لعلنا لا نضيف جديدًا، كما أننا لا نقسو على أنفسنا، إذا قلنا إن النقد العربي – منذ بداية القرن العشرين وإلى الآن – يعيش حالة من التبعية للنقد (الأورو-أمريكي)، وعبر هذه التبعية الثقيلة تَشَكَّل مساره، وتحددت ملامحه، ولا يعني هذا – بالتأكيد – إغفال جهد حقيقي لنقاد كبار حاولوا تقديم إضافات حقيقة، ولكنها لم تؤثر في المسار العام، وظل التيار الأساسي للنقد العربي تابعًا للنقد الغربي وتحولاته، وباتت كل محاولة للخروج عنه موصوفة بالتخلف والرجعية.. بما يعني أن التبعية لم تعد مجرد إجراء مؤقت وإنما أصبحت – للأسف الشديد- قيمة تقدمية وما سواها “قيمة” رجعية..!!
بدا ذلك أوائل القرن الماضي مع “المنهج التاريخي”، ثم مع النقود المتأثرة بالأفكار الرومانتيكية، وانتهاء بمقولات المنهج التفكيكي والنقد الثقافي مرورا بالمنهج: الواقعي، والسوسيولوجي، والانطباعي، والأسطوري، والأسلوبي، والبنيوي، والسيميائي …إلخ.
ومن الإنصاف أن نقول، إن أحدًا من النقاد المعتبرين لم يعترض على ضرورة انفتاح النقد العربي على غيره، في حين كانت هناك اعتراضات قوية على شكل هذا الانفتاح ونواتجه، فلم يك مقبولًا أن يظلَّ النقد العربي طيلة قرن كامل وإلى الآن، مرتهنًا بما ينجزه النقد الغربي! وإذا أضفنا إلى ذلك تعثر خطى (تأصيل) النظريات والمناهج الوافدة في بنية الثقافة العربية، أدركنا فداحة الموقف وعمق الأزمة.
وفي هذا السياق، يمكننا تقديم أربع مَلحوظات حددت مسار الخطاب النقدي في تفاعله مع المنهاجية الغربية من ناحية، وفي علاقته بالنص الإبداعي من ناحية أخرى، وذلك على النحو التالي:
الأولى: لقد غلب على عدد غير قليلٍ من النقود تعاملها مع المنهج الوافد، باعتباره مجرد أداة، يمكن استخدامها ونقلها من ثقافة إلى أخرى دونما حرج، تمامًا كما تُنتقل الصناعات والأداوت المادية، وهذا – إن جاز في الصناعات- فإنه لا يجوز مع الدراسات الإنسانية؛ فالمنهج – مهما كان حظه من الوصفية والعلمية والانضباط – يحمل خصائص ثقافته التي شَكَّلته وأنبتته. المنهج بالضرورة ينبثق من ثقافته، كما أنه – بداهة – غير منفصل عن موضوعه أو إشكالاته التي يقاربها. والمواضيعُ بطبيعتها مختلفةٌ باختلاف البشر والثقافات، ومتفاوتة تفاوت أسئلتهم ووجهات نظرهم ومعتقداتهم.
الثانية: لقد تعامل النقد العربي مع المناهج الغربية بوصفها معطى جاهزًا، يمكن من خلاله مقاربة نصوص عربية – قديمة وحديثة – وفقا لمقررات “جاكبسون” و”بارت” و”دريدا” وغيرهم، دون أدنى اعتبار لخصوصية النص: لغته، موضوعه، وجهة نظره، غاياته ومقاصده، وطبيعة القارئ وعلاقته بالإشكال المطروح وسياق عملية الإبداع والتلقي بشكل عام.
الثالثة: لقد أدَّتْ غربة المنهج إلى غربة النقود وغرابتها؛ فلم يعد النقد “يضيء” النص أمام القارئ، بل أصبح النقد “إبداعا موازيا” للنص..! لم يعد هناك نص أول ونص ثانٍ، بل نص “إبداعي” في موازاة نص “إبداعي” آخر..!! فتراجعت– في كثير من الأحيان– وظيفة النقد التاريخية، باعتباره كلامًا على كلام، ولا غاية له غير إضاءة الإبداع وتقديمه لجمهور أوسع من القرّاء… وقد أدى هذا فيما يرى د. شكري عياد إلى، أن “قرأ الناس نقدا لا يشبه ما عرفوه، أو ما ظنوا أنهم عرفوه، فاختلطت الأمور عليهم، وساء ظنهم بالأدب الجاد، فنزلوا عنه راضين إلى ثُلَّة من المثقفين”.
وعليه، فقد بات النقد ممارسة نخبوية منعزلة عن سياقها الاجتماعي، ولم يعد لها تأثير ملحوظ في الوعي الجمعي الجمالي والثقافي.
الرابعة: لقد حاول النقد العربي طيلة القرن الماضي تأصيل النظريات والمناهج الغربية في تراثنا، وهذا في حد ذاته، عمل مشروع، بل ضروري، والخلاف دائمًا هو مع الكيفية التي حدث بها هذا التأصيل؛ فقد وقعت كتابات كثيرة في فخ الانتقاء؛ فاختزلت تراثنا (بغناه وتنوع حقوله وامتداده المعرفي لقرون متصلة) في عدد محدود من المدونات، ثم اختزلت المدونات نفسها في عدد محدود أيضًا من الفقرات تسلخها من سياقها سلخًا؛ كي تُدلل على هذه المقولة الغربية أو تلك..
