من المبكر جدا القول بأن مأساة أو فضيحة تمرد ميليشيات فاجنر الروسية يوم السبت الماضي قد انتهت ، وأصبحت كأن لم تكن في ذاكرة كل أطراف الصراع السياسي هناك ، ولن تكون لها عواقب وخيمة ،ستتجمع مثل قاعدة جبل الجليد ، ذلك أن مثل هذه السوابق تظل تنتج آثارها لسنوات عديدة ،خاصة وأن نهاية التمرد جاءت باتفاق سياسي ، ولم تأت بانتصار عسكري يرد الاعتبار للجيش الروسي النظامي ، الذي احتل المتمردون مركز قيادة عملياته الحربية في أوكرانيا ،وهو المركز القائم داخل الأراضي الروسية ،وذلك دون رصاصة واحدة من المهاجمين ،ولا من المدافعين ، بل إن أولئك المتمردون قطعوا نصف الطريق نحو موسكو تقريبا ، بلا أية معارضة لا عسكرية ولا مدنية ، وفرضت علي الحكومة اعلان الطوارئ ، وتعطيل النقل البري والنهري في عدة مدن روسية كبيرة .
كما أن الاتفاق السياسي الذي انهي التمرد ، لم يأت من حيث الشكل استسلاما مباشرا من جانب الميليشيا وقائدها يفيجيني بريغوجين لإنذارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، دون قيد أوشرط ، كما كان يجب أن يحدث لو أن هذه هزيمة متمردين أمام سلطة راسخة الشرعية وتامة القوة ، ولكنه جري -كما نعلم – بوساطة من رئيس روسيا البيضاء ،وكأنه اتفاق بين
دولتين ذواتي سيادة ،إن لم يكونا علي قدم المساواة ، فضلا عن إعفاء المتمردين وقائدهم من المحاكمة والعقاب والملاحقة ، ولا يحسِّن من هذه الصورة المهينة أن الاتفاق سُوِّق محليا علي أنه حقن للدماء ،وهو كذلك بالفعل ، ولا كون رئيس روسيا البيضاء حليف وثيق لبوتين ، فهيبة سيد الكرملين في نظر مواطنيه ومعجبيه في الخارج قد أصيبت بضرر لايمكن إصلاحه ،إلا بانتصار ساحق مدو في أوكرانيا ، وهذا أمر أصبح في حكم المستحيل .
ثم إن هذه الضربة القاسية لهيبة سيد الكرملين جاءت أيضا علي خلفية من سلسلة من الضربات المتتالية لمكانة الديكتاتور الروسي في الحرب التي بدأها هو نفسه علي أوكرانيا ،من اندحار حملته الاستهلالية للاستيلاء علي كييف ، واسقاط النظام الأوكراني ، ثم طرد القوات الروسية من عدة مدن اوكرانية في الصيف الماضي ، وسط سلسلة من الفضائح العملياتية ،مثل نقص الطعام والذخيرة والخدمات الطبية ومعدات الإيواء لدي القوات المقاتلة علي معظم الجبهات ،مما استلزم تغيير القيادات العيا أكثر من مرة ، كل ذلك مضافا إليه طول أمد الحرب بأكثر كثيرا جدا مما قدر ووعد بوتين وجنرالاته في البداية ، مما يعكس فشلا أو خللا مخابراتيا واستراتيجيا هائلا في أجهزة ومؤسسات وكوادر الامن القومي الروسي .
الأهم من كل ذلك -من وجهة نظري – أن مأساة أو فضيحة تمرد ميليشيات فاجنر ، ومآسي أو فضائح إدارة الحرب في أوكرانيا هي انعكاس طبيعي ومتكرر في التاريخ لعلاقة الديكتاتور بجيشه ، وهي العلاقة المحكومة دائما بالقلق والتوجس والشك ، ومن ثم بأولوية تأمين ولاء الجيش سياسيا للديكتاتور ، مع اختلاف في وسائل هذا ضمان ذلك الولاء من حالة إلي أخري ومن حقبة الي غيرها .
هذا أيضا من طبيعة الأمور ، ذلك أن الديكتاتور من النموذج البوتيني أي السلطوي المؤبد يعرف أنه يستند إلي مبدأ أن السلطة لمن غلب ،بغض النظر عن شكليات الدستور والانتخابات والبرلمانات ، وأن الغلبة تتحقق بالجيوش ، ومؤسسات القمع ،ومن الطبيعي أنه يخشي الطامحين والطامعين والمستائين ، الذين يؤمنون بالمبدأ نفسه ، وقد يتحركون طبقا له ، فيكرس اهتمامه الأول لدرء هذه المخاطر بأي ثمن ، ولو أدي هذا الثمن بعد حين إلي اضعاف الجيش نفسه .
