جاء عرض رئيس الأمانة الفنية بالحوار الوطني المستشار محمود فوزي، لثلاثة من العناوين التي حظت بالتوافق العام بين المشاركين في جلسات الحوار الوطني خلال كلمته بمؤتمر الشباب الأخير بالإسكندرية، وتعهد رئيس الجمهورية بالتزامه بتنفيذ ما يتم التوافق عليه ضمن صلاحياته الدستورية، وإحالة ما يحتاج لتشريعات لمجلس النواب، كخطوة أولى في طريق إصدار توصيات من جلسات الحوار الوطني، ومتابعة آليات تنفيذها وتطبيقها وما سوف تصل إليه.

العناوين الثلاثة التي طرحها المستشار فوزي: هي تعديلات جوهرية على مسائل الوصاية على المال، وإصدار قانوني مفوضية مناهضة التمييز وقانون حرية تداول المعلومات، وإذا كانت الأولى قضية اجتماعية بالغة الأهمية والأثر، فإن القانونين المطروح إصدارهما هما استحقاق دستوري تأخر الالتزام به كثيرا.

ورغم التوافق على ضرورة إصدار القانونين، إلا أن الجلسة الخاصة بقانون تداول المعلومات شهدت كلمات قوية فيما يتعلق بوضع الحريات بشكل عام وفي قلبها حرية الرأي والتعبير، خاصة مع ما جرى قبل انعقاد الجلسة من حجب مواقع ومنصات صحفية جديدة دون أسباب واضحة، فضلا عن ملفات حبس الصحفيين والمواطنين بتهم نشر أخبار كاذبة وغيرها من التهم التي صار تكرارها فاقدا للمصداقية، فضلا عن أن الجلسة نفسها شهدت وجهات نظر تستحق التقدير والتفهم، تتحفظ على توقيت طرح القانون في ظل تركيبة البرلمان الحالي، وهى مسألة لا بد أن تكون محل تقدير وتفهم سياسي وبحث عن أطر للحلول لا تتجاوز صلاحيات البرلمان التشريعية، لكن في نفس الوقت تقدم ضمانات جادة، لأن تكون التشريعات التي سوف تصدر بناء على توصيات من الحوار الوطني ترجمة حقيقية للمطلوب منها لا تفريغا لنصوص التشريعات من مضمونها، كما جرى سابقا في العديد من الموضوعات وكما قد يكون التخوف الحالي، فضلا عن نقطة أخرى جديرة بالاعتبار وهي مدى الالتزام بتطبيق التشريعات التي تصدر، خصوصا أن في الممارسات القائمة كثير من الأمور في العديد من الملفات التي تتعارض وتتضارب مع نصوص قانونية قائمة بالفعل.

فيما يتعلق بقضية حرية تداول المعلومات، وباعتبارها إلزام دستوري منذ صدور دستور 2014 وفقا لنص المادة 68 منه، والتي تنص على أن (المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمداً. وتلتزم مؤسسات الدولة بإيداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها بدار الوثائق القومية، وحمايتها وتأمينها من الضياع أو التلف، وترميمها ورقمنتها بجميع الوسائل والأدوات الحديثة، وفقاً للقانون). وإذا كان النص الدستوري يبدو واضحا في أهدافه، فإن نصوص القانون المقترح لا بد أن تترجم ذلك الإلزام باعتباره حق للمواطنين بشكل عام، وتنظم محاسبة من يتعمد حجب المعلومات أو إعطاء معلومات خاطئة، وصحيح أن العبرة بالتنفيذ والتطبيق، لكن أيضا ضمان ضبط نصوص القانون وشمولها هي خطوة أولى ضرورية ولازمة، خاصة أن قضايا حرية المعلومات وكذلك حرية الرأي والتعبير تتصادم مع مفاهيم تقليدية لمصطلحات مثل: الأمن القومي وغيرها، وهي مسألة تحتاج لتكون بالغة الوضوح والتحديد في تعريفها القانوني، وكذلك في تحديد مدد الوثائق والمعلومات التي تصنف سرية، والجهات المسئولة عن ذلك.

