النخبة المصرية الحديثة ترفع رأسها في وجه الحاكم، إذا توفر شرطان: الشرط الأول، أن يكون الحاكم قد دخل طور الضعف، الشرط الثاني، أن توجد قوى داخل النظام أو خارجه أو قوى أجنبية توفر الحماية للمعارضين، بدون ضعف الحاكم، وبدون الحماية من داخل الدولة أو من خارجها، يندر جداً أن تجد في النخبة المصرية من يرفع رأسه، أو يجرب صوته في كلمة حق جريئة أو كلمة نقد أمينة أو نصيحة صريحة، نادرون جداً من يفعلوا ذلك، وفي الغالب، يكون جهرهم بالحق أقرب ما يكون إلى الانتحار. وهذا الطبع في النخبة المصرية يفسر لك عدة أسئلة مهمة: لماذا كان الخضوع المبكر من النخبة لحكم نابليون بونابرت؟ ثم لماذا بدأت في التمرد والاحتجاج والثورة بعد دخول الإنجليز والعثمانيين على الخط وتحريضهم للشعب ضد نابليون ؟ ثم هذا الطبع يفسر لك، لماذا قويت المعارضة في فترة ضعف الحكم العثماني وضعف المماليك بعد رحيل الحملة الفرنسية وحتى تنصيب محمد علي باشا؟ ثم لماذا سكتت هذه المعارضة بعد أن قويت قبضة الباشا؟. ثم يفسر لك، لماذا ظلت هذه النخبة في خضوع وامتثال للباشا وذريته من بعده حتى لحظة ضعف فيها حكم الخديو إسماعيل؛ حيث بسط الإنجليز والفرنسيون حمايتهم على من يبدي رغبة في معارضة الخديو، ثم هذا الطبع من النخبة المصرية يفسر لك، لماذا زادت المعارضة ضد الملك فاروق بعد عام 1942م؟ حيث أهانه الإنجليز واستهانوا به وحطوا من قدره حتى تجرأ عليه الجميع ، ثم هذا الطبع من النخبة يفسر لك، لماذا زادت المعارضة في سنوات الرئيس مبارك الأخيرة؟ حيث ضعفت قبضته على الحكم، وحيث توفرت الحماية الأجنبية، كما الحماية من داخل النظام لكثير من أصوات المعارضة، سواء المحترفة أو المرتزقة أو من دخلوا سوق الاحتجاج عفواً بريئاً، وقصداً طاهراً وغرضاً شريفاً من عوام المصريين، ثم هذا الطبع من النخبة المصرية يفسر لك، لماذا جربت أن ترفع رأسها وأن تجرب صوتها مع الجمهورية الجديدة 2014م وما بعدها؟  ثم لم تلبث هذه النخبة – إلا فيما ندر – أن رأت نظام الحكم الجديد في يده اليمنى قبضة من حديد، ثم في يده اليسرى قبضة من نار، ثم نظرت حولها فلم تجد حماية لا من داخل النظام ولا من خارجه، فعادت النخبة المصرية إلى طبعها الأصيل، تتكيف وتتعايش وتعيش تحت قبضة الجمهورية الجديدة دون اعتراض جاد ودون إعلان موقف صريح، ودون أن تتسبب في أي قدر من الإزعاج لمسار الجمهورية الجديدة .

السؤال الآن: لماذا النخبة المصرية هكذا، لماذا هذا التناقض؟ لماذا كانت في السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس مبارك تملأ ما بين الأرض والسماء معارضة لا أول لها ولا آخر؟ فالكل كان يعارض، ثم لماذا هذه النخبة ذاتها  انقلبت إلى النقيض في السنوات العشر التالية لها مباشرة؟ أي في حكم الرئيس السيسي، لماذا زادت المعارضة إلى حد الثورة ؟ ثم لماذا سكتت إلى حد الخنوع، دون فارق زمني كبير بين روح الثورة وروح الخضوع ؟

هذه الأسئلة، وغيرها نحاول الاقتراب منها في هذه المقالة، حيث نقف على منابت النخبة ومنابعها الأولى، كيف تكونت؟ وكيف تشكلت؟ – أول مرة وبادئ الأمر – في النصف الأول من القرن التاسع عشر .

