ربما يتذكر المهتمون أنني رصدت، وحلّلت في سلسلة من المقالات على مدار شهري مارس وإبريل الماضيين، اتجاهات الجدل العام حول انتخابات الرئاسة القادمة، وفي خلاصتها وصفت دعوات البعض للرئيس عبد الفتاح السيسي، بعدم الترشح من جديد بالخفة والاستسهال، أو التبسيط المخل للمعضلة السياسية المصرية، وبالطبع استبعدت نهائيا أن تلقى هذه الدعوات أية درجة من الاهتمام، فضلا عن الاستجابة .

وفي تلك الخلاصة استبعدت أيضا توقع الكثيرين، الاستجابة لمطلب توفير الضمانات اللازمة لإجراء انتخابات تعددية متكافئة الفرص، ونزيهة الاقتراع والفرز، ولم يكن سبب هذا الاستنتاج أنها مطالب غير مشروعة، أو أن الضمانات المطلوبة مبالغ فيها، أو غير ضرورية لكل انتخابات، ولأية انتخابات من المجالس القروية إلى رئاسة الجمهورية، ولكن السبب هو أن المعطيات الحالية، أو لنقل حقائق الوضع السياسي الراسخة تجعلها غير ممكنة عمليا في هذه المرحلة من تطور مصر، وأن قرار المعارضة عدم خوض المعترك الانتخابي إلا بعد الحصول عليها هو قرار مسبق بعدم المنافسة ،في حين يتوجب على دعاة التغيير الاعتماد على أنفسهم، والرهان على النفس الطويل، والتراكم على مدى أجيال وأحقاب، لكننا لا نناقش حسابات المعارضة في هذا المقال على أية حال، وإنما نكتفي بالقول هنا، قد ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وها هو ذا الرئيس السيسي، قد بدأ فعليا حملته الانتخابية منذ يوم الأربعاء الماضي، من جلسة مؤتمر الشباب بالجامعة التكنولوجية ببرج العرب، وعلى كل أطراف المشهد السياسي في مصر استخلاص النتائج .

في رأيي، أن أول وأهم مايجب التركيز عليه، هو رصد وتحليل الخطاب الانتخابي للرئيس، كما لا أرى داعيا لانتظار ظهور أو  عدم ظهور منافسين محتملين على المقعد الرئاسي، فهذا لن يغير من الأمر شيئا .

فمن الواضح، أن الرئيس تبني في يومي الأربعاء والخميس الماضيين لغة ودودة، ولهجة تصالحية نحو فكرة أو مبدأ المعارضة السياسية، وبعض شخصياتها، وتضمن الحدث نفسه أمثلة عملية على إمكان تحقيق بعض الانفراج في المستقبل القريب، على خلفية تأكيد الرئيس نفسه، أن لا أحد بوسعه ادعاء معرفة المصلحة الوطنية بمفرده دون الآخرين، وتعهده العلني بالتصديق  في نطاق صلاحياته الدستورية على جميع مخرجات الحوار الوطني الجاري حاليا، وذلك بدلا من الصيغة السابقة، والتي قبلها جميع المشاركين في الحوار، و كانت تقول، إن الرئيس سينفذ فقط مايراه مناسبا من توصيات الحوار الوطني، سواء بقرارات تنفيذية، أو بالإحالة إلى البرلمان .

يدخل ضمن مناخ الانفراج بالطبع التوافق في برج العرب على إحالة مشروعات قوانين مكافحة التمييز، وحرية تداول المعلومات، وتعديلات قانون الوصاية على المال إلى مجلس النواب، باعتبارها من مخرجات الحوار الوطني، حتي وإن كانت هذه الخطوة تستبق استكمال الشكل الإجرائي في لجان الحوار، ومجلس أمنائه، لكن بما أنها من الأصل محل توافق، فلا ضير في اعتبارها خطوة إيجابية.

