ذاتها  جاذبة لملايين السياح حول العالم، طالما ظلت بعيده عن أيدي “التطوير” الحالي، ونفس الأمر ينسحب على جبانات القاهرة، فهي هوية بصرية للمدينة استقرت في أذهان الملايين داخل مصر، وخارجها ولا يجب أن تشوه بمحور ولا بكوبري،  وإذا تم تجديدها وتنظيفها فستصبح واحدة من أهم المزارات السياحية في العالم.

هل تخيل أحد أن الحكومة اليونانية أثناء أزمتها الاقتصادية الطاحنة فكرت أن تؤجر، أو تشوه معلمها السياحي الأبرز في أثينا وهو “الأكروبول” من أجل بعض السيولة النقدية؟ ولماذا حرص البولنديون بعد أن هدم بالكامل وسط العاصمة أثناء الحرب العالمية الثانية، أن يعيدوا بناءه بتقنيات حديثة وبنفس تفاصيل الشكل القديم مهما كانت التكلفة. ولم يقولوا إن الحل في بناء أبراج ضخمة تباع بمليارات الدولارات، بدلا من إعادة بناء المباني القديمة، كما أننا لم نجد من يطالب بإزالة أكشاك الكتب القديمة على نهر السين؛ لتوسعة الممشى هناك، ولا يمكن لأحد أن يذهب لمنطقة السلطان أحمد في إسطنبول، ويجد مقبرة قد أزيلت أو مبنى قديم هدم من أجل توسيع طريق، فقد ظلت معالمها كما هي لا تتغير.

ولذا علينا ألا نندهش حين نجد أن كل هذا البلاد التي احترمت تاريخها، وآثارها يزورها أعداد من السائحين أضعاف ما يصل إلى مصر، وتدخل خزينتها أموال بالعملات الأجنبية أضعاف ما تجنيه مصر. فهل سنعي أسباب ذلك؟