بعد عشر سنوات من الآن، وبالتحديد في عام 2034م، سوف يحتفل من يكون على قيد الحياة من المصريين والعرب، وربما من الفرنسيين كذلك، سوف يحتفلون بمرور مائتي عام بالتمام والكمال على صدور الكتاب الأول، من باكورة نتاج طلاب البعثات المصرية إلى فرنسا، هو كتاب ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز أو الديوان النفيس بإيوان باريس “، وقد صدرت طبعته الأولى عام 1834م ، أي بعد ثلاثة أعوام من عودة الشيخ رفاعة الطهطاوي من بعثته التعليمية – التي هي أولى البعثات الدراسية المصرية إلى أوروبا، وقد مكث في البعثة ست سنوات من 1826 حتى 1831م، قضى منها ثلاث سنوات في تعلم اللغة، والثلاث الباقية في تلقي بعض العلوم، ثم صدرت الطبعة الثانية من الكتاب عام 1849م، ثم الطبعة الثالثة عام 1905م، ولسنا نعرف كم عدد النسخ التي طُبعت في كل مرة، كما لا نعلم شيئاً عن عدد من يعرفون القراءة والكتابة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما لا نعلم قاعدة المثقفين – في ذاك الوقت – الذين يمكنهم الإقبال على مثل هذا الكتاب وقراءته، ليس عندنا معلومات عن جمهور القراء في ذلك الوقت، علماً أن تعليم القراءة والكتابة، كان حصراً على الكتاتيب والجوامع والأزهر الشريف وبيوت الموسرين وأهل الثراء. أضف إلى ذلك ما كتبه الأستاذ الإمام محمد عبده في غرة ربيع الأول عام 1320هجرية – 7 من يونيو 1902م، في شهادته على عصر محمد علي باشا – وقد وردت في ص 833، وما بعدها من المجلد الأول من مجموعة الأعمال الكاملة وفيها يقول: ” أرسل ، يقصد محمد علي باشا، جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا؛ ليتعلموا فيها، فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في  البلاد ما استتفادوا؟ كلا، ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد، وليس لها إرادة فيما تصنع “. ثم يقول الأستاذ الإمام “: وُجد كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى، في التاريخ والفلسفة والأدب، ولكن هذه الكتب أُودعت المخازن من يوم طُبعت ، وأُغلقت عليها الأبواب من أواخر عهد إسماعيل باشا، فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها، وتخفيف ثقلها عنها، فنشرتها بين الناس، فتناول منها من تناول “. ثم يقول الأستاذ الإمام: ” وهذا يدلنا على أنها تُرجمت برغبة بعض الرؤساء من الأوروبيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد، لكنهم لم ينجحوا، لأن حكومة محمد علي باشا لم تُوجد في البلاد قراء، ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون “. ثم يقول: ” كانوا، يقصد إدارة محمد علي باشا، يتخطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى، كما يتخطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يُحبب القوم في العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس؟ لا ، بل كان يخوفهم من المدرسة كما كان يخوفهم من الجيش “. انتهى الاقتباس من الأستاذ الإمام محمد عبده، وهو يعزز السؤال المنطقي: لمن كان الطهطاوي يكتب؟ هل يكتب للباشا الذي لم يكن يقرأ ولا يكتب؟ والذي لما قرر أن يتعلم القراءة والكتابة اختار اللغة التركية لغة الإمبراطورية وفضلها على اللغة العربية لغة المستعمرة التي استعمرها هو وذريته مائة وخمسين عاماً، ولم يتحدث العربية منهم إلا آخرهم الملك فاروق الأول، أم كان الطهطاوي يكتب لنفسه ومن مثله من رجال النخبة من التكنوقراط والبيروقراط في إدارة الباشا؟ أم أن الكتاب خرج من المطابع ثم استقر في المخازن حتى أواخر عهد إسماعيل؟. كل تلك الأسئلة لا جواب عليها. لكن تظل النقاط المهمة  التي أشار إليها الأستاذ الإمام هي: أولاً: أن ترجمة وطباعة الكتب تمت برغبات الحكومات الأوروبية وليس برغبة الباشا . وثانياً: أن الباشا استجاب وترجم وطبع لإرضاء الأوروبيين. وثالثا: أن الباشا حجب الكتب عن الناس وأودعها المخازن. ورابعاً: أن مصر في ذلك الوقت لم يكن فيها جمهور للقراءة العامة. خامساً وأخيراً:  حين قال، إن طلاب البعثات المصريين إلى أوروبا لم تكن لهم حرية نشر ما تعلموه بين المصريين، كان الهدف من تعليمهم هناك؛ خدمة مشروع الباشا، وليس التنوير المباشر لجماهير المصريين  .

