في واحدٍ من أهم ما كُتب في مجال مناقشة استغلال كتاب الله في تكريس الاستبداد، قدم المهندس، نشأت جعفر مجموعة من الدراسات الهامة، جُمِعَت في كتابٍ بعنوان “القرآن وثالوث الاستبداد” صدرت الطبعة الأولى منه في عام 2015، عن دار صفصافة “، ولكي يصبح التراث الفكري والفقهي مُقدسًا لا يجوز الاقتراب منه إلا لسدنة الأمر، ولكي تُرفَع عنه قيود الزمان، وهو أمر ليس باليسير، لجأ الاستبداد الديني إلى ترسيخ عددا من المفاهيم، جاءت من لدن أهل الاستبداد الديني، بحيث تُقَدَم، وكأنها جزء من دين الله المقدس، من مثل ما يسمونه “المعلوم من الدين بالضرورة”، تلك العبارة التي تُرفَع بعموميتها الظاهرة والمفرطة؛ لإخراس الألسنة ورفض التجديد، وبث الرعب في قلوب الناس، لأن التفكير والإدانة بالارتداد هي الخطوة التالية في منطقهم لكل من يخالف المعلوم من الدين بالضرورة”(1)، هكذا تحدث نشأت جعفر. قُسِمت دراسات الكتاب إلى ثلاثة أجزاء شَكَّلت ثالوث الاستبداد، وسأقتصر في هذا المقال على استعراض موضوع واحد من بين موضوعات الأجزاء الثلاثة؛ بشأن مفهومَي المُقدس والتراث، وأثرهما في تكريس الاستبداد الديني وعرقلة جهود التجديد.

قام الكاتب بالتفرقة بين كل من “المُقدس” و “التراث” بوضع تعريف دقيق لكلٍ من المفردتين، فالمُقدس: اصطلاحًا، استُقِىَ من “الطُهر” واسم “القُدُوس” يعني المُنَزَه عن الأضداد والأنداد، وهو بهذه الصفة لا يُمَس ولا يُحَرَف ويعلو على المكان والزمان، بينما كلمة التراث، وقد استُقيَت من “الوِرث” هي الشيء الذي كان لقومٍ ثم صار إلى قومٍ آخرين بنَسَبٍ أو بسببٍ آخر. والتراث في مجال دراسات الكاتب، هو نتاج المجهودات الإنسانية الواعية، سواء كانت مادية أم فكرية تبعًا للقاعدة المعرفية المُتغيرة بطبيعة الحال وفق واقع إنساني في زمانٍ ومكانٍ يتبدلان باستمرار. طبيعة العلاقة بين تعريف المُقدس والتراث من ناحية وبين الزمان والمكان من ناحية أخرى، هى معيار القياس الذي بنى عليه الكاتب وجهة نظره، فالمُقدس من آياتِ كتاب الله صالح لكل زمان ومكان، أما فَهم الناس لهذه الآيات، وتفسيرها وتأويلها واستخراج الأحكام منها فهو أمر آخر، هو تراث ينتقل من السَلَف إلى الخَلَف، ويخضع لقيود الزمان والمكان. “من يريد أن يُخرِج التراث من قيود الزمان أو قيود المكان، ويجعل من فهمٍ إنسانيٍ لكتاب الله، كان في زمن معين ومكانٍ ما صالحًا لكل مكان وصالحًا لكل زمان، هو بكل وضوح يرغب في أن يضفي القداسة على مجهود إنساني؛ ليُعامَل معاملة كتاب الله المقدس وإن ادعى غير ذلك”(2)

والكاتب في دراساته لا يقع في شرك فرضية نبذ التراث بالكلية، بل هو يضعه في مكانه اللائق بالتعاطي معه بمنهج نقدي وتحليلي. فالتراث لدى الكاتب هو واحد من أعظم روافد الفكر الإنساني، قدمه الإنسان عبر العصور في محاولةٍ جسورةٍ تسعى لفهم إرادة الله الخافية وراء نص الكتاب المُنَزَل، ووراء حياة رسوله الأعظم بكلِ ما تحمله التجارب الإنسانية من صواب وخطأ. من ناحية أخرى، يدين الكاتب ما يذهب إليه المُتشددون أصحاب الفكر الماضَوي من التعامل مع كل فكر نقدي تحليلي للتراث الفقهي، باعتباره خروجًا عن المِلة في ضوء عُقدة الدونية للخَلَف أمام السَلَف؛ بحجة الحفاظ على الدين، وحمايةً العوام من الفتنة، فقاموا بالترويج لمسألة أن الفترة الزمنية التي أوقفوا عندها سريان الزمان -وهي فترة الثلاثة قرون الأولى بالتقويم الهجري- هي الفترة الذهبية التي احتُكِر فيها كل الفضل، فلم يعد هناك من مجال أمام إنسانِ ما تلى تلك الفترة من عصور لأي فضل في إطار حديثهم المُكَرَر عن المؤامرة الكونية للاستشراقية والاستغرابية.