خطوات عملية إصدار قانون لحرية تداول المعلومات، والتي شهدت محاولات متعددة منذ ما بعد ثورة يناير، تعثرت كلها في الطريق دون أسباب واضحة، تحتاج هذه المرة لتكون أكثر جدية وانضباطا والتزاما، ولكنها أيضا تحتاج لآلية واضحة في خطوات وإجراءات هذه العملية، فلا يكفي أن يعلن مجلس أمناء الحوار الوطني توصيات عمومية صادرة عن جلسات أولى، تؤكد وجود توافق في بعض العناوين والملفات، وهى صيغ تصلح لطبيعة وشكل الجلسات الحالية للحوار التي لا بد من تطويرها؛ لتشهد نقاشا أعمق وأكثر تفصيلا حول طبيعة التفاصيل والمشكلات في كل قضية أو ملف، فمثلا، فيما يتعلق بقانون حرية المعلومات لا بد أن تكون هناك تعريفات قانونية واضحة ودقيقة لبعض المفاهيم، ولا بد أن يكون هناك إجراءات واضحة ويسيرة لعملية تمكين المواطن أو الصحفي أو الجهة التي تطلب المعلومات، وهو أمر أشمل وأوسع من المؤسسات الحكومية، وإن كانت في القلب منها بالتأكيد، وكذلك تنظيم آليات وتحديد أسباب رفض منح أو إعلان المعلومات من أي جهة، ووجود جهة مستقلة تفصل في التظلمات على ذلك الرفض، وأن تكون الاستثناءات بالغة الوضوح والتحديد وفي سياق تعريفات محددة وأسباب واضحة، وهي كلها تفاصيل في قلب لا نصوص القانون، وإنما فلسفته ومشروعه والمستهدف منه، وبالتالي فما بعد إعلان توصية بالتوافق حول ضرورة إصدار المشروع، فإن هناك خطوات تالية لبلورة تصورات حول هذا المشروع، سواء بالاستعانة ممن لديهم مشروعات واجتهادات سابقة بالفعل، أو أصحاب الخبرات في هذا الملف، للوصول إلى رؤية محددة للنقاط الأساسية الواجب أن يشملها القانون، لتصبح بعد ذلك عملية صياغة نصوص قانونية سواء من خلال لجان فنية تشكل من الحوار الوطنى والأطراف المشاركة فيه، أو من خلال اللجان المختصة في مجلس النواب عند إحالة التوصية إليه لبدء التطبيق، ترجمة حقيقية لمضمون المشروع لا نصوص تفرغه من أهدافه.

من هنا، فإنه من المهم مجددا التأكيد على ضرورة أن تكون جلسات الحوار أكثر عمقا وتفصيلا وتحديدا، بعد الجلسات الأولى في كل ملف وقضية، والتي تصلح كجلسات افتتاحية تبلور إما توافقا عاما وإما ملامح وجهات نظر ورؤى متعددة، لكن الخطوة التالية مباشرة لا بد أن تكون مناقشات أكثر عمقا وتفصيلا تبلور توصيات، لا نقول تفصيلية وإنما أكثر تماسكا ووضوحا وتحديدا، قبل أن تنتقل إلى إما صياغة مشروعات قرارات أو قوانين، أو تحال للجهات المختصة بتصورات واضحة ومتماسكة، على أن تكون مراحل صياغة مشروعات القوانين لاحقا محل حوار مباشر، ومفتوح أيضا مع الأطراف صاحبة الرؤى ووجهات النظر التي تبنتها توصيات الحوار.

وإذا كانت قضية حرية تداول المعلومات بالغة الأهمية، لا من حيث كونها فقط التزاما دستوريا، وجزءا من مدى جدية تطبيق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي نصت أيضا على ضرورة إصدار هذا القانون، فضلا عن كونها سبيلا حقيقيا لحق المواطن في المعرفة، والمشاركة بالرأي في صنع القرار بناء على معلومات حقيقية وصحيحة ومتاحة، وضرورة واجبة للصحفيين والباحثين للتمكن من ممارسة مهنهم بشكل احترافي وموضوعي وجاد، إلا أنها على صعيد آخر تبدو اختبارا أول بالغ الأهمية لسير عملية منتجات وتوصيات ومخرجات الحوار الوطني وما سوف تؤول إليه، وهو مؤشر سيكون بالغ الدلالة والأهمية.