السؤال الأكبر: إذا كنا سوف نحتفل بعد عشر سنوات بمرور مائتي عام على صدور كتاب ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز أو الديوان النفيس بإيوان باريس “، فمن المنطقي أن نتساءل: ماذا حصدنا على أرض الواقع من كل ما نقلناه عن أوروبا؟ لماذا نحن هنا في وضع أقرب ما يكون إلى الاضمحلال العام تتناوب علينا ديكتاتوريات اللاحقة منها أسوأ من السابقة؟  لماذا لم ننجح في خلق مجتمعات متحررة من حتميات الديكتاتورية؟ ثم لماذا أصبحت الديكتاتورية ضرورة وجودية بدونها تتفكك مجتمعاتنا؟ لماذا مجتمعاتنا غير قادرة على إنتاج حالة من الرشد الديمقراطي؛ بحيث تجمع بين الحرية والانضباط وبين التعدد والتماسك وبين التغيير والاستقرار وبين الاختلاف والوحدة؟ لماذا مجتمعاتنا تؤول بعد مائتي عام من النقل عن أوروبا لهذه الحالة المزمنة من العقم الشامل؛ بحيث باتت على يقين أن كل تغيير إنما يكون للأسوا ، فباتت ترضى بالواقع المذل المهين وتتفادى المبادرة والإقدام على التغيير؟.

هذا يقودنا لسؤال هذا المقال: كيف وُلدت النخبة الحديثة؟ وماذا كان الغرض منها؟ وكيف كانت تعمل في الواقع الذي وجدت نفسها فيه؟.

هنا يلزمنا البدء من النقطة الصحيحة، من رفاعة الطهطاوي ذاته، كأبٍ شرعي للنخب الحديثة في مصر، أي النخبة التي محور تفكيرها يدور حول النقل عن الغرب بقصد اللحاق به.

ففي الباب الرابع من ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز ” يتحدث عن فريق المشرفين على البعثة، وذلك تحت عنوان ” في ذكر رؤساء هذه السفرة ” والسفرة يقصد بها البعثة الطلابية للدراسة في فرنسا، يقول ” قد بعث صاحب السعادة، أي محمد علي باشا، إلى بلاد فرنسا ثلاثة رؤساء من أكابر ديوانه السعيد، وهم بالترتيب: حضرة جناب عبدي أفندي المهردار، والثاني: حضرة مصطفى مختار أفندي، والثالث: حضرة الحاج حسن أفندي الإسكندراني، ثم بعد أن يتحدث عن مهام كل منهم في إدارة شؤون البعثة، يلتفت لمن هو أهم فيقول: ” ثم إن حضرة الأفندية الثلاثة، كان معهم في تدبير الدروس، وهو أحد علماء الإنستتيوت – يقصد المعهد العلمي الذي يدرسون فيه – ومن أكابرهم، والذي يتراءى في طبعه حُب حضرة صاحب السعادة وخدمته بنصح، ويُشاهد منه أنه يرغب في الاعتناء بمصالح مصر، وذلك من جهة نشر العلوم والمعارف فيها، بل وفي سائر البلاد الإفريقية، وشهرة معرف مسيو جومار، وحسن تدبيره يوقع في نفس الإنسان من أول وهلة تفضيل القلم على السيف، لأنه يدبر بقلمه ما لا  يدبر غيره بالسيف ألف مرة، ولا عجب فبالأقلام تُساسُ الأقاليم، وهمته في مصالح العلوم سريعة كثيرة التأليف والاشتغال، والغالب أن هذه الخصلة في سائر علماء الإفرنج، فإن مثل الكاتب كالدولاب إذا تعطل تكسر، وكالمفتاح الحديد إذا تُرك ركبه الصدأ، وجناب مسيو جومار يشتغل بالعلوم آناء الليل وأطراف النهار، وسيأتي ذكره عدة مرات، وسنذكر لك عدة مكاتيبه، يقصد كتاباته ومؤلفاته – التي وصلت بيدي إن شاء الله تعالى “. انتهى حديث الطهطاوي عن جومار، أي عن نقطة البداية الصحيحة في صناعة النخبة المصرية الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر .

– السؤال الآن: هل كان وجود جومار في البعثة مصادفة؟!

للجواب يلزمنا أن نعرف، من هو جومار ؟. وخير بداية من موسوعة وصف مصر التي كتبها المستشرقون الفرنسيون المرافقون لنابليون، أثناء غزوه لمصر والتي بدأت في الصدور عام 1818م، ففي هذه الموسوعة نقرأ بحثين ممهمين بقلم جومار، أولهما: عن القبائل العربية في مصر الوسطى، وقد ورد في المجلد الثاني من الطبعة العربية تحت عنوان ” العرب والعربان في مصر الوسطى ” مع إشارة من المترجم الأستاذ زهير الشايب، أن العنوان الأصلي للدراسة هو ” ملاحظات حول العرب في مصر الوسطى ” .والبحث يمتد على نحو خمسين صفحة من الطبعة العربية. ثم البحث الثاني، وهو عن ” مدينة القاهرة ” ويمتد على أربعمائة صفحة من المجلد العاشر من الطبعة العربية. والبحث مرجع مهم لمن يحب التعرف على القاهرة في خواتيم القرن الثامن عشر، كمدينة تعبر – بذاتها – عن ثقافة وحضارة .

– وفي مقدمة المجلد الثاني من الطبعة العربية يكتب المترجم:” إننا ولا شك نعرف الكثير عن جومار ، أو آدم – فرانسوا جومار ، مؤلف الدراسة عن عرب مصر الوسطى، وهو مهندس وجغرافي وأركيولوجي، وقد وُلد في فرساي عام 1777م ومات 1862م ، أي أنه قدم إلى مصر وعمره لما يتجاوز 21 عاماً، وعلى الرغم من ذلك، جاءت دراساته الكثيرة؛ لتشهد له بالدقة وسعة الأفق واتساع المعارف وسلامة الأسلوب، لذلك حل محل مونج  –  يقصد ج . مونج العالم الرياضي أول رئيس للمجمع العلمي الذي أنشأه بونابرت في القاهرة – فقد حل جومار في رئاسة المجمع بعدما رحل مونج مع نابليون، عندما غادر من مصر إلى فرنسا . وقد ساهم جومار بجهد كبير في نشر وصف مصر، وقد كانت له مكانة كبيرة عند كل من محمد علي باشا وسعيد باشا ، وأُنعم عليه بلقب بك، ولما اُعيد إنشاء المجمع العلمي المصري، أُسندت إليه رئاسته الفخرية عام 1861م، وكان معدوداً من بين كبار علماء الجغرافيا والآثار القديمة في فرنسا “. انتهى كلام المترجم الأستاذ زهير الشايب .

