في المقال السابق، وسعنا من مفهوم الحراك الاجتماعي؛ إذ لم يعد قاصرا على قدرة الأفراد والعائلات فقط على الانتقال صعودا في السلم الاجتماعي، بل يمتد ليشمل ثلاثة مكونات أخرى وهي:
١- قدرة الشركات الصغيرة والمتوسطة على النمو.
٢- قدرة النساء على ردم هوة اللا مساواة في التعليم والعمل والفرص.
٣- وأخيرا وليس آخرا؛ قدرة الأفراد على ردم فجوة المهارات والخبرات بغض النظر عن موقعهم في السلم الاجتماعي.
وانتهيت إلى، أن مصر باتت تعاني من “أبارتايد اجتماعي” يتمثل في وجود حجب وعوازل بين الفئات الاجتماعية، وداخلها وبين الشركات ووسط النساء تمنع الحراك صعودا، بما يمكن معه الحديث عن ظاهرة توريث الفقر أو الغنى أو اللا مساواة.
هذا الأبارتايد الاجتماعي ممتد زمنيا ومستقر نسبيا، لأن المصالح فيه راسخة، والحدود فيه حادة وغير متحركة، ويجري فيه اكتناز الفرص، كما يتم اكتناز الثروات والدخل، وهو يجد جذره الأعمق في التوزيع غير المتكافئ لموارد الدولة.
الفصل العنصري الاجتماعي بخصائصه السابقة ينتج عنه ظاهرتان مترابطتان:
الأولى: غياب الإصلاح الشامل؛ حيث أن الاقتصاد السياسي لمصر مجزأ بما ينتج مصالح متباينة لكل فئة اجتماعية وداخلها، وبما لا يمكن معه الحديث عن وجود جامع بينهم.
فبدلا من الضغط لإصلاح التعليم، باعتباره أحد الدوافع الأساسية للحراك الاجتماعي؛ فإن تنوع وتعدد نظمنا التعليمية، وانقسامها بين عام ردئ يضم الأغلبية العظمى من الطلاب وبين خاص، والذي ينقسم إلى درجات ومستويات… كل هذه التشوهات تؤدي إلى زيادة الفصل العنصري بين الطبقات الاجتماعية، ويحول دون حدوث حد أدنى من التوافق حول مطالب الإصلاح التعليمي -وهو شعار رفعته الحكومات المصرية المتعاقبة من ثمانينيات القرن الماضي، ولم ينجز فيه إلا القليل.
هذا الانقسام الاجتماعي، يصعب معه التفاوض على عقد اجتماعي جديد في مصر.
الثانية: تسهل الانقسامات الاجتماعية على الحكام المستبدين لعبة فرق تسد؛ إذ يستفيدون من الحدود الفاصلة بين هؤلاء وأولئك ويسعون لتعميقها باستمرار.
سياسة فرق تسد، تخلق مرونة للأنظمة على مواجهة الاضطرابات الاجتماعية، وتعمد إلى تغيير وتحريك الحدود الفاصلة داخل النظام لا تغيير النظام ذاته.
في الانتفاضة المصرية ٢٠١١، استوعبت الدولة الحراك الاجتماعي من خلال تعيين العمالة المؤقتة، داخل جهاز الدولة دون تغيير حقيقي في أنظمة العمل والتعيين، بما يضمن أن تتمتع العمالة غير الرسمية التي تمثل النسبة الأعظم بحقوق متساوية، أو قريبة من العمالة الرسمية من قبيل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية …إلخ. لم نشهد تغييرا في فكرة توريث الوظائف العامة؛ أي تغيير المعايير التي يجري على أساسها تقلد الوظائف بانتقالها من المحسوبية إلى الكفاءة والشفافية.
العمال غير الرسميين يخوضون معركة يومية، من أجل البقاء الاقتصادي، ويتمتعون بأمان اجتماعي أقل من نظرائهم في المناصب الحكومية…، ورغم هذا تغيب النقابات التي تمثلهم، كما تغيب المطالبة الشاملة بإصلاح أوضاعهم كجزء من إصلاح أحوال العمال جميعا. هناك وظائف عامة باتت قاصرة على عائلات بعينها تتوارثها الأجيال المتعاقبة دون إمكانية لأفراد خارجها، أن يفكروا -مجرد تفكير- في الدخول إلى سلك هذه الوظائف.
الحراك الاجتماعي المحجوب..لماذا؟
عادة ما ينصرف النقاش حول الحراك الاجتماعي في مصر إلى قصة التعليم، وهي قصة مهمة ولكن وحدها لا تكفي لتفسير ما يجري.
أهمية النقاش في هذا الموضوع، أنه ربما يساعدنا على إعادة صياغة الأسئلة بشكل مختلف، بما يسمح بتجديد جدلنا العام.
على سبيل المثال، لم يعد السؤال حول تدخل الدولة من عدمه هو الأهم، ولكن ما يجب أن نتساءل عنه هو طبيعة تدخلها.
قضية أخرى: لم يعد البحث يدور حول السياسات النيوليبرالية من حيث المبدأ، وإنما الأهم هو التعرض غير المتكافئ أو غير المتساوي لآثار هذه السياسات.
ومما يزيد الأمر تعقيدا، بيان العلاقات المتشابكة بين هذه العناصر والمكونات؛ أي العلاقة بين طبيعة، وكيفية تدخل الدولة وبين التعرض غير المتساوي للسياسات النيوليبرالية، التي تتبناها مؤسسات بريتون وودز -الصندوق والبنك الدوليين.
