في ظل هذا الكم الهائل والضخم من القضايا التي تطرح على مرفق القضاء، بأنوعه المختلفة ( مدني – شرعي – جنائي ) وكذلك التطور المستمر في المجتمع وتنوع المعاملات، كل ذلك أدى إلى إرهاق العاملين بالقضاء و تراكم القضايا، وكذا طول أمد الفصل في النزاعات، وكذا تشعب وتعقيد الإجراءات القضائية، ذلك بخلاف التكاليف المادية التي تثقل كاهل المتقاضي، وارتفاع تكاليف التقاضي، والزيادة المضطردة في الرسوم القضائية، سواء كانت رسوم إقامة الدعاوى، أم كانت الرسوم المترتبة على استخراج الأوراق والمستندات، أو تقديمها على المحكمة، ذلك بخلاف ما يتعين على المتقاضين دفعه من مصاريف أخرى، تتمثل في أتعاب الخبراء والمحامين والمحضرين والمترجمين، لهذا أصبح من الضروري البحث عن وسائل بديلة؛ لحل النزاعات وإبداع آليات جديدة قديمة في نفس الوقت، كالصلح والتحكيم أو الوساطة الآلية الحديثة، هذه الآليات القانونية تمكن الأطراف من حل خلافاتهم بشكل سريع وعادل وفعّال، وتضمن لهم مرونة وحرية لا تتوفر عادة أمام القضاء.

وتعد الوساطة من أبرز الوسائل البديلة؛ لحل المنازعات خارج  نطاق المحاكم والهيئات القضائية الرسمية؛ حيث تتميز بسرعتها في حسم النزاع و الحفاظ على السرية، خاصة بعد أن صار اللجوء الى المحاكم يأخذ وقتا طويلا، وجهدا كبيرا و تراكمت أعداد مرتفعة من القضايا. وتمثل الوساطة أحد الوسائل البديلة؛ لتسوية المنازعات، يلجأ فيها أطراف النزاع لشخص ثالث يسمى الوسيط يتولى مهمة التقريب بين وجهات نظرهم المختلفة؛ للتوصل إلى تسوية ودية بينهما. فإما أن يتم اللجوء إليها باتفاق الأطراف وقبل طرق باب المحاكم فتكون وساطة اتفاقية، أو أن يتم اللجوء إليها بعد رفع الدعوى القضائية وبإحالة من قاضي الدعوى، فتسمى وساطة قضائية، ويعرف الوسيط على أنه طرف خارجي نزيه يتولى إجراء عملية الوساطة.

وتتجه بعض النظم القضائية للتوسع في سبل الوساطة، واختصاصات الجهات الوسيطة، بأن تمنح الوسيط دوراً فاعلاً في المسألة المعروضة عليه، بأن يكون له الحق في اقتراح الحلول المناسبة وعرضها على طرفي المنازعة، وهناك نظم يقف فيها دور الوسيط عند حد الاتفاق الموجود بين الطرفين؛ لإيجاد أفضل السبل المناسبة لإنهاء النزاع عند تلك الحدود، ويمكن للوساطة أن تكون قضائية، وهي التي تتم تحت إشراف القضاء. ذلك أن القاضي بعد توصله بملف القضية، وبعد تحديد نقط الخلاف؛ يقوم بمباشرة إجراءات الوساطة قاض من القضاة المكلفين بقضايا الوساطة كوسيط. وإما يطلب من الأطراف التوجه إلى أحد الوسطاء، وهذا هو المعمول به في كاليفورنيا. أو قد يصدر أمرا إلزاميا بالوساطة، كما هو الحال في فلوريدا. وقد تحيل المحكمة النزاع على وسيط محترف مسجل ضمن قائمة الوسطاء المؤهلين والمعتمدين لدى المحاكم لممارسة الوساطة. وهو بحسب الأحوال شخص طبيعي، كقاض متقاعد أو محام أو خبير، أو مستشار قانوني، أو شخص معنوي (مؤسسة مختصة في الوساطة)، كمراكز الوساطة والتحكيم.