–  قبل خمسين عاماً، وبالتحديد في فبراير 1973م، نشر الدكتور محمد عمارة الأعمال الكاملة للشيخ رفاعة الطهطاوي، وفيها ورد ذكر آدم – فرانسوا جومار بقوله في ص 21 من المجلد الأول: ” كان المهندس الجغرافي الفرنسي جومار، الذي أشرف على نشر كتاب وصف مصر، الذي كان أحد علماء الحملة الفرنسية، كان يتحدث إلى أعضاء البعثة العلمية المصرية – وفيها رفاعة الطهطاوي – في باريس ، فيذكر المصريين بأمجادهم القومية والحضارية، ويدعو هذه النخبة إلى أن تجعل من حاضر مصر ومستقبلها الامتداد لذلك التراث العريق، فيقول: ” أمامكم مناهل العرفان فاغترفوا منها بكلتا يديكم، اقتبسوا من فرنسا نور العقل الذي رفع أوروبا على أجزاء الدنيا، وبذلك تردون إلى وطنكم منافع الشرائع والفنون التي ازدان بها عدة قرون في الأزمان الماضية، فمصر التي تنوبون عنها ستسترد بكم خواصها الأصلية، وفرنسا التي تعلمكم وتهذبكم تفي ما عليها من الدين الذي عليها للشرق كله ” .

ثم يعقب دكتور عمارة بالقول: ” نجحت البعثة العلمية التي صحبت جيش بونابرت في تنبيه، وتحريك الحس الوطني والشعور القومي ” ثم يقول “: تلك هي المهمة الحضارية التي نبهت إليها البعثة العلمية الفرنسية شعوب الشرق في مطلع القرن التاسع عشر “. ويرى دكتور عمارة، أن هذه الأفكار الفرنسية اختمرت في مصر أكثر من غيرها من بلدان الشرق لسببين: أولهما، أن مصر كانت أكثر تحضراً مما حولها من البلدان. والسبب الآخر، أن مصر قد اُتيح لها في ظل الدولة المدنية الحديثة التي بناها محمد علي باشا، أن تضع العديد من الآمال والأحلام التي راودت العقول – عند الاحتكاك مع الفرنسيين – موضع التطبيق، أو على الأقل تفتح المجال والطريق لهذا التطبيق”.

– السؤال الآن: هل تكوين النخبة الحديثة يبدأ من طموح الدولة الحديثة ومن محمد علي باشا ومن إرسال البعثات إلى فرنسا حيث الطهطاوي تلميذا وجومار أستاذاً ومشرفاً وملهماً وموجهاً ؟

هل نقطة البداية من هنا بالفعل، من الباشا بالفعل، من الدولة الحديثة بالفعل، من الطهطاوي بالفعل؟ أم للأمر جذور أبعد ، وآفاق أوسع، وأبعاد أخرى؟.

– في ص 99 من الجزء الثاني من كتاب ” تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر “، الصادر في عام 1929م ،  يتحدث المؤرخ عبدالرحمن الرافعي عن رسالة، بعث بها نابليون من فرنسا بعد أن غادر مصر إلى خليفته كليبر، الرسالة يصفها الرافعي، بأنها وثيقة على جانب عظيم من الأهمية، كتبها بإمعان وتفكير، وشرح فيها الخطة التي عهد إلى كليبر باتباعها، وهي رسالة أشبه بتقرير واف ” . ما يهمنا – بصدد تكوين النخبة الحديثة – هو الفقرة التالية : ”  وتعرض في رسالته إلى مشروعات استعمارية، ومسائل ثانوية لم يفته التفكير فيها في تلك الأوقات العصيبة، فأوصاه باعتقال خمسمائة أو ستمائة من المماليك، أو من رهائن العرب ومشايخ البلاد ( العمد )، وإرسالهم إلى فرنسا، ليبقوا بها سنةً أو سنتين، وغاية نابليون من ذلك على حد قوله في رسالته إلى كليبر  ” أن يروا عظمة الأمة الفرنسية، ويقتبسوا عاداتنا وأخلاقنا وأفكارنا ولغتنا ، ثم يعودوا إلى مصر ، فينشروا هذه المقتبسات بين مواطنيهم “. انتهى كلام بونابرت من كتاب الرافعي .