نحن بإزاء قصة الانقسام الحاد، والفصل بين ما أطلقت عليهم في المقال السابق “أصحاب الحظوة” من الشركات والمؤسسات وتحالف الحكم والعمالة الرسمية وبعض الفئات الاجتماعية وبين “أهل الكفية” من الشركات الصغيرة والمتوسطة والعمالة غير الرسمية وفقراء الريف.
إنها قصة الانقسامات جميعا في مصر، بين الريف والحضر، وبين القاهرة والصعيد، وبين الرجال والنساء، وبين التعليم العام والخاص وفي داخل الخاص …إلخ.
لنضرب بعض الأمثلة:
تحمي النخب والمؤسسات الحكومية الشركات الكبيرة التي يقودها المقربون. تتمتع هذه الشركات بالقدرة على الوصول إلى الائتمان والأراضي والمناقصات الحكومية، وتدعم من أموال دعم الصادرات التي تبلغ مليارات… إلخ. هذه الميزات تجعلها تتمتع بمميزات كبيرة، وحماية عميقة من تقلبات السوق المفتوح الذي تبشر به السياسات النيوليبرالية.
في مقابل هذه الشركات الكبيرة محدودة العدد؛ شركات صغيرة تتنوع أنشطتها، وتضم عمالة غير رسمية تبلغ ٦٥٪ من حجم العمالة المصرية. تعاني هذه الشركات من المحسوبية والفساد على المستوى المحلي، وضعف القدرة على الوصول إلى موارد الدولة، وبالتالي تكون عرضة لتقلبات السوق والسياسات النيوليبرالية التي تتبناها الحكومة.
قصة أخرى:
تؤدي السياسات النيوليبرالية التي تتبعها الدولة إلى تقليص الإنفاق العام على التعليم والصحة، بما يؤدي إلى ضعف المهارات والخبرات التي يتمتع بها الأفراد في سوق العمل، وفي نفس الوقت، لأن الشركات الكبري محمية من السوق وتتمتع بالامتيازات والرعاية الحكومية، فإنها لا تستثمر بما يكفي في تطوير المهارات والخبرات المطلوبة بما لا يسمح بحراك في العمالة؛ نتيجة الارتقاء بمهاراتهم وخبراتهم.
الخلاصة: كما يقدمها لنا ستيفن هيرتوج في كتابه : “أن أسواق العمل العربية ليست مدفوعة بشكل عام بالسوق”، ولكنها مقسمة بين أصحاب الحظوة من عمالة رسمية تتمتع بالأمان إلى حد ما وبين أهل الكفية من عمالة غير رسمية، ليس لها من المهارات والخبرات ما يؤهلها إلى تغيير وضعها.
ويؤكد، أنه في الاقتصادات العربية ، يواجه البعض تعرضًا وحشيًا للأسواق، بينما يستفيد البعض الآخر من حماية عميقة بشكل غير عادي من السوق، ويعتبر أن التدخل العميق من جانب الدولة سببًا رئيسيًا؛ لتقسيم كل من الشركات والعمال إلى أشخاص من الداخل، يتمتعون بدعم الدولة وحمايتها، والغرباء الذين لا يفعلون ذلك.
وهكذا؛ فإن الفقر بات قدرا مقدورا من عاملين: من الدولة نتيجة تدخلها غير المتكافئ، ومن النيوليبرالية نتيجة التعرض غير المتساوي لسياستها الوحشية.
هذه السمات لرأسمالية الدولة المصرية -كما ترى عديد من دراسات التنمية الحديثة- تفسر الديناميكية الاقتصادية المنخفضة بشكل عام، من حيث خلق فرص العمل، وخلق الشركات، وتكوين المهارات، وأن الانقسامات الداخلية والخارجية قد شكلت أيضًا الإحباط الاجتماعي والاقتصادي، والتعبئة السياسية، والاحتجاج في العقود الأخيرة.
مشكلة الحراك الاجتماعي الممنوع، أو المسدود في مصر، مشكلة توزيع ناتج عن طبيعة تدخل الدولة، والتعرض غير المتساوي للسياسات النيوليبرالية التي تتبناها.
إن مشكلة التنمية في مصر -كما ترى هذه الدراسات- ليست مجرد سوق أكثر من اللازم -كما هو الحال في وجهة النظر اليسارية التقليدية، أو القليل منها -كما هو الحال في القراءة النيوليبرالية؛ إنه بدلاً من ذلك تعرض الاقتصادات المحلية غير المتكافئ للسوق؛ مع الحماية المفرطة لأصحاب الحظوة من ناحية أخرى، والتعرض الوحشي لقوى السوق غير المنظمة مع الحماية الاجتماعية الهشة، أو بدون حماية اجتماعية لأهل الكفية من ناحية أخرى.
إنها قصة ما يمكن أن نطلق عليه “الرفاهية المختارة”، حيث تتمتع بعض الفئات والشركات بالحماية والدعم من الدولة على حساب الرفاهية العامة، التي يجب أن يتمتع بها الجميع، وتكون فيها المنافسة العادلة بينهم هي سبيل الحراك الاجتماعي.
لا تعني قصة سوء التوزيع الذي ينتج انقسامات حادة، وتجزءات اجتماعية، إغفالنا للعوامل الأخرى وراء الانسداد الاجتماعي في مصر، مثل التعليم والمحسوبية والخلفية العائلية، ولكنها من وجهة نظري مظهر من مظاهر عدم المساواة، كما أنها في نفس الوقت تعمق الانقسام وتزيده رسوخا.
تفيد إحدى الدراسات، بأن الخلفية العائلية في كل من مصر والأردن تتفوق على جودة التعليم في تحديد وقت الفرد، للحصول على وظيفة، وتشير إلى، أن غالبًا ما يكون الوافدون العرب إلى سوق العمل محقين في هجاء المحسوبية، والرابط المقطوع بين العمل الجاد والجهد.