وقد انتشرت الوساطة في معظم دول العالم، خصوصا في المنازعات التجارية والمدنية، لكونها تختصر الوقت والمصروفات، وتبقي على العلاقات بين الكيانات المتنازعة، وتسعى إلى حسم النزاع بما يحقق النفع للطرفين.

وفي المجال الجنائي تعد الوساطة الجنائية أحد الوسائل الحديثة، التي اتجهت إليها التشريعات المقارنة؛ من أجل وضع حلول عملية للمشاكل التي يعاني منها نظام العدالة الجنائية، وحتى يمكننا دراسة الإطار المفاهيمي، ينبغي علينا التعريف بالوساطة الجنائية وتحديد طبيعتها القانونية وخصائصها، فالوساطة هي وسيلة لحل المنازعات ذات الطبيعة الجزائية، والتي تتأسس على فكرة التفاوض بين الجاني والمجني عليه، على الآثار المترتبة على وقوع الجريمة، ويترتب على نجاحها تعويض المجني عليه وتأهيل الجاني وإصلاح الآثار المترتبة على الجريمة، وتمثل الوساطة نمطا جديدا من الإجراءات الجزائية التي تقوم على الرضائية في إنهاء المنازعات الجزائية، كما تعتبر الخيار الثالث للنيابة العامة؛ حيث كانت سابقا تتجه إلى إحدى الطريقتين: إما حفظ الدعوى أو متابعة الإجراءات الجزائية.

ويبدو دور الوساطة في المجال الجنائي في الجرائم ذات الأثر البسيط مجتمعياً، والذي لا يوحي بالخطورة الجنائية، والاعتياد الإجرامي، وتبدو قيمته في تعويض المجني عليه بشكل أسرع من سبل التقاضي التقليدية، كما أن فوائده تختصر العقوبات السالبة للحرية، وتمنع من ظاهرة تكدس السجون، وقد بدأت النظم الجنائية الحديثة تتجه إليه، وعلى سبيل المثال، فقد اتجه المشرع الجزائري إلى إقرار الوساطة في المجال الجنائي، وبحسب المذكرة الإيضاحية التي صدرت عن وزارة العدل؛ بخصوص التعديلات التي طالت قانون الإجراءات الجزائية بناء على القانون رقم 15/02، فإن هذه التعديلات تهدف إلى: ” تفعيل دور النيابة في مختلف مراحل الإجراءات إلى جانب وضع آليات جديدة، تضمن رد فعل جزائي ملائم ومتناسب مع القضايا القليلة الخطورة “، وعلى رأسها نظام الوساطة والذي يعتبر حسب ما ورد في المذكرة: ” آلية بديلة للمتابعة الجزائية في مادة المخالفات وبعض الجنح البسيطة، والتي حددها المشرع على سبيل الحصر، ويُلجأ إليها تلقائيا من طرف وكيل الجمهورية، أو بناء على طلب الضحية، وللنيابة إمكانية المبادرة بهذا الإجراء، كلما رأت من شأنها وضع حد نهائي للإخلال الناتج عن الجريمة وضمان جبر الأضرار الحاصلة للضحية ”. ما نشير إليه أن هذه التصريحات اقتصرت فقط على المبررات التي لها علاقة بتراكم القضايا الجزائية، والتي يكون مصيرها، إما المعالجة السطحية وإما الحفظ، وفي كلتا الحالتين تصبح العدالة الجزائية عاجزة عن التصدي للجريمة، إن التأكيد على هذا الهدف من تبني نظام الوساطة الجزائية، لا يدل على أنه هو المبرر الوحيد، بل أن هناك عدة مبررات سبق لنا طرحها تتقاطع مع الأهداف التي قصدها المشرع، والتي تتجاوز المبررات التي تبناها هذا التصريح.

ومن خلال ما سبق، فإنني أدعو السادة أصحاب الأمر في التشريع، وخصوصا المحامين من أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ، إلى السعي نحو دراسة ما توصلت إليه النظم القضائية المختلفة في خصوص الوساطة كأحد سبل إنهاء المنازعات القضائية، واستحداث نصوص قانونية في مجال قانون الإجراءات الجنائية، بما يفتح الباب لهذا النموذج أمام المنازعات البسيطة جنائياً، والتوسع فيه في المجال التجاري والمدني.