أصبح سعر صرف الجنيه المصري نقطة خلاف أساسية بين المسئولين عن السياستين: المالية والنقدية بمصر، وصندوق النقد الدولي، الذي لم يُجر حتى الآن المراجعة الأولى لبرنامج التمويل الذي كان مفترضا إجراؤه في مارس الماضي، وتم إرجاؤها لسبتمبر المقبل.

في حوار مع وكالة “بلومبرج”، قالت كريستالينا جورجييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، قبل يومين، إن دعم الجنيه يستنزف احتياطيات مصر من العملات الأجنبية مشبهة الأمر بسكب الماء في وعاء مثقوب، معتبرةً أن مسألة سعر صرف العملة المصرية ليست اقتصادية فحسب، إنما “متصلة بالاقتصاد السياسي” أيضًا.

تصريحات جورجييفا، جاءت ردا على تصريحات مصرية، اعتبرت سعر الصرف “أمن قومي”، لا يمكن الاقتراب منه إذا كان سيؤثر على حياة المصريين، في إشارة تم تفسيرها برفض القاهرة المزيد من التعويم للعملة التي فقدت أكثر من نصف قيمتها.

يثير اختلاف وجهة نظر القائمين على الاقتصاد المصري مع مسئولي الصندوق، إزاء تخفيض سعر صرف الجنيه، تساؤلات حول التوقيت، وكيفية مواجهة الحكومة الفجوة الدولارية الحالية، وسد الاحتياجات التمويلية الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بسداد القروض الأجنبية وأقساطها، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحالية.

رهان حكومي على السياحة لتعزيز الحصيلة الدولارية

رهان حكومي على السياحة لتعزيز الحصيلة الدولاريةرهان حكومي على السياحة لتعزيز الحصيلة الدولارية

يتركز رهان الحكومة حاليًا على إمكانية تفادي تخفيض جديد للجنيه، مع عائدات السياحة التي ارتفعت بنسبة 26% خلال الـ 11 شهرا الأولى من العام المالي الحالي 2022/2023، والتوقعات بتحقيق رقم قياسي بنهاية العام. تعتبر المقاصد السياحية المصرية الأفضل حاليًا من ناحية رخص الأسعار، فـ 5 آلاف دولار فقط كفيلة لفردين بقضاء أسبوع كامل بمصر بإقامة كاملة “3 وجبات” في فندق راق وجولات سياحية ترفيهية. وجاءت مصر بالمرتبة التاسعة في القائمة التي أعدها موقع «Travel Awaits» المتخصص في شؤون السفر والسياحة، والذي يضم أكثر من 17 وجهة سياحية للسفر حول العالم خلال عام 2023.

وأعلنت وزارة السياحة أخيرا، أنها تستهدف مضاعفة الإنفاق العام على الأنشطة الترويجية للمقصد المصري ورفع كفاءته، وذلك بعدما استقبلت مصر 1.35 مليون سائح خلال إبريل 2023. ويتوقع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، ارتفاع عدد السائحين إلى 15 مليون سائح بنهاية العام، وصولا إلى 30 مليون سائح بحلول عام 2028.

رهانات وزارة السياحة تعتمد على تعزيز فرص المنافسة للمقصد المصري عبر مشروع مسار العائلة المقدسة، الذي يتوقع أن يجذب 20 مليون سائحا، علاوة على المتحف المصري الكبير الذي من المتوقع افتتاحه في نوفمبر المقبل قبل ذروة الموسم الشتوي.

تبادل السلع.. توجه لتخفيف الطلب على العملة

في الوقت ذاته، تسعى مصر حاليًا للاعتماد على التبادل السلعي مع الدول الصديقة، وآخرها الهند التي تدرس اقتراحا لبدء مقايضة سلع مثل، الأسمدة والغاز مع مصر في إطار صفقة أوسع، قد تشهد تمديد نيودلهي خط ائتمان بقيمة عدة مليارات من الدولارات إلى القاهرة خلال زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الأولى للقاهرة قريبًا.

الاتفاق المتوقع قد يسمح للقاهرة بإجراء عمليات شراء بالروبية خاصة القمح، ويتم النظر في المقايضة كوسيلة؛ لتسوية هذا الدين من خلال بيع منتجات مصرية تحتاجها الهند التي صدرت لمصر بضائع بقيمة 4.11 مليارات دولار العام الماضي، واستوردت في المقابل سلعًا بقيمة 1.95 مليار دولار.

وزير التموين علي مصيلحي، ألمح لتلك النقطة بتأكيده على أن مصر تخطط؛ لتخفيض تداول الدولار الأمريكي في التجارة الثنائية مع العديد من الدول الأعضاء في مجموعة بريكس التي تضم الهند والصين وروسيا. خاصة أن مصر تقدمت رسميًا بطلب للانضمام إليها.

