لم يتخلف النظام التشريعي المصري عن محاولة اللحاق بالركب العالمي فيما يتعلق بالمستجدات التشريعية المرتبطة بمحاولات تخفيف الحمل الزائد عن الجهات القضائية، وتطوير دور التحكيم في المسائل المدنية والتجارية والمنازعات الإلكترونية، وكذلك محاولات إدخال الوساطة كبديل من بدائل التقاضي بشكله الروتيني، فبخلاف ما أتى النص عليه من إفساح الفرصة لمحاولات أو مشارطات التحكيم أن تجد لها دوراً فاعلاً في القضايا التجارية أو المدنية، إلا أنه كانت هناك محاولتان يجب إلفات الانتباه إليهما، حتى ولو كانتا متأخرتين أو لم يتم محاولة ما بهما من ضعف لإكمال التجربة، أو حتى ليكون لأي منهما دوراً فاعلاً حقيقياً، فيما شرعا من أجله، وأولهما: ما يسمى بقانون لجان التوفيق في بعض المنازعات التي تكون الوزارات والأشخاص الاعتبارية العامة طرفاً فيها، وقد أنشئت بموجب القانون رقم 7 لسنة2000، والذي تم تعديله بموجب القانون رقم 6 لسنة 2017، وهذه اللجان في مجملها منوط بها وفقا لنصوص ذلك القانون، أن تفصل فيما يعرض عليها من منازعات، ولكن بموجب توصية ليست ملزمة إلا بموافقة طرفي النزاع عليها، وهو الأمر الذي يجعل منها مجرد خطوة إدارية لازمة للجوء لجهات التقاضي التقليدية، وبالتالي، فإنها تمثل عبئا ماليا على الدولة لا تنتج شيئا من الناحية الواقعية، وهو ما يدفعنا إلى المطالبة بتصحيح ذلك الأمر، وذلك على مستويين: مستوى كيفية عملها، بأن يتم إضافة ما يتعلق بحسن عملها وما يمثل طرفي النزاع، وما يجعل من اللجوء إليها ذات جدوى، والمستوى الثاني، فيما يصدر عنها من قرار، إذ يجب أن يخرج من طور التوصية على طور ما يعادل الحكم من إلزام، بحيث تصبح مساوية لما يجري العمل به في محاضر التحكيم.

ثانيهما: وهو المتعلق بلجان تسوية المنازعات الأسرية، والتي أنشئت أو استحدثت من أجل هدف ملخصه، هو محاولة تجنيب الزوجين اللجوء إلى القضاء، وإنهاء ما بينهما من منازعات صلحاً رضائياً، حرصا على كيان الأسرة بموجب قانون إنشاء محاكم الأسرة رقم (10) لسنة 2004، مرحلة للتسوية الودية في المنازعات الأسرية تسبق مرحلة التقاضي، وتتولاها مكاتب تتبع وزارة العدل، وعهد إلى تلك المكاتب بدور بالغ الأهمية؛ الغرض منه هو محاولة إزالة أسباب الشقاق والخلاف بين أفراد الأسرة، فإذا تعذر ذلك، فقد يتيسر الاتفاق على الإجراءات التي يمكن بها لكل طرف أن يحصل علي حقوقه دون الالتجاء إلى إجراءات التقاضي بقدر المستطاع.

وعلى الرغم من، أن تلك اللجان تحتوي في تشكيلها على اختصاصيين اجتماعيين ونفسيين وقانونيين، من المفترض أن يكون لهم الدور الحاسم في إنهاء المنازعات الأسرية، إلا أنها قد باتت مجرد خطوة روتينية لازمة قبل اللجوء إلى محكمة الأسرة، إذ على الرغم من كون القانون قد ألزم بحضور طرفي النزاع أمام تلك اللجان، إلا أنه قد طغى عليها الزيادة المضطردة في أعداد القضايا، وعدم تأهيل القائمين أو العاملين في تلك اللجان على أن يكون لهم دور محوري فاعل في تلك المنازعات، فللأسف أصبحت المحصلة من تواجد تلك اللجان صفرا، وباتت مجرد شكل وجوبي لازم قبل النفاذ إلى محكمة الأسرة. فعلى الرغم من كون الحكمة من ذلك، هي محاولة إنهاء المنازعات الأسرية صلحا بين أطرافها قبل مرحلة التقاضي، ورفع الدعوى أمام محكمة الأسرة، وذلك حفاظا على كيان الأسرة، وتتلخص فكرة مكاتب التسوية في أن كل مكتب من مكاتب تسوية المنازعات الأسرية اختصاصي قانوني، واختصاصي اجتماعي، واختصاصي نفسي، ويجب على رافع الدعوى قبل أن يبادر برفع دعواه أمام محكمة الأسرة، أن يلجأ أولا إلى مكتب التسوية المشار إليه، وذلك بالتقدم بطلب تسوية النزاع مع خصمه وديا أمام مكتب المنازعات الأسرية ، إلا أن كل ذلك قد صار مجرد قواعد روتينية مفرغة من مضمونها الحقيقي، وذلك على الرغم من أن وجودها يجب أن يكون يهدف إلى الحد من التقاضي التقليدي، خصوصاً إذا ما أضفنا إلى، أن عدد قضايا الأسرة ربما يفوق العشر قضايا، ما بين نفقة وطلاق وخلع ومتعة ومسكن، وخلافه، إلا أنه للأسف باتت بمثابة ضجيج بلا طحن.

ولما كانت هذه التجربة ذات أهمية قصوى في الواقع المجتمعي، سواء لكونها متعلقة بنوعية تقاضي ذات صفات معينة، وترتبط بكيان المجتمع الأصغر، الذي يؤدي إلى نشاة المجتمع العام بشكل أكثر نفعا للأفراد والمجتمع، فإنني أدعو القائمين على وزارة العدل؛ بمحاولة إيجاد وسيلة فعالة لمعالجة أوجه الخلل الموجودة، سواء كان ذلك الخلل في النموذج التشريعي، أو في العمل الواقعي أو في كيفية المثول أمام تلك اللجان، فلا يمكن أن يتفق الجميع على أن تصبح مجرد خطوة ورقية فقط، يجب كتابتها قبل اللجوء إلى محكمة الأسرة، ونعلم جميعاً كم القضايا المتراكمة أمام محاكم الأسرة، ونعلم أيضاً بالنقص الملاحظ في أعداد القضاة، ونعلم كذلك بأننا ليس لدينا قضاء تخصصي، كل ذلك يجعل من إصلاح تلك اللجان حتى تكون بمثابة نقطة انطلاق حقيقية لوجود الوساطة المجتمعية بشكل فاعل في مجتمع التقاضي، على النحو الذي لا يقل بحال أو بآخر عن النماذج الدولية، ولا يكفي أن تكون الأمور مجرد نصوص، لا تفعل على شكلها الحقيقي الصحيح، والذي قد يعود بالنفع على الجميع، وخصوصاَ في قضايا الأسرة، وكذلك في المنازعات الإدارية البسيطة، والخلافات مع الهيئات الحكومية والوزارات في أمور مجرد رفعها أمام الجهات القضائية يمثل إجهاداً للقضاء، وإثقالاً لأحماله في وقت تئن فيه الدولة من ناحية من التراكم العددي في القضايا، ويئن فيه جمهور المتقاضين من الزيادات المضطردة في الرسوم القضائية، أو الخدمات ذات الصلة بالتقاضي، في وقت يئن فيه الجميع من أزمات مالية واقتصادية، فيجب إما أن تكون هذه اللجان ذات جدوى وإما يتم الاستغناء عن وجودها؛ تخفيضاً للنفقات.