– هذه الرسالة ذاتها ، نشرها الصحفي والمؤرخ أحمد حافظ عوض ، في كتابه ” نابليون بونابرت في مصر ” الصادر عام 1925م ، بترجمة أكثر دقةً من ترجمة الرافعي ، ونص كلام بونابرت  إلى كليبر في ترجمة أحمد حافظ عوض كالتالي : ” ستظهر السفن الحربية الفرنسية ، بلا ريب ، في هذا الشتاء  أمام الاسكندرية أو البرلس أو دمياط ، يجب أن تبني بُرجاً في البرلس . اجتهد في جمع خمسمائة أو ستمائة شخص من المماليك ، حتى إذا لاحت السفن الفرنسية ، تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف ، وتسفرهم إلى فرنسا ، وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك ، فاستعض عنهم برهائن من العرب ، ومن مشايخ البلدان ، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين ، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة ، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا ، ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم ” . انتهى كلام نابليون إلى كليبر من كتاب أحمد حافظ عوض .

– هذا الكلام معناه، أن فكرة تكوين نخب مصرية حديثة مطلعة على ثقافة أوروبا، هي من أفكار نابليون، وهي سابقة على محمد علي باشا ودولته الحديثة، فكيف انتقلت الفكرة من نابليون إلى الباشا؟ كيف وصلت الفكرة إلى محمد علي باشا؟ الجواب نقرأه في ص 201، من كتاب كارولين جوتييه كورخان، ترجمة نانيس حسن عبد الوهاب، مراجعة وتقديم حسن عبد الوهاب، وعنوانه ” العلاقات المصرية الفرنسية في عهد محمد علي 1805 – 1949م “، تقول : ” تعود فكرة إرسال  شباب مصري للدراسة في باريس إلى عام 1812م، عندما طرح جومار، الملقب بالمصري، الفكرة على محمد علي باشا من خلال دروفيتي – دروفيتي كان من عينه نابليون بونابرت قنصلاً عاماً لفرنسا في مصر – ثم عادت الفكرة للظهور عام 1826م، عندما قام بوغوص بك – مسؤول الشؤون الخارجية في حكومة الباشا – بعمل بحث؛ لمعرفة أي من فرنسا أو إيطاليا هو الأصلح؛ لاستقبال بعثات الطلاب المصريين، وقد اختار الباشا فرنسا، رغم نصائح المحيطين به التي تميل إلى إيطاليا، ربما لحجة أدلى به دروفيتي القنصل العام الفرنسي، وهذه الحجة هي أن رؤية مسلم في باريس لا تثير نفور الفرنسيين، كما يمكن أن تثير النفور في المدن الإيطالية، كما أن حروب الباشا في اليونان يمكنها أن تتسبب في مصادمات غير مرغوبة في إيطاليا؛ جيث تسود مشاعر من التعاطف مع اليونان ومشاعر من كراهية مصر، وذهبت البعثة – بمن فيها رفاعة الطهطاوي – للدراسة في فرنسا عام 1826م، بعد عشرين عاماً من حكم الباشا لمصر، وبعد 26 عاماً من طلب نابليون من كليبر تنفيذها بالقوة، وبعد 14 عاماً من طرح جومار لها على محمد علي باشا، وبعد نصيحة القنصل الفرنسي أن تكون وجهة البعثات هي فرنسا، وليست إيطاليا  .

– بدأت الفكرة من نابليون، وبعد ربع قرن نفذها الباشا، بتوصية من المستشرق جومار الرئيس الثاني للمجمع العلمي، الذي أسسه نابليون، وبنصيحة من دروفيتي القنصل العام الفرنسي، ومن هنا كانت البعثات، ومن هنا بدأ تكوين النخب الحديثة، ومن هنا كان رفاعة الطهطاوي، ومن هنا كان كتابه ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز أو الديوان النفيس في إيوان باريس ” ، الذي صدر أول مرة عام 1834م، ونحتفل بعد عشر سنوات بمرور قرنين على صدوره، ونناقش حصاد النخب المصرية الحديثة ماذا قدمت في مائتي عام ؟

والسؤال مستمر: من صنع النخبة الحديثة ؟

ثم السؤال الأهم: ماذا صنعت النخبة الحديثة ؟

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.