الصفقات.. مورد دولاري ملحوظ

مديرة صندوق النقد الدولي، أشادت في حوارها عن الجنيه، باتفاق مصر مع “مؤسسة التمويل الدولية” التابعة للبنك الدولي، للاستفادة من خبرتها؛ لتسريع عملية “الخصخصة”، وطالبت بانسحاب الدولة من الأنشطة التي يجيد القطاع الخاص الاستثمار بها، وتخصيص الدعم للفئات الأكثر هشاشة، وتعزيز احتياطيات العملات الأجنبية.

وتوقع صندوق النقد الدولي تحقيق الحكومة المصرية عائدات بنحو 2.5 ملياري دولار، من برنامج بيع الأصول الحكومية بنهاية يونيو الجاري 2023، وباعت الدولة بالفعل حصصا في شركات كبيرة، لمستثمرين من الإمارات والسعودية وقطر والكويت.

بحسب تقرير الاتحاد الإفريقي للملكية الخاصة ورأس المال الاستثماري “AVCA”، فإن مصر أصبحت أكثر الوجهات جاذبية للمستثمرين في إفريقيا بعدما استحوذت على 57٪ من قيمة المعاملات المنفذة بشمال القارة، إذ ضخت صناديق الأسهم الخاصة رقما قياسيا قدره 877 مليون دولار بالشركات المصرية عام 2022.

شكلت مصر 57٪ من قيمة معاملات الملكية الخاصة في شمال إفريقيا خلال العام الماضي، مقارنة بـ 19٪ بالنسبة للمغرب.

و 10٪ للجزائر و 1٪ لتونس، في حين أن 13٪ من الاستثمارات كانت في شركات عاملة في المنطقة، ولكن مقرها في أماكن أخرى.

يعكس النمو في المبالغ المستثمرة المسجلة في مصر عام 2022، ارتفاع الصفقات الضخمة في نطاق 100-250 مليون دولار ، والتي تمثل ما يقرب من ثلث إجمالي قيمة المعاملات، كما ارتفعت المعاملات في نطاق 10-49 مليون دولار تقريبًا بنسبة 100% مقارنة بعام 2021.

الحكومة ترفض ضغوطا خليجية
أحمد العطيفي الخبير المالي

الحكومة ترفض ضغوطا خليجية

يقول أحمد العطيفي، الخبير المالي، إن الحكومة المصرية أعطت رسائل واضحة، بأنها ستكتفي بهذا القدر من هبوط الجنيه، ولن يحدث تعويم تحت أي ضغوط من أي جهة، بمعنى أن طلبات صندوق النقد بهذا الشأن مرفوضة، وكذلك الطلبات المشروطة من الدول العربية، لشراء حصص بشركات والشرط الأساسي تخفيض الجنيه أيضا مرفوضة.

صندوق النقد الدولي توقع، أخيرا، تحصيل مصر إيرادات أكبر من الموارد الأساسية للنقد الأجنبي من قناة السويس، والسياحة والاستثمار الأجنبي المباشر والصادرات البترولية والسلعية وتحويلات المصريين العاملين بالخارج، التي يرجح وصول مجموعها 139 مليار دولار على الأقل. التقرير توقع ارتفاع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر، ليسجل 9.7 مليارات دولار العام المالي الحالي 2022-2023، بجانب ارتفاع صادرات السلع والخدمات والمنتجات البترولية، لتصل إلى 76.4 مليار دولار، وإيرادات قناة السويس إلى 7.4 مليارات دولار، وتحويلات المصريين بالخارج إلى 34 مليار دولار.

أضرار التعويم
أضرار التعويم

أضرار التعويم

يشير العطيفي إلى، أن التخفيض والتعويم السابق للجنيه خلف أضرارًا أكبر بكثير من الإيجابيات، وحاليًا توجد تدفقات دولارية شبه مضمونة عبر صفقات بيع الأصول، التي ستساهم في سد فجوة العجز من الدولار.

وتوقع، أن يتم تدبير دولار لبعض الصناعات من حصيلة بيع بعض الأصول قريبًا، خاصة مع قوة السياحة، وتوقعات عدم صعود الدولار عالميا مع تثبيت الفائدة عالميا مع انخفاض التضخم نهاية العام أو الربع الأول من العام القادم. لكن الأمر يتطلب أيضًا منح حوافز قوية للمستثمرين الأجانب والمصريين، وتشجيع الصناعة المحلية وتطويرها، واهتمام قوي بالزراعة.

انتظار السيولة

 

انتظار السيولة
انتظار السيولة

لكن بنك جولدمان ساكس يرى سببا آخر بعيدا عن الموارد الدولارية، فمرونة سعر الصرف تتطلب قدرًا كافيًا من السيولة من العملات الأجنبية.

هناك إشارات إلى الحاجة لنحو 5 مليارات دولار من احتياطيات النقد الأجنبي؛ لكي يتم تنفيذ التعويم، لأن أي مجهودات للتحول لسعر صرف مرن في غياب وجود تدفقات من النقد الأجنبي، يمكن أن تتسبب في ارتفاع كبير لأسعار صرف العملات الأجنبية. في هذه الحالة، إن لم تتوفر سيولة نقدية دولارية، لن يؤدي التعويم إلى القضاء على السوق السوداء بل ربما يزيد من تفاقم حجم التعاملات فيها.