في المنهج، ذكَرَتني دراسات الكاتب الثلاث، وأهمها موضوع المُقدس والتراث بأعمالٍ أكثر عُمقًا لأساتذة كبار، كالإمام محمد عبده، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ خليل عبد الكريم، والدكتور محمد أحمد خلف الله، والدكتور نصر حامد أبو زيد، والدكتور محمد أركون رحمهم الله جميعًا، لكنها كانت محاولة طيبة يُشكر عليها كُلٌ من الكاتب والناشر؛ لإعلاء قيمة العقل من خلال تفكيك العديد مما التبس من المفاهيم عبر قرون من التيه الفكري، انتُزعت فيها قيمٌ عظمى من سياقاتها؛ تكريسًا للاستبداد الديني بدوافع متعددة، فآل الأمر بمجتمعاتنا إلى حال تكاد أن تخرج فيه من دائرة التاريخ؛ ليضحى “تجديد الخطاب الديني” الآن أمرًا لا مناص منه بعيدًا عن قداسةٍ غير مُستَحَقة، سُلطت فيها سيوف التكفير على الرقاب. و”الخطاب” في هذا السياق يعتمد في فهمه وتحليله على أدوات منهجية، حدثنا عنها المرحوم الدكتور نصر حامد أبوزيد، فكتاب الله عنده ليس مجرد نص صامت، بل هو خطابٌ حَىٌ لا ينطق، ولكن ينطق به الناس على حد وصف الإمام على بن أبى طالب، أي يأولونه ويفسرونه؛ لاحتوائه على دلالات متعددة(3). فمجرد النُطق بالقرآن سواء ترتيلًا أو استشهادًا في الحياة اليومية، ينطوي في ذاته على تأويلٍ مدفوعٍ بفهمٍ ما لأمرٍ ما أو لتسويغ غرضٍ ما من خلال التلاعب الدلالي بالنص كما حدث ويحدث من حركات الإسلام السياسي التى تسعى؛ لترسيخ أفكار أكسبتها قداسة؛ لتمهد لنفسها طريق السلطة . يذكرنا المرحوم الدكتور نصر، بما حدث في واقعة التحكيم بمعركة صفين بين علي ومعاوية حين صرخ البعض “لا حُكم إلا لله”، والحُكم هنا مقصودٌ به “الفصل بين المُتنازعين” لا “التشريع” ولا “السلطة السياسية” والدليل على ذلك ما يمكن نفهمه من السياق العام، حين يقرأ المرء النص مُكتملًا في الآية 57 من سورة الأنعام: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، يَقُصُّ الْحَقَّ، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ”.

لقد جرى عبر القرون التعالي على ثم نبذ منهج التحليل المُعتمِد على علوم الدلالة والنقد التاريخي والتأويلية، فكان من نتائج ذلك أن تمكنت حركات الإسلام السياسي بخطابها المؤسَسِ على تقديس التراث، من السيطرة على العقول بتفاسير انغلاقية لا تخدم إلا مصالحها للسيطرة على السلطة السياسية، بعدما أخفق الخطاب القومي في ستينات القرن الماضي في تقديم حلول عصرية، لمشكلات الإنسان العربي في عصر الذرة وما بعدها. من هنا تأتي أهمية ما تثيره دراسات “القرآن وثالوث الاستبداد” من طروحات، ومن هنا تأتي حتمية “تجديد الخطاب الديني”.

(1) الصفحة 77 من كتاب القرآن وثالوث الاستبداد.
(2) الصفحة 63 من المرجع السابق.
(3) الصفحة 204 من كتاب التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التفكير- طبعة 2010 الصادرة عن المركز الثقافي العربي.