“رغم أن لدينا تحفظات على ممارسات مُوَثَقة بشأن انتهاكات الصين لحقوق الإنسان، مما يستوجب مراجعاتٍ ضرورية، إلا أن قطع العلاقات الإقتصادية بين أمريكا والصين سيكون خطأ كارثيًا كبيرًا.”، هكذا تحدثت السيدة جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية، يوم الثلاثاء الماضي، في شهادتها أمام لجنة الخدمات المالية بمجلس النواب. أضافت السيدة يلين، في شهادتها أن كلا المجتمعين الصيني والأمريكي يستفيدان من التجارة البينية، بما يعزز اقتصاديهما في تأكيد منها على ما جاء ببيان مجموعة السبعة الذي انعقد الشهر الماضي باليابان.

في المُقابل، وحسبما جاء بتغطية “شبكة سي إن إن الأمريكية”، عَقَبت آن فاجنر النائبة الجمهورية عن ولاية ميسوري، بأنه من الضروري لبلادها أن تنفصل عن الصناعات والكيانات الصينية، التي تشارك في الانتهاكات التى لا يمكن تصورها لحقوق الإنسان بالصين، لترد يلين، بأن هناك عقوبات قائمة تمنع الأمريكيين من التعامل مع أية كيانات متطورة في تلك الانتهاكات. ثم أشارت يلين، إلى أن إدارة الرئيس بايدن ترغب فى التوسع بالمشاركة في صندوق استثمار القطاع الخاص التابع لمجموعة بنك التنمية للبلدان الأمريكية، وصندوق التنمية الإفريقي، لتضيف في صراحةٍ “لا” تُحسَد عليها: “إن هذه الاستثمارات ستعزز مشاركتنا في هذه المناطق في وقت المنافسة الجيوسياسية. إن إقراض منظمات مثل، صندوق النقد الدولي يخدم كثقلٍ مُوَازِنٍ مهم للإقراض غير الشفاف وغير المستدام من دول أخرى مثل الصين”.

كانت الصين قد دخلت خلال العِقد الأخير على خط “دبلوماسية القروض” فقامت بإقراض العديد من دول إفريقيا وآسيا، بل وأوروبا أيضًا على سبيل الإنقاذ المالي، والمساعدة في بعض أعمال البناء والتنمية بما أتاح لها توفير شراكات ذات تأثير في مسار المنافسة مع أمريكا. تقوم “دبلوماسية القروض” على أن تمنح دولة ما قروضًا بشروط مُيَسرة لدولة أخرى، ثم تنتظر حتى إخفاق الدولة المدينة؛ لتطلب إنشاء قواعد عسكرية و/أو السيطرة علي المواني لأجل التمكُن من إحكام قبضتها علي التجارة و/أو المطالبة بالتصويت معها في المحافل الدولية، ولنا فيما قامت به الصين في ميناء هامبانتوتا بسيريلانكا مثال شديد الوضوح.

في سياق التخطيط الصيني الدؤوب لمبادرة الحزام والطريق، وضعت الصين عينها على هذا الميناء الذي يتمتع بموقع استراتيجي متميز للغاية، إذ يقع على بُعد حوالي 240 كيلومترًا جنوب العاصمة “كولومبو” علي مسافة بضعة أميال بحرية من ممر الشحن البحري بالمحيط الهندي، الذي تمر خلاله كل التجارة المنقولة عبر المحيط بين آسيا وأوروبا، وبما يمثل نحو 80% من حجم التجارة العالمية بالمحيطات. في عام 2010، قدم بنك التصدير والاستيراد المملوك للدولة الصينية، والذي تحددت مهام عمله بالأساس في دعم التجارة الخارجية للصين، والاستثمار في التعاون الاقتصادي الدولي، قروضًا ضخمة لسريلانكا لإنشاء الميناء بلغت في ذلك الحين نحو 300 مليون دولار. حقق الميناء خسائر هائلة فتعثر في سداد ديونه فضلًا عن حاجته لمزيد من الأموال للتطوير. في عام 2017، تم الاتفاق على مقايضة الديون الصينية بتأجير 70% من الميناء لشركة الصين للمواني التجارية، التى كانت تخطط لضخ مليار دولار؛ لتطوير الميناء في سياق الشراكة بين القطاعين العام والخاص PPP ثم تم التوقيع على الاتفاقية التي احتفظت سيريلانكا بموجبها بملكية الميناء، مع قيامها بتأجيره للصين لمدة 99 عامًا وحصولها على نحو 1.5 مليارات دولار، لسداد ديونها القديمة للصين.

في العموم، كان البنك الدولي قد أصدر تقريرًا بنهاية العام الماضي، أوضح فيه، أن الصين كانت قد قامت بإنفاق ما يقرب من 240 مليار دولار، خلال الفترة الممتدة من عام 2008 وحتى عام 2021 “لإنقاذ” 22 دولة من ضمنها الأرجنتين وباكستان وكينيا وتركيا، في إطار موازنة مشروع البنية التحتية بمبادرة الحزام والطريق التي يبلغ الحد الأقصى لموازنتها الإجمالية المقدرة نحو 8 تريليونات دولار.

نعود لشهادة الثلاثاء الماضي، التي كان المثير فيها هذه المرة، هو تجاوز صلاحيتها للإجراءات المعتادة في مثل هذه الأحوال إلى ما يَقرُب من صَريحِ الإقرار عَلَنًا بأساليب بلادها التقليدية؛ للسيطرة من خلال المال على مناطق النفوذ بالعالم في سباق المنافسة المحموم مع الصين. فكما كان الشق الأول من حديثها عن أهمية الاستمرار في علاقات أمريكا التجارية بالصين صريحًا بلا احتمالاتٍ للتأويل، جاء الشق الثاني منه أكثر صراحة كاعترافٍ تاريخي لم يتفوه به -على مثل هذا النحو- أي مسئول سياسي أو اقتصادي أمريكي من قبل، حين طالبت بزيادة المبالغ المخصصة لإقراض منظمات دولية كصندوق النقد، لاستخدامها في إقراض الدول الفقيرة حتى لا يتسنى للصين اقتناص فرصة احتياج تلك الدول للدعم المالي؛ لتقوم بتمويلها ومن ثَم احتوائها إلى جانبها حاسمةً بذلك هيمنتها في سياق صراع المنافسة. ها هي وزيرة الخزانة الأمريكية، تعترف بصريح العبارة باستغلال بلادها لحاجة الدول الفقيرة؛ للتمويل العاجل مقابل شراء ولاءاتها بالوسائل التاريخية المُعتادة. صار اللعب الآن على المكشوف حيث لم يَعُد لدى القوى الدولية ما تستحي منه فتفعله في الخفاء، نافيةً في العلن ما كان يُوَجه إليها من اتهامات استُخدمت فيها مؤسسات التمويل الدولية.