في حالة بوتين كان من وسائل تأمين الولاء إذكاء الروح الوطنية الواعدة بحلم أو وهم استعادة المجد الامبراطوري ، وانهاء نظام القطبية الأمريكية الأحادية ، غير أن هذا ربما لايكفي ، فلتكن هناك شبكة فساد عنكبوتية ، و خلخلة منتظمة لصفوف كبار القادة ، و لايكفي هذا أيضا بدوره فلتكن هناك قوة عسكرية موازية وموازنة للمؤسسة العسكرية الرسمية ، تستطيع التصدي لأي تحرك من الجيش الرسمي ضد الرئيس ، بشرط أن تكون مرتبطة بشخص الرئيس نفسه ، وهكذا تخلقت ميليشيات فاجنر بقيادة خريج السجون ،بائع سندوتشات المقانق ،الذي تحول الي منظم الحفلات الرئاسية ،ومتعهد توريد الطعام للكرملين ،وكثير من مؤسسات الدولة.
ولأن النجاح يغري بالنجاح وفي ظروف دولية شديدة الاضطراب ،ثبت أن هذه المليشيات يمكن أن تخدم النفوذ الخارجي الروسي في أنحاء العالم ، بنظام العقود الخاصة ،دون حاجة أو اضطرار الي ارسال قوات نظامية ، تستثير مواجهات لاداعي لها مع الولايات المتحدة وحلفائها ،
بدأ التناقض يظهر ثم يتسع ويتصاعد ، مع نجاح فاجنر في المهام الموكولة اليها في الجبهة الأوكرانية ، واخفاق كثير من وحدات الجيش النظامي، للأسباب المذكورة توا ، والمتوسطة من أولوية تأمين الولاء علي الكفاءة والمهنية ، فخشي القادة الميدانيون وبقية القيادات العليا في الجيش سقوط سمعتهم ، بمن فيهم وزير الدفاع ، ورئيس الأركان ، وكان لابد من تحجيم تلك الميلشيات بمنع الذخيرة والوقود وأنواع أخري من العتاد اولا ، وهو ما شكا منه علنا وبوقاحة سوقية بريغوجين قائد فاجنر عشرات المرات ،لتتسع الهوة أكثر وأكثر ، و تصبح حديث المواطن الروسي العادي .
في هذه اللحظة من المنطقي أن نفترض أن بوتين نفسه خشي من تحول بريغوجين الي بطل شعبي علي حساب صورته المهزوزة ، وهيبته المجروحة بوصفه القيصر الجديد الذي سيعيد لروسيا مجدها الضائع ، فانتقلت المواجهة بين الجيش النظامي وبين الميليشيا الموازية ،من طور منع الذخيرة وسائر الإمدادات الي طور الحرب الحقيقية ، فشنت الغارات علي عناصر فاجنر في الجبهة الأوكرانيةبالمدفعية الثقيلة و الطائرات ، الخ ، ومن المنطقي كذلك أن هذا لم يكن ليحدث دون موافقة بوتين نفسه ، و هكذا اندلع تمرد السبت الماضي ،والذي قلنا في البداية إنه من المبكر جدا القول بأنه أصبح كأن لم يكن في ذاكرة المواطن والضابط الروسيين ، وأنه ألحق ضررا كبيرا مؤكدا -باندلاعه وبالطريقة التي انتهي بها – بهيبة بوتين وجنرالاته ،الذي يحملون رئيسهم -قطعا -مسئولية تخليق هذا الجيش الموازي ،ولو بينهم وبين أنفسهم .
قلنا أيضا إن التاريخ حافل بأمثلة من العلاقة الخطرة بين الديكتاتور وبين جيشه ، ففي القرن العشرين مثلا كان تمرد البحرية بسبب سوء ادارة الحرب هو بداية هزيمة المانيا وسقوط القيصر في نهاية الحرب الأولي ،وكان ضباط تركيا الفتاة الديكتاتوريين هم من أقحموا الدولة العثمانية في تلك الحرب لتمني بهزيمة فاضحة وتحتفي من الوجود ، بل إن سقوط القيصرية الروسية نفسها ترتب علي تراكم مساوئ ديكتاتورية قيصرية آلي رومانوف وسوء إدارة القيصر للحرب ، ما أدي إلي مجاعة قاسية للطحالب المقاتلة علي الجبهة ، وسط مجاعة وطنية شاملة ، وبالطبع لاينسي أحد الكوارث التي جلبها الحكام الديكتاتوريون في منطقتنا علي جيوشهم أولا وعلي بلادهم والقائمة طويلة من حافظ الأسد الذي جعل الجيش السوري طائفيا وفاسدا بالكامل إلي صدام حسين الذي شغل الجيش العراقي بالحروب والمغامرات لأكثر من عشرين سنة متصلة ، وعمر البشير الذي فرض إيديولوجيته علي الجيش ، ثم خلق له ميليشيا الردع السريع كقوة موازية وموازنة ، وبالطبع لايخرج عن هذا النمط علي عبدالله صالح في اليمن ، وكذلك جنرالات الجزائر ، بل إن جمال عبد الناصر بجلالة قدره فرض صديقه غير المؤهل فنيا وغير الكفء مهنيا عبد الحكيم عامر علي رأس جيشه لا لشي الا لتأمين سلطته ..
علي طريقة مذيعي الربط في التليفزيون ومحطات الراديو أقول نكتفي بهذا القدر ، وعلي الجميع مراعاة فروق التوقيت ، ويبقي الدرس أن الرضا الشعبي العام والتداول السلمي للسلطة يؤمنان الجيوش ،كما يؤمنان الشعوب ويحميان الأوطان ، والله المستعان .