وعليه، فقد بات التراث لوحة إسقاط هائلة لمقولات البنيويين والأسلوبيين والسيميولوجيين… والأخطر هنا: أننا لم نعرف في هذه الكتابات التراث، ولم نعرف المنهج الغربي.
الوعي الجديد بالتراث
لنسلم بأن قدرتنا على تقديم إنجاز نقدي حقيقي مرتهنة بتجلية علاقته بالتراث، ولعلَّ وعيًا جديدًا وشاملا بالتراث يمكنه أن يحدد إسهامنا في خارطة النقد العالمي؛ فرجوعنا إلى التراث يجب أن يترفع عن حالة “الحنين” إلى نقطة مزدهرة مقابل واقع متراجع.. الرجوع إلى التراث حق للواقع المعيش، وحق لهذا التراث الحيّ الممتد في التاريخ وفي الوعي.. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا، إن نظرتنا إلى التراث تختزل أزمتنا التحديثية بكافة أشكالها وعلى مختلف مستوياتها؛ فمنذ أن رفع الرواد شعار “النهضة” إلى الآن وموقفنا من التراث موضع أخذٍ ورد، ومثار خلاف وجدال، يتكشف لك – إذا تفحصته- عن حركة لا تبرح مكانها، فالمحدثون يعيدون – تقريبًا – طرح الأسئلة ذاتها التي طرحها الرُّواد، وينقسمون حولها انقسام أسلافهم.
ورغم أهمية قضية التراث، وإيمان الجميع بضرورة تقديم قراءات جادة له، إلا أننا قد تعاملنا معها بانفعال بالغ، فلم نتمكن من بلورة موقف متكامل يلقى القبول ويتحدد به موقع التراث من “النهضة”، ولذا فلا عجب أن نجد الحِدّة العاطفية بديلا للعقلانية المتأنية، ونجد الرؤى المتناقضة بديلا للرؤى الفاحصة؛ فمن المحدثين من يفرُّ إلى التراث، ومنهم من يفرُّ إليه؛ يُرْهِن فريق منهم تقدمنا بتجاوزه والقطيعة مع ماض انقضى، وما من داعٍ لاستحضار إشكالاته التي يجب أن تمضي هي الأخرى بمضي عصرها وانقضاء زمنها، وفي المقابل يؤمن البعض بأن في التراث كفايتهم، فهو حصنهم المنيع الذي يعصمهم من تيه كبير، فلماذا يديرون ظهرهم للتراث ؟ والتراث متشكل بهم وهم متشكلون به…. ولم يفرون؟ وفي التراث ما آتى به (الآخر)، وفيه أيضا ما سوف يأتي! فلا توجد نظرية وافدة – وفقا لهذا المعتقد – لم يسبق إليها التراث، أو لم يضع بذرتها الأولى!
وفي تقديري، أن كلا الموقفين- على تناقضهما الظاهر- موقف واحد؛ فكلاهما تقليديّ اتباعيّ يرى الكفاية فيما أنجزه الآخرون، أو فيما أنجزناه في فترة سابقة، كلاهما يميل إلى الحلول السهلة أو الإجابات الجاهزة، ويهرب من استحقاقات الحاضر وإشكالياته الجديدة التي لا يعرفها هذا النموذج ولا ذاك.
وفي هذا الإطار من الإفراط والتفريط قُدِّمت قراءات كثيرة، ورُفِعت شعارات عدة، كان لها أثرها البالغ في ترسيخ هذا التقاطب الفكري حول التراث، وهذه حال تفرض علينا ضرورة مراجعة ما أُنْجز منهجيًّا ومعرفيًّا، والبحث عن سبيل آخر يتجنب مذمة الإفراط والتفريط معًا، فحاجتنا إلى نقد قراءتنا للتراث لا تقل عن حاجتنا لقراءة التراث نفسه، وأنَّ الخروج من الذات إلى التراث أو إلى الوافد الجديد أمر يجافي اشتراطات المنطق فضلا عن اشتراطات الذات الثقافية القارئة.
لقد تنامي هذا الحراك نحو التراث – فيما يرى كثير من الدارسين – بعد هزيمة يونيو 1967م على وجه الخصوص؛ حيث تواترت عناوين المؤلفات التي تشير إلى التراث بشكل ملحوظ عقب هذا التاريخ، فقد كان على كثير من هذه القراءات – امتثالا للظرف ورهاناته- إنجاز أهداف عِدَّة على الصعيدين الذاتي والمعرفي. وهذا بحد ذاته يجعلها موضع مساءلة ومثار خلاف.
ولا يشك أحد، أننا في مسيس الحاجة إلى قراءة التراث، ولكن هذا مشروط بداهة بتجاوز الظرف الذي يلحقنا بالآخر، أو يرهن قراءتنا دائما بما ينتجه، كما أننا في مسيس الحاجة إلى دعم هذا الحراك بجهد نقدي موازٍ، تتكشف فيه وبه الأسس المعرفية المؤسسة لهذه القراءات، لكي تتبين فيه وبه قدرتها (أي تلك الأسس) على اكتناه مقروئها؛ لنختبر قدرتها على الإضافة وإسهامها في الواقع الثقافي بتشابكه وتعقده، بما يمهد أو يفتح السبيل نحو وعي نقدي عربي يتجاوز بنا ونتجاوز به حالة الاستهلاك المستمر إلى الإسهام في الإنتاج المعرفي.