كذلك امتدت حالة “الود “ إلى تناول الرئيس السيسي، للأزمة الاقتصادية و الاجتماعية من خلال حديثه المسهب عن سعر الجنيه المصري مقابل الدولار، وذلك بقدر كبير من الانتباه إلى الآثار الخطيرة لتعويم الجنيه بصفة مطلقة على مستوى معيشة أغلبية المواطنين، المتضرر بشدة أصلا، ومن ثم على الاستقرار المجتمعي والسياسي، وبالتالي على الأمن القومي، وقد فهمت أن الرئيس يلتزم بحسم بعدم الاستجابة للضغوط الدولية والإقليمية، لإطلاق سعر صرف الدولار أمام الجنيه -دون قيد أوشرط – في الأجل المنظور على الأقل .

وإذا كنا نرحب، ويجب أن نرحب بهذا الالتزام الرئاسي، فإن من حقنا أن نطلع على البدائل المتاحة أمامنا؛ لعبور الفجوة الدولارية الواسعة حاليا، ليس فقط لمواجهة المطالب الحياتية للمواطنين، ولكن أيضا لسداد مستحقات المديونية الخارجية، ولكن بما أن الخطاب الانتخابي للرئيس لا يزال في طور البداية، فإننا نأمل أن يستكمل هذا النقص في الأيام والأسابيع المقبلة، بحيث نرى برنامجا انتخابيا متكاملا من جوانبه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .

عند هذه النقطة، نذكر أن أحاديث الرئيس في ذلك الأسبوع الأول من حملته الانتخابية غير الرسمية (بعد )، لم تتطرق أيضا إلى قضايا الحريات، ومسجوني ومحبوسي الرأي بالقدر الكافي من التفاصيل، فلم يلتزم بتصفية هذا الملف، لكنه لم يغلق الباب أيضا ، واكتفى بالرد الدبلوماسي قائلا، إن كثيرا من تلك الاجراءات كانت لإنقاذ الوطن من الضياع، وإنقاذ المواطنين من التشرد .

ولكن، إذا كنا نشيد، ويجب أن نشيد بنجاح النظام الهائل في هزيمة الإرهاب وإقرار الأمن والنظام العام، فإن مواجهة الإرهاب شيء، واختصام حلفاء ٣٠ يونيو  الذين هم أصلا وبداهة ضد الارهاب، وكذلك إغلاق المحال العام، وتضييق أو إلغاء المساحات المشتركة شيء آخر، وفضلا عن أن الحوار الوطني يستهدف إعادة هذه المساحات المشتركة، فإن المبدأ الأصلي هو أن الضرورة تقدر بقدرها، بحيث لاتبيح الضرورات كل المحظورات، و كل ذلك يأتي على خلفية أساسية، هي أن الضمير والعقل الجمعيان في مصر يرفضان وجود بندقية إلا لدى الجيش الوطني .

قلنا قبل قليل، إن الحملة الانتخابية للرئيس السيسي لم تبدأ بعد رسميا، ولكن ليس من المبالغة القول كما سبق، إنها بدأت فعليا ، وإن كانت لا تزال في بدايتها، ولذا فهناك فرصة بل وواجب استكمال برنامج انتخابي شامل، وليست تلك مهمة فريق الرئيس وحده، بل يجب على بقية أطراف المشهد السياسي المشاركة في عملية وضع هذا البرنامج، وهنا تكون المطالبة بصوت مرتفع، والشرح والإقناع، بل والنقد والضغط السلمي أوجب وأجدى، من التركيز على المنافسة الانتخابية  مع  السيسي، فهي ليست  واردة بأي معطى سياسي واقعي، وإن كنت لا أنكر الحق الدستوري لأي مواطن في خوض هذه المنافسة، كما لا أنكر حق خوض التجربة لمن يقرر خوضها، بما في ذلك من فوائد محتملة مثل، اكتساب الخبرات السياسية، وتكريس السوابق، وكسر المحرمات التي صنعتها أعراف رجعية، ولم يحرمها شرع ولا قانون .